يرى بعض مؤرخي وعلماء الآثار ممكن كتبوا عن العمارة الإسلامية، أن لها أشباهًا وجدت في طرز معمارية سابقة، وأن هذه الطرز كانت بمثابة الأصول ومصادر الاشتقاق لوحدات وعناصر العمارة الإسلامية، وأن ليس للعرب والمسلمين دوراً فيها، فقد خرجت العمارة الإسلامية على أيد غير عربية وغير إسلامية.فما حقيقة ذلك؟

الحق أقول: يوجد في روايات بعض المؤرخين المسلمين نقاط ضعف وثغرات استغلها علماء الغرب المتخصصون في الحضارة الإسلامية في تفسيرها، وتوجيهها لأغراضهم، واقتباس ما يلائم نظرياتهم التي يروجونها ويحاولون إثباتها وتأكيدها، ولو كان على حساب سلامة منهج البحث العلمي، ومن ذلك ما حدث في مناقشات بناء مسجد دمشق وقبة الصخرة، ناهيك عن مسجد الرسول في المدينة، ويتطلب ذلك منا أن نأتي ببعض نصوص الترجمة الحرفية لما جاء عند بعض هؤلاء العلماء و المؤرخين.

فعن عمارة مسجد دمشق (88- 96هـ / 706- 714م) في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك ذكر المقدسي أن التنفيذ وصناعة الفسيفساء في المسجد كان على يد عمال أرسلهم الإمبراطور البيزنطي، ويروي العمري “أن الوليد كتب إلى ملك الروم، أن ابعث إلى بمئتي صانع من صناع الروم، فإني أريد أن أبني مسجداً، وإن لم تفعل غزوتك في الجيوش وخربت الكنائس”، ويروي صاحب العيون والحدائق: “أن الوليد كتب إلى ملك الروم وطلب أن يعينه على بناء مسجد دمشق ومسجد الرسول بالمدينة، فبعث إليه بمائة ألف دينار، ومائة ألف صانع، وأربعين حملاً من الفسيفساء.

والملاحظ أن الفترة التي تبدأ بالفتح الإسلامي للشام ومصر حتى إنشاء قبة الصخرة عام 72هـ/691م – وهي أول عمارة إسلامية- فترة تزيد عن خمسة وخمسين عامًا- وليس هناك شك – فيما نرى – في تزايد عدد المسلمين في تلك المنطقة خلال تلك الفترة. إما بالهجرة أو باعتناق الإسلام، ودون شك كان فيهم معماريون وعمال.

مصلى قبة الصخرة أحد أجزاء المسجد الأقصى

كما إن اعتقاد بعض المؤرخين وعلماء الآثار في أن من سمتهم المصادر الإسلامية بـ(الروم) هم من الروم(البيزنطيين) أو مسيحي الشام، وأن من أطلق عليهم لفظ (القبط) هم من مسيحي مصر أمر ما كان ليصبح أن يأخذوا به بتلك البساطة لأن المصادر الإسلامية تحدثنا عن قبائل عربية من العرب المتنصرة (روم العرب) اعتنقت الإسلام وبقيت مقترنة بصفتها الرومية. وقد ذكر ابن دقماق بعض هذه القبائل وهي “بلى بن عمرو بن الحاق بن قضاعة، وبهم عدوان، وبعض الأزد وهم ثراد وبنو بحر وبنو سلامان، ويشكر بن لخم وهذيل بن مدركة بنإلياس بن مضر، وبنو الأزرق، وهم من الروم”.

أما كلمة (قبط) فإنها أيضًا ليست تعني المسيحيين من أهل مصر، فقد أطلقت المصادر الإسلامية هذه الكلمة على سكان مصر بصفة عامة وبغير تخصيص المسحيين بها؛ فيقول الرازي أن كلمة (قبط) “تعني بأنهم أهل مصر، وهم بنكها “أي أصلها، وتتحدث المصادر الإسلامية عن الشهور القبطية وعن الأهرام على أنها قبور ملوك القبط وأكابرهم وعن لغتهم وكتابتهم وعقائدهم قبل ظهور المسيحية فيهم، ويذكر المقريزي أنه “صاهر إلى القبط من الأنبياء ثلاثة، إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام تسرى هاجر، ويوسف تزوج بنت صاحب عين شمس، ورسول الله صلى الله تسرى مارية”.

وذكر المقريزي في موضع آخر: “إن الروم لم تكتب، وإنما ظفرت بكتب معالم كنوز من ملك قبلها من اليونانيين والكلدانيين والقبط ” هذا وتحدثنا المصادر الإسلامية عن شخصيات تاريخية اعتنقت الإسلام، وبقيت مقترنة بصفتها القبطية مثل مارية القبطية زوجة الرسول وأم ولده إبراهيم، ومن الصحابة ورواة الحديث أبو رافع القبطي مولى رسول الله وجبير بن عبد الله القبطي مولى بني فهر.

