منذ القرن التاسع عشر  الميلادي، طرقت النهايات الفكر النخبوي الغربي، واستمرت تطل برأسها طيلة قرنين، بصورة متكررة، وكانت البداية بـفكرة “نهاية التاريخ لـ”هيجل” أشهر الفلاسفة الذين شكلوا العقل الغربي الحديث، الذي اعتقد بنهاية التاريخ عند الثورة الفرنسية ومبادئها، أي التحام الأنا المتفوقة بالعقل وبالدولة، وكذلك نهاية الاعتقاد مع صدور كتاب “موت الإله” لـ”نيتشه”، ومصطلح “نهاية الأيديولوجيا السياسية” لـ” ستيوارت هيوز”، و”نهاية الحداثة” لـ” فرانسوا ليوتار”، ولم تكن الخاتمة كتاب “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” للمفكر الأمريكي “فرنسيس فوكوياما” الصادر عام 1992 والذي أثار ضجة عالمية.

هاجس النهايات طرح تساؤلات في الفكر الغربي، حول مستقبل الغرب نفسه، وهل سيشهد التطور نهاية الغرب، بعد قرون من السيطرة والهيمنة، أم أن المفهوم لا يتعلق بزوال الغرب من الوجود، على غرار الحضارات القديمة، ولكن يرتبط بانحصار النفوذ، وخفوت بريق النموذج، وظهور منافسين على المسرح العالمي.

العدد (31) من مجلة “الاستغراب” صيف 2023، يقدم ملفا بعنوان “الإهلاك الحتمي..سقوط الذات أفول الحضارة” يفكك فيه إشكالية “نهاية الغرب” بعدما تعددت الرؤى السوداوية والتحذيرات حول نهاية الغرب وتقويض هيمنته، واهتزاز الثقة في نموذجه الحضاري.

موت..أم تراجع؟

“الغرب يموت، لقد توقّفت أممه عن التَّكاثر، وتوقّف سكّانه عن النموّ، وبدأوا بالانكماش، ولم يقم منذ الموت الأسود، الذي حصد أرواح ثلث سكّان أوروبا في القرن الرابع عشر، تهديدًا أخطر لبقاء الحضارة الأوروبيَّة من هذا الخطر الماثل، اليوم هناك سبعة عشر بلدًا أوروبيًّا… فيها جنازاتُ دفنٍ أكثر من احتفالات الولادة، وأكفانٌ أكثر من المُهود” هذا التهديد الوجودي أطلقه المفكر الأمريكي “باتريك جيه بوكانن” في كتابه “موت الغرب” استنادا إلى المعضلة السكانية المقترنة بتهديداتها للهوية الغربية، في ظل تصاعد الهجرات للغرب، والتي غلب علي أغلبها طابع الاستيطان، يشي بتشكل ملامح هوية مغايرة، تهدد بذوبان الغرب ثقافيا وبشريا .

والغرب المقصود ليس الحدود الجغرافية على الخريطة فقط، ولكن الغرب ثقافي، ونموذج حضاري مؤثر في مسار التاريخ الإنساني في القرون الأخيرة، وممتد أيضا في المستقبل، لكن أزماته وجودية، ومنها:

تراجع جاذبية النموذج الغربي:  تؤكد الكثير من الكتابات أن الغرب كنموذج آخذ في الأفول، وإنطفاء الجاذبية، فالغرب لم يعد نموذجا يحتذي لكثير من المجتمعات والشعوب في العالم مثلما كان من عقود، فهناك فشل ليس في تسويق النموذج فقط، ولكن كثيرا من المجتمعات لم يعد مؤمنا بقدرة النموذج الغربي أن يكون حلا أو منقذا لها من أزماتها، ويرجع ذلك إلى حالة الجمود التي تلبست النموذج الغربي، فلم يعد يقدم فكرا جديدا، ولعل هذا ما يضعف فعاليته، وربما يفرض عليه حتمية التاريخ في صعود الحضارات وإندثارها، فالغرب ليس استثناء لتلك الصيرورة.

