كان الاعتقاد السائد لدى علماء الغرب أن الخبرة الملاحية العربية كانت متواضعة ومحدودة، وأن العرب لم تكن لديهم مصنفات ملاحية ولم يسهموا في تطوير علم الملاحة وأدواته، ورسخ هذا الاعتقاد زمنا طويلا بسبب عدم الاستدلال على مؤلفات عربية في هذا المجال إلى أن اكتشفت في أوائل القرن الماضي مصنفات أحمد بن ماجد وسليمان المهري التي دحضت هذا الادعاء، وفي السطور التالية نعرض لإسهام العرب في مجال الملاحة من خلال كتاب الفوائد للبحار العماني الشهير أحمد بن ماجد.

العرب وعلم الملاحة .. نبذة تاريخية

يكشف ابن خلدون في مقدمته جانبا من تصور عرب الجزيرة الأولي عن البحر فيقول إن عمر ابن الخطاب لما ملك المسلمون مصر أرسل إلى ابن العاص يسأله “صف لي البحر” فأجابه: «إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود» فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب… ولم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان عهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده”، وهو يفسر موقف ابن الخطاب بكون العرب أهل بداوة ليس لديهم معرفة بالبحر وركوبه، لكن لما اشتد ساعدهم ودانت لهم الأمم وتقرب إليهم أهل الصناعات ومنهم الملاحون فتكررت ممارستهم للبحر واستعانوا بالبصراء، وتطلعوا للجهاد فيه “وأنشئوا السفن فيه والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر.

وكلام ابن خلدون صريح في إن العرب لم يقدموا على ركوب البحر إلا للجهاد، يضاف لذلك أن كتاب الله يدعوهم لارتياد البحر في آيات كثيرة منها لأجل الصيد منه (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) أو بغرض نقل الركاب والبضائع (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون).

وقد بينت كتب الجغرافيين العرب منذ ابن خرداذبة في القرن الثالث النجاح الذي أحرزه العرب في علوم البحار وما أدخلوه من تطوير على الآلات البحرية ضمن حديثهم عن الجغرافيا الملاحية التي تناولت وصف البحار ومنابعها ومصابها.

ومنذ القرن التاسع بدأت كتب (المرشدات الملاحية) في الظهور وهي مصنفات ملاحية وضعها البحارة الذين يسافرون على البواخر لأجل خدمة الربابنة -قادة السفن- ورؤسائها وفيها القواعد الأساسية التي تؤطر عمل هؤلاء من الناحية النظرية والعملية، وفي مقدمة هذه الكتب هناك كتابات الملاح العماني الذائع الصيت أحمد بن ماجد، الذي كتب في ذلك  كتبا أهمها كتابه (الفوائد في أصول علم البحر والقواعد).

سيرته ومصنفاته

هو أحمد بن ماجد بن محمد بن عمرو بن فضل بن أبي الركائب النجدي، ويلقب بألقاب منها: حاج الحرمين الشريفين، ناظم القبلتين (مكة والقدس)، المعلم العربي، شهاب الدنيا والدين، أسد البحر الزاخر، ليث الليوث وغيرها، انحدر من سلالة أسرة من جلفار العمانية اشتغل أفرادها بقيادة السفن، كان أبوه بحارا وكذلك جده، ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ ميلاده ويرجح الأستاذ أنور عبد العليم أنه ولد عام 838ه استنادا إلى ما ذكره ابن ماجد في قصيدته (ضريبة الضرائب)، حول تجاوزه الستين في عام 900 ه وعليه تكون وفاته بعدها.

وليس هناك معلومات محققة عن حياته التي أمضاها بين البحار سوى ما دونه في أشعاره ومصنفاته ومنها يفهم أنه ركب البحر وهو فتى لم يتجاوز الخامسة عشر تولى خلالها قيادة السفن في المحيط الهندي نحو خمسين عاما، وأنه حج بيت الله الحرام مرة على الأقل وأراد معاودتها في أواخر أيامه ولا ندري أتمكن من ذلك أم لا، وأنه كان جم النشاط موفور الصحة متوقد العقل بعد بلوغه الستين عاما مما أدى إلى عجب الناس وهو يقود السفن في هذه السن.

وآثاره الفكرية تربو على الثلاثين وجلها ورد في صيغة شعرية، ومنها:

  • كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد.
  • حاوية الاختصار في أصول علم البحار.
  • تصنيف قبلة الإسلام في جميع الدنيا (295 بيتا) صنفت عام 893 ه.
  • أرجوزة في عدة الشهور الرومية.
  • أرجوزة في النتخات لبر الهند وبر العرب.
  • أرجوزة بر العرب في خليج فارس.
  • أرجوزة ضريبة الضرائب (192 بيتا) في القياسات البحرية.
  • أرجوزة السبعية (307 بيتا) في علوم البحر السبعة.

