حياة كل واحد منا لوحة فريدة، قد تشابه حياةً أخرى، لكنها لا تطابقها، كما يجري مع أوراق تنتمي إلى شجرة واحدة.سلك عدد غير قليل من الغربيين طريقهم نحو الإسلام، وكانت رحلة مراد ويلفريد هوفمان، التي دونها بقلمه، رحلةً فريدة وجميلة، وعامرةً بالأبعاد ومستحقةً للاطلاع.
في عام ١٩٣١، وفي ألمانيا التي تخطو من نكبة الحرب العالمية الأولى نحو نكبة الحرب العالمية الثانية، ولد مراد هوفمان، وعاش طفولته في بيئة كاثوليكية.. وانتمى مثل غيره من الفتيان إلى شبيبة هتلر، لكنه كان منتمياً كذلك إلى جماعة سرية مناهضة للنازية.
على الرغم من ثقافته الدينية الواسعة، ومعرفته الجيدة بالمعتقد المسيحي، كان الفتى قد أخضع اعتقاداته بشأن المسيحية إلى مراجعة جادة، أبعدته عن المعتقد المسيحي وإن لم تفلح في زعزعة إيمانه بوجود إله خلق هذا الكون ودبّر شؤونه.
ذات يوم، كان هوفمان شاباً ألمانياً جامعياً يدرس في الولايات المتحدة، حين تعرض لحادث مروري شنيع كلفه كثيراً من الإصابات في ذراعه ووجهه، وبعد عمليات جراحية عدة، قال له الطبيب: إن مثل هذالحادث لا ينجو منه في الواقع أحد، وإن الله يعد لك شيئاً خاصاً! وكان على العشرات من السنين أن تمر قبل أن يشهر هوفمان إسلامه مطلع الثمانينيات الميلادية.
يُعنى هوفمان بالفنون، يلاحظها بدقة، يتطلع إليها بشغف، ويخص الباليه بعناية استثنائية، فيحضر الدروس الخصوصية في رقص الباليه، ويكتب المقالات النقدية في كبريات الدوريات الأوربية والأمريكية، ويقوم بتدريس جماليات الباليه في معهد فني متخصص، ويقترح على الحكومة الألمانية تأسيس منظومة باليه ألمانية قومية.. حتى ليجهل كثير من الناس أن هذا الناقد الفني الشهير الهائم عشقاً في الباليه دبلوماسي كبير في الوقت ذاته.
هوفمان إنسان مغرم بالتفاصيل، يغوص في الباليه حتى يسلمه تأمله إلى البحث عن مبررات عنايته الشديدة بذلك الرقص، ويقوده ذلك التساؤل إلى البحث في فلسفة الجمال لدى الشرق والغرب، وهو ما يقوده إلى الشغف بالفن الإسلامي، والاهتمام بتأمل العمارة الإسلامية، التي كانت واحداً من السبل التي أدخلته على الإسلام، من بوابة الجمال!
وتسوق الأقدار الربانية هوفمان إلى الجزائر حيث يعمل ضمن طاقم البعثة الدبلوماسية الألمانية هناك، في وقت لم تنعم فيه الجزائر بعد باستقلالها عن المحتل الفرنسي الذي أمعن في الشعب الجزائري تقتيلاً وتنكيلاً، وعاش الناس في الجزائر حياةً أكثر من صعبة، مترعة بالوجع والألم وفقد الأحبة الذين كانوا يغادرون الحياة لغير ذنب.
تلك المشاهدات الموجعة التي عاشها هوفمان أبدت له شيئاً عجيباً، هو مدى تحمل الجزائريين لآلامهم، ويقينهم الشديد بانتصارهم ولو بعد حين، إضافة إلى سلوكهم الإنساني النبيل وسط تلك الظروف القاسية التي كانوا يعانونها.
ففي ذات مرة، تتعرض زوجُ هوفمان لنزيف يفقدها جنينها ويوشك أن يفقدها حياتها، ويهب الجزائريون لنجدة تلك المرأة التي لا توافقهم الدين، حتى تتماثل نحو العافية من جديد.