هذا الجمود شجع على استيقاظ الهويات في كثير من المجتمعات العالمية وبخاصة في آسيا وتحديدا في الصين، التي باتت تحديا مقلقا للغرب، لما تمتلكه من عمق حضاري، وقدرات اقتصادية هائلة، ونموذج تنموي منبثق في كثير من تجلياته من رؤاها الفكرية وثقافتها، كما أن الاستهلاكية المخيفة في الغرب عمقت الجمود، وحولته إلى ثقافة متفشية ومعدة ضخمة ورغبات لا تشبع، وكما يؤكد المفكر البلجيكي “هنري بانهوس Henry Panhuys في كتابه “نهاية الغربنة” فإن ” الإفراط الاقتصاديَّ والتَّبذير الماليّ، وطغيان التقنيَّة، المبالغة في الاستهلاك، أنتج فراغًا اجتماعيًّا وخلقيًّا ودينيًّا شجَّع على ظهور الأصُوليّات” أي أن كثيرا من المجتمعات العالمية أعادت اكتشاف ذاتها وفق موروثاتها، وليس وفق ما يراه الغرب ويطرحه، ولا شك أن هذ يخلق مراكز حضارية مزاحمة للغرب، ويحصر تمدد سطوة النموذج الغربي عالميا.

وربما ما شجع تلك هذه المجتمعات على اكتشاف ذاتها هو أن نماذج التنمية والتحديث المستعارة من الغرب، أثبتت فشلها وقلة نجاعتها في حل الأزمات، فلم تكن طوق نجاة، وعلى العكس أوجدت غالبية تجارب التحديث المستعارة من الغرب أزمات عميقة، فتنامي إدراك لدى الكثير من النخب أن الحل لن يكون غربيا.

ويرتبط بهذا الجمود فكرة تأسس عليها الغرب الحديث، واستمدها من أعماقه الفلسفية العائدة إلى اليونان والإغريق، والمتعلقة بأن الغرب لا يرى في الآخر إلا مجالا للاستغلال والإخضاع، فما زال الآخر منعوتا بالوحشية والبربرية، وما تزال “الأنا” الغربية مثل “الأنا” اليونانية والإغريقية القديمة تنظر بجدارة لنفسها ولعقلها ولمنجزها، فالمباني الفكريّة والفلسفيّة والقيميّة الغربية، لم تتبدل في نظرتها الدونيّة للآخر.

وحسب الفرنسيّ “ميشيل انفري” في كتابه “انحطاط” Décadence  الذي رأى في المركزية الطاغية، وتراجع التفكير في القضايا المصيرية والجوهرية، من الأسباب الجوهرية للانحدار، وأطلقة مقولته الساخرة ” لقد غرقت السفينة، لكن بقي لنا أن نغرق بأناقة “.

أزمة الفطرة: طرح العددُ الفطرةَ، كتهديد وجودي للغرب، فالفطرة هي أساس الدوافع الذاتيّة، ومن ثم هي منبع المشكلات والأزمات، والفطرة الإنسانية مجبولة على التدين، والاستعداد الطبيعي لربط الدين بالحياة والكون.

هذا الربط يملي على الإنسان معتقده وسلوكه، وفي الغرب تعاني الفطرة من أزمة، فالهياكل الحضارية الغربية لم تضع الخالق سبحانه وتعالى في حساباتها، ولم تنظر إلى الدين إلا من منظور نفعي، لتطمين الروح وتسكين الخواطر، وليس لاستلهام القيم والسلوك، كذلك هناك هيمنة للذة على التفكير، ناهيك عن غياب المعنى عن الحياة.

تآكل النظام الأسريّ: فالأسرة آخذة في الانقراض في الغرب لصالح حالة من العبث الجنسي والشذوذ، والعزوف عن الانجاب، وتفشي الأطفال غير الشرعيين، فباتت غالبية الأجيال الناشئة بلا هوية، وتعاني من الضياع والحيرة، في مقابل أجيال أخرى تنشأ في الغرب من أبناء المهاجرين الذين يُنشئون في أسر تلهمهم القيم، وتحافظ على هويتهم، لكن هذا التآكل ستتبدى كارثية في أجيال القادمة.

ومع ذلك سيظل الغرب حاضرا ومؤثرا وفاعلا، لكن لن يكون الوحيد، وإنما سينافسه آخرون في مقدمتهم الإسلام، ثم الصين، وهو ما يؤذن بدخول فاعلين سيربكون هيمنة النموذج الغربي على العالم ، وستتعدد المراكز العالمية، وستتنافس، وسينشأ معها هوامش جديدة تدور في أفلاكها، فالعالم ليس الغرب فقط.