كتاب الفوائد: منهجه وبنيته

يُنظر إلى مصنفات ابن ماجد بوصفها أهم ما كتب عن الجغرافيا الملاحية في العصر الإسلامي وخصوصا كتابه (الفوائد في أصول علم البحر والقواعد) الذي حظي بتقدير استشراقي واسع إذ ذكره المستشرق الروسي كراتشوفسكي وتلميذه تيودور شوموفسكي، وفران الذي حقق الكتاب وطبعه، ويمكن تلخيص منهج ابن ماجد في كتابه من خلال العناصر التالية:

  • الجمع بين الإطارين النظري والعملي؛ ذلك أن مؤلفه لا يقصر حديثه على الجوانب النظرية للملاحة من كيفية إعداد ربان السفينة وتهيئة السفن ومعداتها وإنما يمزج ذلك بالخبرة العملية فيعرض لتجاربه الشخصية في مواجهة مشكلات الملاحة وكيفية تغلبه عليها.
  • التوسع في استخدام المصطلحات الملاحية، استخدم ابن ماجد المصطلحات الملاحية السائدة في عصره؛ وهي مستمدة من اللغات الفارسية والهندية والسكريتية، ولم يقم بتعريبها اعتمادا على معرفة الملاحين لهذه الاصطلاحات، ولأجل هذا يعتقد المستشرقون أن كتاباته شاقة وعسيرة وتحتاج إلى ترجمة من اللغات الشرقية لفهم مرادها حتى أن أحدهم أعد قاموسا بالاصطلاحات الواردة فيها.
  • الإفادة من كتب السابقين: يدل كتاب ابن ماجد على أنه كان على اطلاع واسع بكتب وآثار من سبقوه ليس فقط بالنسبة للجغرافيا الملاحية والجغرافيا الرياضية بل بالنسبة لكتب الأدب والأشعار، فهو يستشهد بأشعار امرئ القيس وعمرو بن كلثوم والمهلهل، وفي مواضع من كتابه يشير إلى “الكتب الكبار” الواجب على قادة السفن الاطلاع عليها مع بيان موضوع كل منها ووجه إفادته.
  • التأكيد على الجانب القيمي، ويتجلى في حديثه عن أخلاق ربان السفينة وما ينبغي أن يتصف به، ومن ذلك قوله ” وينبغي أنك إذا ركبت البحر تلزم الطهارة، فإنك ضيف من أضياف الباري عز وجل فلا تغفل عن ذكره”، وهذا الحديث وأمثاله يبين أنه لم ينظر لعلم الملاحة بوصفه علما مجردا منفصلا عن القيمة الخلقية وإنما آمن أن الأخلاق هي الإطار الموجه للعلم والضابط له، ولعلنا نبين ذلك في حديثنا عن (دستور البحر).

فوائد كتاب الفوائد

أما عن كتاب الفوائد، فقد وضعه لخدمة البحارة كما نص، وهو يتألف من اثني عشر فصلا (فائدة) نلخصها في الآتي:

الفائدة الأولى: وهي عبارة عن مقدمة تناولت نشأة الملاحة وتطور علم البحر وعرج فيها على بعض ربابنة البحر السابقين.

الفائدة الثانية: تناولت ما يجب أن يعرفه قائد السفينة وراكبها من منازل القمر والمسافات ومواسم ركوب البحر، واختصت.

الفائدة الثالثة: بذكر منازل القمر.

الفائدة الرابعة: وبحثت وردة الرياح التي هي بمثابة البوصلة وبها اثنان وثلاثون قسما تسمى (أخنان).

الفائدة الخامسة: والمعنونة باسم (ما يحتاجه أهل الصنعة) فتذكر الفلكيين الأوائل والجغرافيين ومؤلفاتهم التي يجب على قادة البحر استيعابها.

الفائدة السادسة: وهي فائدة بعنوان (الديرات الثلاث وما يتعلق بها) وتصف طرق الملاحة في المحيط الهندي وشرق أفريقيا وبحر العرب.

الفائدة السابعة: وتعالج الأرصاد الفلكية وقياساتها وارتفاع النجوم في الأفق، وفيها يحذر ابن ماجد مما يفسد القياس مثل الدخن أو الضباب واستخدام اليد اليسرى في القياس والجلسة السيئة.

