محمود باشا الفلكي عالم مصري وأحد أبرز الفلكيين في العصر الحديث، حيث يعد رائد علم الفلك الأثري الذي ربط بين الظواهر الفلكية والشواهد والمعالم الآثرية على نحو غير مسبوق، ولمحمود الفلكي العديد من الأبحاث والدراسات الفلكية التي حازت على إعجاب وتقدير علماء الغرب.
محمود باشا الفلكي هو محمود أحمد حمدي، ولد ببلدة الحصة بمديرية الغربية بمصر، كان أبواه من الفلاحين، تلقى تعليمه أولاً في الكُتّاب في القرية، وفي سنّ التاسعة اصطحبه أخوه الأكبر- وكان بالبحرية، وخريج المدرسة البحرية بالإسكندرية – معه إلى الإسكندرية حيث ألحقه بمدرسة ابتدائية، وبعدها ألحقه بالمدرسة البحرية، فتخرج فيها عام 1833م وحصل على رتبة بلوك أمين.
ودفعه طموحه إلى الالتحاق بمدرسة “المهندسخانة” بالقاهرة، وساعده شقيقه في تحقيق هذا الطموح، واستطاع البلوك أمين محمود أن يتخرج عام 1839م بتفوق في مدرسة المهندسخانة، ولتفوقه تم تعيينه مدرساً للرياضيات بها برتبة “الأسبران” أي الملازم.
وإثباتًا لتفوقه درس المهندس الشاب محمود باشا الفلكي اللغة الفرنسية حتى أتقنها، وبدأ يقرأ في نطاق تخصصه بهذه اللغة، ثم حقق أول إضافة حقيقية بترجمة كتاب في التفاضل والتكامل، فكان أول كتاب باللغة العربية في هذا العلم، وبدأ يدرسه مع الهندسة الفراغية والتحليلية وحساب المثلثات، وقد تتلمذ على يده علي مبارك (باشا فيما بعد، وكذلك وزير المعارف والأشغال)، وهو الذي سعى في إرسال محمود إلى فرنسا لدراسة علم الفلك عام 1850م لاستكمال عدته في هذا العلم، وكانت هذه البعثة الأولى في هذا التخصص منذ بدء البعثات العلمية في العشرينيات من القرن التاسع عشر.
وفي باريس اتخذ محمود باشا الفلكي من المرصد الفلكي بها مقرًّا لعمله ودراسته وأبحاثه، واستكمل كافة الشهادات الممكنة في هذا التخصص، ثم اختاره مدير المرصد “المسيو أراجو” مساعدًا له، واستمر في عمله وأبحاثه حتى عام 1859م، وقد استطاع محمود أن ينجز عدداً من الأبحاث الفلكية والجيوفزيقية، وقد حرصت المجلات العلمية المتخصصة على نشر أبحاثه بعد عرضها على الأكاديميات العلمية للتأكد من جدارتها وجدتها، وذاعت شهرته في الأوساط العلمية الأوروبية.
وعاد محمود إلى بلاده عام 1859م، وكان ذلك في عهد سعيد باشا، وقد تم تكليفه بعدة مهام علمية – سنعرض لها في سطور قادمة – أنجزها على خير وجه، وقد تولى عدة مناصب هامة مثل:
– ناظرًا لمدرسة المهندسخانة عام 1871م.
– نظارة الرصد خانة (هيئة الأرصاد).
– وزارة الأشغال العمومية سنة 1882م.
– وكيلاً ثم ناظرًا للمعارف (وزيرًا للتعليم).
– عضوًا ثم وكيلاً للمجمع العلمي في فرنسا.
– عضوًا ثم وكيلاً ثم رئيسًا للجمعية الجغرافية المصرية، وقد استمر رئيسًا لها حتى وفاته.
وقد تُوفِّي ودفن بالقاهرة في 19 يوليو 1885م.
