نظر الإسلام إلى الزواج كعلاقة ورابطة عظيمة بل يوجب تقديس رابطة الزواج فلا يتعامل معها إلا وفق مقتضيات الـميثاق الغليظ الذي جمع الله به بين الزوجين، والتحذير الإيماني والقضائي من تعسف الزوج في استعمال حقوقه الشرعية، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، وحتى يكون الزواج مثمرا ومحققا لمقاصد تشريعه يجب التزام ضوابط الزواج الناجح مما ذكره الله تعالى هنا بالإضافة إلى ما تقدم في سورة البقرة، فجاء الحنان القرآني على البشرية بعد ذكر من يحل الزواج منهن ليبين عددًا من ضوابط الزواج الناجح غير ما تقدم في سورة البقرة، فذكر الله الضوابط الآتية:

  • الضابط الأول: وجود الـمهر، ويُبَصِّرُنا به قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]: أي أن تطلبوا النكاح عن طريق أموالكم التي تدفعونها مهرًا للمرأة التي رغبتم فيها.
  • الضابط الثاني: أن يكون النكاح للرغبة في إحصان الزوج والزوجة وإعفافهما بالاستمتاع الحلال بالنكاح الشرعي، وبصرنا به قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، كأنه يقول: ضعوا أنفسهم وزوجاتكم في حصنٍ بهذا الزواج من الزنا والفسق، وسفح الماء في غير محله:

فأطلق الإحصان ولم يقيده، فكلمة الإحصان تجمع لنا ثلاثة مفاهيم:

  • المفهوم الأول: أن تحصنوا أنفسكم وتُحصنوا زوجاتكم بهذا الزواج من العبث بالزنا أو الفسق،
  • المفهوم الثاني : ينبغي أن تبتغي بمالك المرأة التي تعينك على هذا الاحصان، فابحث عن ذات الدين، وذات الخُلُق، وذات الهيئة المناسبة لك، وصاحبة الألفة الاجتماعية المتوافقة مع حياتك،

وهنا يأتي المفهوم الثالث: أن تقوم هي بإحصانك فهي محصِنة كما تقوم أنت بإحصانها فأنت محصِن، فالزواج ليس شكليًا أو كما يسميه بعضهم (البريستيج) بل من لوازمه أن يقوم كل طرفٍ بما يحقق الإحصان، ولكن الكلام هنا عن الرجال ﴿مُحْصِنِينَ﴾ وذلك يقتضي أن يحقق الرجل الاستمتاع اللائق حتى يتم الإحصان أي محصنين لأنفسكم ولمن ترغبون بنكاحها، وينتظر في مقابل ذلك أن تقوم المرأة بالأمر ذاته،

فالزواج من أغراضه العظيمة قصد إحصان الزوجة، وحتى لا يظن أن الاستمتاع مطلوبٌ في ذاته مطلقًا دون قيد أردفه بقوله: ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ أي غير زناة تطلبون المتعة المطلقة دون ضوابط والتزامات، فالسِّفَاحُ وَالمُسَافَحَةُ مِنَ السَّفْحِ، وَهُوَ صَّبُّ الماء في المنحدر الواطئ كما قَالَ تَعَالَى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، وَفُلَانٌ سَفَّاحٌ لِلدِّمَاءِ أَيْ سَفَّاكٌ، وذلك لأن غرض الزاني سفح النطفة، وهو هنا مفاعلة لأنه يؤدي إلى إراقة قوة الماء عند الرجل والمرأة هدرًا دون ابتغاء ما كتب الله للإنسان من الإعفاف، والولد، ونمو البشرية، فهذا الضابط يحمل نهيًا متعاظمًا عن أن يكون النكاح متعة مطلقة، فلا يحصن الطرفين من الإثم والدنس، ولا يحصن الذرية من الإعدام والتلف، ولا يحصن البيت من الخراب والبوار! وانظر لهذا السفاح في العلاقات الجنسية العابرة التي تروجها الثقافة الغربية على أوسع نطاق، كما أنك تجد معناها واضحًا فيما سمي نكاح المتعة!

والآية تقرر أن النكاح للسفاح خارج الإطار الزوجي جريمة في ذاته لأنه يؤدي إلى التلاعب بالجنس البشري وصولًا إلى إبادته، وكذلك أي تهوينٍ من اللقاء الشرعي، أو توهينٍ لقيام الأسرة الشرعية هو جريمةٌ ضد المجتمع ثم ضد الإنسانية وليس جريمة شخصية محدودة.

