توديع رمضان : اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل لخلقه بدايةَ نشوءٍ وظهور في هذا الكون، ونهايةَ وجود وحياة فيه. وبالمقابل، فقد اقتضت حكمته كذلك أن ينفرد سبحانه بأوليته بحيث لم يسبقه شيء، كما انفرد بآخريته فلن يعقبه شيء، قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحشر،1-3]. ومن غرائب تدبر كتاب الله تعالى، أن الله أعقب خلقه للسماوات والأرض، وملكه للكون، ببيان صفتي الأولية والآخرية، للتأكيد على أن مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى وإلهيته تنزيهُهُ عن مشابهته لمخلوقاته بحياته الكاملة، لبعدها عن صفات النقص والعيب، كصفتي الحدوث والفناء.

وإذا كان الحدوث والفناء صفتان منفيتان – شرعا وعقلا- عن الله سبحانه وأسمائه وصفاته، فإنهما -بالمقابل- سُنَّتان من سنن الله المضطردة في خلقه، لأنها لا تختلف ولا تضطرب بحال من الأحوال. ولذلك دعا الله سبحانه إلى التفكر في سننه التي مضت في خلقه ومخلوقاته، لاستخلاص نتيجة مفادها انضباط هذه السنن وعدم اضطرابها، فقال تعالى: { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } [فاطر،43].

وعليه، ولما لم يكن شهر رمضان خارجا عن سنن الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس، بأن جعل الله له نهاية، يتم من خلالها مفارقة العباد لهذا الشهر، فإن مما يساعد المسلم على حسن توديعه لرمضان أمور؛ منها:

حمد الله تعالى وشكره على أن بلغنا شهر رمضان هذا، خاصة وأن أفرادا كثيرين ممن صاموا وقاموا رمضان الماضي، قد حالت بينهم وبين عبادة هذا الشهر الحالي مصيبة الموت وظلمات القبر، نسأل الله لنا ولهم المغفرة والتواب. والنصوص الدالة على شكر الله تعالى كثيرة، منها قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم،7].

وقريب من ذلك، حمد الله تعالى وشكره على أن بلغنا شهر رمضان هذا، ونحن في أمن، وصحة، وعافية. وهذه النعم (أي: الأمن، والصحة، والعافية) شروط أساسية لحسن صيام رمضان وجودة قيامه، وإلا فإن عددا من المسلمين حُرموا هذه النعم كليا أو جزئيا (بسبب الاضطرابات السياسية، أو الأمراض الشديدة، أو الفتن الظاهرة أو الباطنة)، مما أثر على عباداتهم في هذا الشهر الكريم. ولذلك، فليس غريبا أن يمتن ربنا سبحانه على قريش قبل بعثة النبي عليه السلام بنعمتي الأمن من الخوف والإطعام من الجوع، فقال الله تعالى: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [سورة قريش].

وغير بعيد عما سبق، حمد الله وشكره على أن وفقنا لصيام رمضان وقيامه، واغتنام أوقاته بذكر الله، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، والاستغفار، والصلاة على النبي ، والدعاء، والبكاء بين يدي الله سبحانه، والتلذذ بالمكوث في المسجد، ناهيك عن حضور مجالس العلم والذكر والوعظ والإرشاد. على أن استغلال العبد أوقات رمضان فيما مضى من العبادات، قد يصاحبه نسيانه فضل الله عليه ورحمته، بأن وفَّقه إليها، في وقت حال بينها وبين كثير من الناس أحوال متنوعة، فانشغلوا في هذا الشهر الكريم بكل شيء غير عبادة الله سبحانه، حيث جعلوه ظرفا لأعظم الكبائر كالسب واللعن والشتم وظلم الخلق وكسب المال من الحرام، ناهيك عن الغيبة والنميمة والنظر في المحرمات، بالإضافة إلى فضول اللهو والمباحات، والانشغال بها عن اغتنام أوقات هذا الشهر في الطاعات والقربات. وإلى بيان فضل الله على المسلم الطائع لربه، يشير سبحانه إلى أن طاعة العبد ربه إنما حصلت بمعصيته للشيطان. ثم إن طاعة العبد لربه التي وقعت في مقابل معصية الشيطان، باتت تشكل عنوان تزكية النفس الحاصلة تفضلا من الله وإحسانا منه للعبد ورحمة منه وتوفيقا، فقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور،21].