إنجازاته العلمية:
1 – قام محمود باشا الفلكي بترجمة كتاب في علم التفاضل والتكامل من الفرنسية إلى العربية، وهو يُعَدُّ أول كتاب في العربية في هذا العلم، وقام بشرحه وتدريسه أثناء عمله في مدرسة المهندسخانة.
2 – بعد عودته عام 1859م، تم تكليفه من سعيد باشا (حاكم مصر في هذا الوقت) بوضع خريطة علمية مفصلة للقطر المصري، فقام بتكوين فريق عمل من شباب المهندسين، وقام بعمل مسح شامل للقطر المصري، وقام – ومعه الفريق – برفع كل شبر من أرض مصر، وتحديد ارتفاعه، وطبيعته الأرضية، وقياس مغناطيسية الأرض فيه، وتحديد موارد المياه، وطبيعتها، وتحديد أماكن فروع النيل القديمة والتي جفت، ثم وضع خريطة مفصلة لكافة المدن والقرى المصرية، وقد استغرق هذا العمل عشر سنوات كاملة.
3 – كانت مصر شرعت في تأسيس مرصد فلكي بها، وما إن عاد محمود وأتم دراسته الفلكية، تم تكليفه بإتمام بناء هذا العمل، فقام بتحديد الآلات المناسبة، وقام بالاتصال بالهيئات الأوروبية المختصة بصناعتها وأشرف على تسلمها وتركيبها، وقد قام بتغيير المكان الذي خُصِّص لبناء المرصد من بولاق إلى صحراء العباسية (مكان جامعة عين شمس حالياً)، واستطاع الانتهاء من هذا العمل في عام 1864م، وقد تم تعيينه ناظراً لهذا المرصد الذي عُرف باسم الرصد خانة.
4 – قام الرجل بعمل ساعة ضخمة على شكل مزولة فوق قصره، وفيها تحديد لوقت الظهر، ووقت العصر، وبها تحديد لنصف الساعة، وظلت قائمة حتى وفاته، ثم رفعت من فوق قصره الذي كان يقع أمام الميدان المعروف باسمه في القاهرة (ميدان الفلكي).
5 – وجَّه الرجل علمه إلى دراسة أحد أكبر المشكلات المصرية، وهي مشكلة فيضان النيل، فإن زيادته إغراق، وقلَّته إحراق، وقد شرع في جمع بيانات عن فيضان النيل طوال مدة أربعين سنة، تحديدًا من عام 1825م وحتى عام 1864م، ولأنه يعلم أن الله جعل لكل شيء سُنَّة وقانونًا، استطاع من خلال الدراسة أن يؤلف ثلاث رسائل فريدة في بابها وهي:
– “التنبؤ عن مقدار فيضان النيل قبل الفيضان” – وهذه الرسالة صارت أساسًا لتقديرات الري في مصر.
– والثانية هي “أعالي النيل لزيادة مياه الفيضان”
– والثالثة “بيان المزايا التي تترتب على إنشاء مرصد فلكي للظواهر الجوية”. وهذا النوع (وهو المعروف الآن باسم هيئة الأرصاد الجوية) لم يكن معروفاً إلا في دول محدودة في العالم، وكان الرجل حريصاً على تطوير بلاده علميًّا بما يخدم بلاده وينمِّيها.
6 – ومما يجب أن يسجل للرجل إبداعه لعلم الفلك الأثري
The Science of Astro – Archeology
وذلك في كتابه النفيس “الظواهر الفلكية المرتبطة ببناء الأهرام”
وفيه يضع أسسًا علمية فلكية في نطاق الآثار القديمة، وفي هذا المؤلَّف والذي وضعه بتكليف رسمي من الحكومة المصرية، وقضى ثلاث ليال بجوار الهرم الأكبر في الاعتدال الربيعي في شهر مارس، وأثبت أن جميع أوجه الهرم تميل على الأفق بمقدار ½52 درجة، وأن نجم الشِّعرى في ذروته يسقط ضوءه عموديًّا على الوجه الجنوبي للهرم؛ ليخترق فتحة التهوية فيضيء وجه الفرعون داخل حجرة الدفن، وأن البناء لم يتم هكذا بشكل عفوي، بل لأسباب عقائدية، حيث يمثل نجم الشعرى الإله أوزوريس رئيس محكمة الآخرة، وبنزول ضوئه على وجه الفرعون عند بلوغه ذروته تعني الرحمة بالميت.