وعلى هذا الأساس فإن الخليفة عبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، كان لديهما عدد كبير من الفنانين والعمال من أهل الشام ومصر، وكان لكل منهما مدرسته الخاصة، وهم الذين قاموا بإنشاء قبة الصخرة والمسجد الأموي بدمشق، كما قاموا بعمل الفسيفساء في كل من المسجدين، ولم يكن الوليد كما ذكرنا في حاجة إلى مئات الألوف من العمال البيزنطيين ، ولا أن يطلب من الإمبراطور البيزنطي بالتهديد أو بغيره أن يرسل إليه عمالاً بيزنطيين.

وقد اشتهرت اسماء كثيرة من روم العرب بالمهارة في فن البناء ولعل اشهرهم المهندس الباني لكنيسة القيامة عام (326م) هو ” زنوبيوس “، الذى لا يخفى من اسمه أنه عربي وأنه قد تم إلحاق حروف التعريف اليونانية عليه، وعلى ذلك فاسمه هو “الزبائى”.

ومن الأدلة على مهارة روم العرب فى البناء والتشييد هو بنائهم معابد (دورا – أوربوس)  “المرفأ التدمري الواقع على نهر الفرات فى سوريا”، حيث أثبتت الاكتشافات الأثرية الحديثة من رسوم المعابد أن تاريخها يرجع إلى ما قبل قيام الإمبراطورية البيزنطية بحوالى قرن من الزمان، وتحتوى رسوم (دورا) على العديد من جداريات المعابد ومنها المعبد اليهودي والمعبد التدمري ، وهذه الرسوم محفوظة الآن فى المتحف الوطني بدمشق.

لقد كان للعمال والفنانين من روم العرب فى فترة انتشار المسيحية أثر كبير فى الفن البيزنطي، وأن بنو أمية قد استعانوا بهؤلاء العمال والفنانين الذين يمتلكون خبرة البناء والزخرفة.

ويرى جرابار Grabar أن السبب الذي أدى إلى السرعة والنجاح اللذين تم بهما ظهور طراز معماري إسلامي، يرجع في المقام الأول إلى الحاجة التي شعر بها المسلمون، وأولو الأمر فيها إلى إظهار حقيقة الوجود الإسلامي في صورة مادية تختلف عما يحيط بها وتجعله يتميز بهيئة إسلامية مفهومة؛ فهذا الأمر هو الذي حال دون أن يتحول قبر الرسول ، والصخرة المقدسة إلى مجرد روايات قليلة ومبعثرة في المصادر الإسلامية، كما حدث لشواهد وقبور معظم الرسل والأنبياء السابقين عليهم السلام جميعاً.


المصادر والمراجع:

ابن دقماق : الانتصار لواسطة عقد المصار في تاريخ مصر وجغرافيتها، وبآخره فهارس كتاب الانتصار، ج4،5، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي ودار الآفاق الجديدة، بيروت، بدون تاريخ.

ابن عساكر : التاريخ الكبير، هذبه الشيخ عبد القادر بن مصطفى بن عبد الرحيم بن محمد الرومي المعروف بابن بدران، ت747هـ/1346م، مطبعة الترقي بدمشق، 1249.

الرازي : مختار الصحاح، دار الباز للطباعة والنشر، بيروت، بدون تاريخ.

العمري : مسالك الأبصار في ممالك الأبصار، تحقيق أحمد زكي باشا، ج1، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة. 1942هـ/1924م.

المقدسي : أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، اختار النصوص وعلق عليها وقدم لها غازي طليمات، المختار من التراث العربي (رقم 13) منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980م.

المقريزي:المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت: 1418هـ.
مؤلف مجهول : العيون والحدائق في أخبار الحقائق من خلافة لوليد بن عبد الملك حتى خلافة المعتصم يليه مجلد من تجارب الأمم لمسكوية وفيه حوادث السنوات 198ـ251هـ، ج3، نسخة دي جوية، مطبعة بريل 1286هـ/1896م.

K.A. Early Muslim Architectur., 2 vos parts umayyades z and clarenodon press., oxford, 1969.
O. La mosquee de dames et les origines de la mosquee synthrono Bibilotheque des cahiers Archeologiquss., P.T., Z., paris, 1968
J., L’Empire nes Byzantin des Omeyyades et l’empire nes Sassanides des Abbassides..J.W.H. 1953-1954.

فريد شافعي: العمارة العربية في مصر الإسلامية: عصر الولاة، الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1994.