الإكثار من دعاء الله والالتجاء إليه بأن يتقبل منا سائر الطاعات والقربات، ليقين المسلم بأن ما قدم من عمل يظل غير كافٍ ما لم يتغمد الله برحمته وقبوله. ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى بعد الفراغ من الحج: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [البقرة،200]. وفي أمر الله عباده بذكره بعد إكمال مناسك الحج، يقول الرازي ساردا أقوال المفسرين لهذه الآية: (ومنهم من قال: بل المراد منه أن الفراغ من الحج يوجب الإقبال على الدعاء، والاستغفار، وذلك لأن من تحمل مفارقة الأهل والوطن وإنفاق الأموال، والتزام المشاق في سفر الحج فحقيق به بعد الفراغ منه أن يقبل على الدعاء والتضرع وكثرة الاستغفار والانقطاع إلى الله تعالى، وعلى هذا جرت السنة بعد الفراغ من الصلاة بالدعوات الكثيرة) (مفاتيح الغيب أو تفسير الرازي، 5/334). وهذا ما وعاه السلف؛ فقد كان التابعي (يحيى بن أبي كثير “يَدْعُو حَضْرَةَ شَهْرِ رَمَضَانَ: اللهُمَّ سَلِّمْنِي لِرَمَضَانَ وَسَلِّمْ لِي رَمَضَانَ، وَتَسَلَّمْهُ مِنِّي مُتَقَبَّلًا“) (حلية الأولياء لأبي نعيم،3/69).

ومن ذلك أيضا، عقد العزم على قضاء ما أفطره العبد من أيام رمضان، متى يسر الله له ذلك، فقد قال تعالى: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة،185]. وإذا كان مقتضى يُسْر الله على عباده ورحمته به عدم إلزامهم  قضاء الأيام التي كانت موضوع فطر للعباد على الفور، بل على التراخي إلى شهر شعبان المقبل، عملا بحديث عائشة رضي الله عنها: قالت عائشة: (كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ) (رواه مسلم)، فإن ذلك لا يعفي المسلم من عبادة قلبية مقتضاها عقد نيته على قضاء ما أفطره من رمضان، إما على التراخي خلال الأشهر الإحدى عشر المقبلة، أو تحديدا في إحداها.

وقريب من ذلك، ما له تعلق بقوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة،184]. فدل ذلك على أن المفطر في رمضان إذا كان من أهل الأعذار الذين لا يقدرون على قضاء الأيام التي أفطروا فيها، قد أصابتهم رحمة الله، كما وسعت ضعفهم وعجزهم، فانحرفت بهم من القضاء بجنس الصيام إلى الكفارة بإطعام مسكين. وههنا عبادة مفادها الإسراع بالفدية، أو عقد العزم على تقديمها متى تيسر ذلك، بنفس المنهاج الذي تم بيانه خلال القضاء.

ومما ينبغي لمودِّع رمضان الحرص عليه كذلك، أداؤه لزكاة الفطر، وفق الضوابط والشروط الشرعية. ف(عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ   زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ) (رواه البخاري). ومما ينبغي استحضاره البعد المقاصدي لزكاة الفطر، في علاقته بجبر الخلل الحاصل أثناء صيام رمضان نفسه، بالإضافة إلى إغناء الفقراء عن التسول يوم العيد ذاته، ف(عن ابن عباسٍ قال: فرض رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطْر طهْرة للصَائم مِن اللغو والرَّفثِ وطعْمةً للمساكينَ، مَنْ أدَّاها قبلَ الصَّلاة، فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أدَّاها بعدَ الصَّلاة، فهي صَدَقةٌ من الصَّدقات) (رواه أبو داود بسند حسن).

وإذا كانت رحمة الله تعالى اقتضت تخصيص العبادات الكبرى في الإسلام بنوافل من جنسها تلحق بها، وظيفتها إكمال النقص الحاصل فيها، فإن صوم الست من شوال قد بات يشكل السنة البعدية لصيام رمضان، فقد قال رسول الله قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) (رواه مسلم).

ومما ينبغي للمسلم الحرص عليه أيضا، أن يعقد عزيمته على أن يكون رمضان هذا نقطة تحول في حياته عامة، وسيره إلى الله تعالى على وجه الخصوص، بحيث يجعل العبد نهاية هذا الشهر نقطة بداية في درب الهداية والرشاد، بأن يتوب إلى الله توبه نصوحا لا نكوص فيها ولا رجوع، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم،8].