ومن جانب آخر، فإن الأمر يعكس تحديداً لموعد بناء الهرم الأكبر، وأثبت أنه يرجع بهذا إلى إحدى المرات التي كان فيها ضوء الشعرى عموديًّا على الجانب الجنوبي، وبذلك حدد (في 11 مايو 1863م؛ أن بناء الهرم يرجع إلى اثنين وخمسين قرناً)، وقد قام عدة علماء آخرين (عالميين) ببحوث على نفس الموضوع، ولم تتغير النتيجة كثيراً عن نتيجة عالمنا محمود الفلكي.
7 – قدم الرجل مجموعة أبحاث علمية باللغة الفرنسية إلى المجلات العلمية التي تصدر عن الأكاديمية العلمية في أوروبا، وقد احتفت هذه المجلات بهذه الأبحاث لما فيها من إضافات حقيقية للعلوم الحديثة.
8 – طلبت أكاديمية العلوم بفرنسا من محمود الفلكي بالمشاركة في عملية رصد كسوف الشمس يوم 18 يوليو 1860م، وهذا الكسوف سوف تقوم عدة بعثات علمية برصده؛ لما له من أهمية علمية خاصة، وقد امتد هذا الكسوف من كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية وحتى الحبشة.
وعلى الرغم من صعوبة المكان الذي توجَّه إليه محمود، وهو دنقلة في السودان، من ناحية وسائل النقل وشدة الحرارة في يوليو، فقد تحمَّل الرجل رحلة شاقة لمدة عشرة أيام من الشلال إلى دنقلة – على ظهور الجمال، وقد فسدت بعض أجهزة الرصد الخاصة به، ولكن الرجل استطاع أن يتغلب على كافة الصعاب، ولم يكتفِ فقط بالمهمة المنوط به، فقد قام برفع المنطقة التي مر بها وعمل أول خريطة علمية لها، كما قاس مغناطيسية الأرض بكل بقعة مر بها، وقام أخيرًا برصد كسوف الشمس في المنطقة المطلوبة، وفي النهاية قام بتقديم تقرير علمي بكل ما قام به للأكاديمية، وقامت الأكاديمية بإحالته إلى لجنة من كبار الفلكيين العالميين، وورد تقرير اللجنة بما نصه:
“ما يشهد للقائم بالرصد بالدقة البالغة “، إن “هذا العمل الذي قام به يشرِّف الحكومة المصرية كما يشرِّف الفلكي البارع الذي قام به”، وأضاف التقرير أن محمود الفلكي “قد حدد المواقع الجغرافية للمراكز الهامة التي كان أكثرها غير معروف، كما حدد في كل مكان زاره أثناء تلك الرحلة عناصر المغناطيسية الأرضية..”.
وفي الختام يقرر العلماء أن العرب “لم يعودوا في حاجة إلى علماء أجانب؛ إذ لديهم علماؤهم من مواطنيهم، والعرب اليوم يدفعون الحركة العلمية إلى الأمام، مُظهرين بذلك أن الجنس الذي نقل علوم القدماء إلى الغرب لم يَعتَوِره ضعف أو وهن”. انتهى.
وفي النهاية وجهت الأكاديمية الشكر للرجل، ووافقت على تقريره واعتمدته بالإجماع في يوليو 1861م. وهذه هي شهادة أهل السبق في العلوم في العصر الحديث، وبها نختم الحديث عن محمود الفلكي.