وهذا الشرط أو الضابط للنكاح عجيبٌ في آفاقه، وهو يقدم دليلًا على الحل الإسلامي الرائع لأوضاع البشرية كما يدل على اقتران الحل الإسلامي بملء الحياة البشرية بالسعادة والمتعة؛ فإن الإحصان يقتضي أن يقوم كل من الزوجين بواجبه في إعطاء الآخر متعته عند الاتصال به حتى يتم التحصن، فيحصنوا أنفسهم وأزواجهم من النظر إلى من لا يحل.

كما أن هذا الشرط يفضح الجهود المؤسسية التي تروم تدمير الأسرة، والأسرة تمثل حصن البشرية الحقيقي في النمو والاستمتاع، وما أكثر الصراخ الجائر والعواء المجرم الذي ينبعث من أروقة بعض المؤسسات الدولية المعاصرة ليجعل لقاء المخلوقات لقاء استمتاع ولذة فقط، وليس لقاء يجمع الحفاظ على الإنسانية والاستمتاع المنظم معًا.

  • الضابط الثالث: تحقيق الـمتعة في الزواج، ويُبَصِّرُنا بهذا الضابط قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]، فجمع بين الإحصان والمتعة ومنع السفاح إشارة إلى منع المتعة المجردة التي يقصد منها السفاح فقط:

وانظر جمال البناء القرآني للحياة الزوجية حيث جعل الحياة الأسرية متعةً حقيقية، وليس مجرد التقاء، أو استعباد

  • الضابط الرابع: تسليم الـمهر (الأجر) كله يصبح فريضة لازمة إذا تم الـمس، ولو مرةً واحدةً، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {مَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] أي مقدرًا لازمًا:

فالمهر يجب بمجرد اللقاء الجنسي، وكلمة ﴿فَرِيضَةً﴾ هنا إما أن تكون بمعنى اللزوم، وإما أن تكون بمعنى التقدير، والمهر يتصف بالأمرين معًا: اللزوم، والتقدير، فلا بد أن يكون مقدرًا، ويدخل في ذلك نكاح التفويض، وهو النكاح مع السكوت عن المهر، وهو جائزٌ؛ لأن المهر حينئذٍ يتقدر بما هو مماثلٌ لحالتها، ويبين ابن عباس رضي الله عنه معنى ذلك في قوله: {مَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} فيقول: «إذا تزوج الرجل منكم المرأة، ثم نكحها مرة واحدة، فقد وجب صَداقها كلُّه» ، و«الاستمتاع» هو النكاح، وهو قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] ، وهذا الأمر بمنح النساء الصداق كله أحد الأحكام المتعلقة بالمهور، فهو أمرٌ بمنحهن الصداق يتمم الله به قَوْله جلَّ ذكره: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] وقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229].

الآن أعد النظر في النص لتلحظ أن الله سمَّى المهرَ هنا (أجرًا)، وذلك لِأَنَّهُ بَدَلُ المَنَافِعِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ مِنَ الأَعْيَانِ، هو مقابل الاستمتاع، ولكنه لا يدل على التملك المطلق، وهذه المتعة تكون ضمن اللقاء الشرعي، وليست المتعة خارج اللقاء الشرعي.

وهذا الضابط ردٌّ على من جعل المرأة يُتلاعب بها أو تورث وراثةً

  • الضابط الخامس: تبصرنا الآية بحرمة التمتع الوقتي الـمشروط؛ لأنه سفاح، ووفق هذا التفسير، فلا تنطبق هذه الآية؛ لأن الله ذكر ضابط النكاح، فقال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24].

ونكاح الـمتعة على اسمه سفاحٌ واضحٌ، يجعل أصحابه يتمتعون بمن شاءوا وقتما شاءوا، فلا يمكن أن تكون إحصانًا، فكما ترى فإن تفسير هذه الجملة المباركة يدل على منع ما سُمِّي بنكاح المتعة الذي يقرب في تصوره من الزنا.

  • الضابط السادس: التراضي على أي شيءٍ غير الـمهر جائز، ويُبَصِّرُنا بذلك قول الله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24].

وهذا الضابط الجامع يقتضي أمرين:

الأول: إذا تم الاتفاق على الفريضة المالية المقدمة للزوجة مهرًا فلا جناح عليكم، أيها الناس، أن تتراضوا أنتم ونساؤكم على أمورٍ مالية أخرى على سبيل الإهداء أو الهبة أو الصلح لعارضٍ بدا، أو لأجل الفراق، فالمهر هو الفريضة، وما زاد الله لا تمنعون منه.

الثاني: أي لا حرَج عليكم أيها الأزواج، إن أدركتكم عُسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورَهن فريضة، فيما تراضيتم به من حطٍّ وبراءة، أو تأخيرٍ ووضعٍ بعد الفرض كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وَقَوْلِهِ {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237].