الفائدة الثامنة: وتهتم بتفقد السفينة قبل نزولها البحر وبخاصة (الحقة) أي البوصلة للتأكد من صحة القياس بالليل، ثم يذكر ابن ماجد فيها علامات اقتراب السفن من البر.

الفائدة التاسعة: المسماة (دورة البحر في جميع الدنيا) وتصف السواحل البحرية للمحيط الهندي والبحر الأحمر من باب المندب حتى بحر القلزم أو البحر الأحمر.

الفائدة العاشرة: وتصف الجزر الكبار وعلى رأسها جزيرة العرب وتضاريسها.

الفائدة الحادية عشر: وتدرس (مواسم السفر) وفيها ذكر لمواقيت السفر والملاحة واتبع فيها ابن ماجد التقويم الفارسي.

الفائدة الثانية عشر: وهي الفائدة التي يختتم بها الكتاب وجءت بعنوان (بحر قلزم العرب) لأن فيه نوادر وحكما لا يعرفها إلا من ارتاده.

يبدو جليا أن ابن ماجد تناول في كتابه كل ما يحتاجه البحارة في تعاملهم مع البحر، ولذلك رجح فران أنه استغرق زمنا في إعداده حيث يشير مؤلفه أنه انتهى منه عام 895 ه إلا أنه ربما يكون قد استغرق بضع سنوات يدقق ويمحص وهو ما تبينه مخطوطات الكتاب التي عثر عليها إذ فيها بعض الاختلافات والإضافات والتدقيقات التي أجريت في حياة مؤلفه، وأيا ما كان فإننا معنيون في هذا الكتاب بالبعد القيمي والأخلاقي الذي أسماه الأستاذ أنور عبد العليم ب(دستور البحر) وهو القانون الذي يضبط عمل الملاحون المسلمون ويميزهم عن غيرهم

دستور البحر الأخلاقي

يلتفت أنور عبد العليم في كتابه (الملاحة وعلوم البحار) إلى التعاليم الخلقية التي صاغها ابن ماجد في كتابه، والتي تندرج تحت ثلاث أقسام وهي: الربان، السفينة، الشحنة وما إليها:

  • الربان، يُعنى ابن ماجد أكثر ما يعنى بإعداد الربان أو قائد السفينة الذي تتوقف عليه سلامة الأرواح والأموال، ويشترط في اختياره بضعة أمور منها: أن يكون على خلق رفيع، ذا شخصية قوية حازمة، جادا لا هازلا، وأن يكون دينا تقيا، وحول هذه الخصائص يقول ما نصه: ” وتأمل في جميع الأشياء لتكون عالما بها عند الشدة… وكن حازما قويا في كلامك وأقوالك وأفعالك، لين الطبيعة، ولا تصحب ما لا يطيعك في ما يعنيك… وكن شجاعا ذا بأس، قليل الغفلة كثير الهمة” ويقول في موضع آخر “ينبغي للمعلم أن يعرف الصبر من التواني، ويفرق بين العجلة والحركة، ويكون عارفا بالأشياء، عادلا لا يظلم أحد لأحد، عزاما فتاكا لينا في قوله، مقيما على الطاعة لربه، متقيا الله عز وجل.
  • السفينة، ولا تقتصر تعاليم ابن ماجد على العناية بتأهيل الربان وحسن اختياره بل إنه يضع قواعد لركاب البحر وسفارته ليضمن سلامتهم من الشجار والمشاحنة والمزاح، ومن ذلك قوله “كان الناس في الزمن الغابر أكثر حرصا ولا يركبون البحر إلا بأهله”، ويخاطب الربان ” وانه جميع الركاب عن كثرة المزاح في البحر فما ينتج عنه إلا الشر والبغض والعداوات”، وهو يهتم بالسفينة وآلاتها فيخاطب الربان قائلا “وجدد الآلة قبل السفر من حقة أو قياس وحجر” وينهاه عن شحنها بما يزيد عن حمولتها طمعا في الربح.
  • الشحنة، يحرص ابن ماجد أشد الحرص على سلامة الأرواح لذا نراه يؤثر حال تعرض السفينة لخطر أن يلقى بالشحنة في البحر لتخفيف الحمولة، وعند الخطر المحدق يحاول أولا إنقاذ الركاب ثم البحارة ويكون الربان آخر من يغادرها وربما كان معها في قاع البحر.

مما سبق نستنتج أن العرب برعوا في فن الملاحة البحرية وأنهم صاغوا دستورا أخلاقيا يضبط عمل الملاحين والبحارة وظل هذا الدستور يحكم عملهم لفترات طويلة وامتد ليشمل أقوام آخرون مثل الفرس والهنود والزنج.