لم يكن مفهوماً ولا معقولاً في نظر هوفمان ما يتمتع به هؤلاء الجزائريون من لياقة نفسية عالية رغم كل ما يحيط بهم من أهوال، وهداه تفكيره إلى أن يخمّن أن هؤلاء القوم ينتمون إلى دينٍ مختلف، يعينهم على حياتهم الصعبة.. ذات الدين الذي أبدع المنتمون إليه فناً معمارياً آسراً.
ويقدم هوفمان على قراءة القرآن الكريم لكي يتعرف من خلاله على تلك القوة الساحرة التي تمد الشعب الجزائري بكل تلك القوة.. ويقترب من الإسلام خطوات أخرى.
كان هوفمان رجلاً متأملاً، ذا عقلية منظمة، وروح شغوفٍ بالبحث عن الخلاص، وأوصلته تأملاته في العقائد إلى استنتاج بأن عقيدة الإسلام هي أصفى وأبسط تصور لله، ورأى في الإسلام عقيدة التوحيد الأولى التي لم تتعرض لما تعرضت له العقائد الأخرى من تشويه وتزوير وانحراف.
وشيئاً فشيئاً، كان هوفمان يقترب من الإسلام، ويصبح مسلماً تقريباً دون أن يدري!
ففي ذات يومٍ يُطلع هوفمان واحداً من زملائه المسلمين على مخطوط مكون من اثنتي عشرة صفحة، كتبها على مر السنين مضمناً داخلها آراءه الفلسفية، يصعق الزميل المسلم بما يقرأ؛ فيخبر هوفمان بأنه إن كان يعتقد بما في تلك الصفحات فإنه مسلم تقريباً، كانت تلك المحادثة خطوةً قرّبت هوفمان من إشهار إسلامه بعد أيام قليلة، في ٢٥ من شهر سبتمبر عام ١٩٨٠.
أن يشهر دبلوماسي ومفكر ألماني إسلامه، كان ذلك شيقاً، مدوياً، جعل من نصيب “مراد هوفمان” السفر لأداء فريضة الحج ضمن ضيوف الملك فهد..
يقول هوفمان وهو يصف بعض استعداداته لرحلة الحج:”لقد قرأت وصفاً تفصيلياً للحج من القرن التاسع عشر، قرأت لريتشارد بورتون في كتابه الصادر في جزءين عام ١٨٥٣، وقرأت (رحلة حج إلى مكة) لفون مالتزان هارنيتش عام ١٨٦٠، وفي وصف رحلة السويسري المسلم جوهان لودويغ بوركلر، والذي عُرف بالشيخ إبراهيم بن عبدالله بعد أن أعلن إسلامه”.
وأخذ هوفمان يتزود من المعرفة بأحكام الحج وعباداته قبل أن تقلع به الرحلة إلى الديار الطاهرة التي وصفها على نحوٍ فريد وماتع في كتابه “الطريق إلى مكة”..
من الجميل أن يستمتع المرء بقراءة وصف مسلم جديد ينتمي إلى ألمانيا لمشاهد الحج وتفاعل الحجيج من كل الجنسيات ومختلف الثقافات مع بعضهم في تجربة قد أخذت بلبّ الكاتب حقاً.. حتى إنه ليقول في وصف مشهد الكعبة المشرفة وقد تلاطمت حولها أمواج الحجيج من موقعه في الطابق الثاني من المسجد الحرام:
“النظر من هنا إلى أسفل يكاد يكون كالتنويم المغناطيسي، والمشهد شديد الجمال، فالكعبة تبدو كمركز ثابت لا يتحرك لأسطوانة تدور ببطء وفي سكون تام في اتجاه مضاد لاتجاه عقارب الساعة، ولا يتغير هذا المشهد إلا عند الصلاة، حيث تصير الكعبة مركزا لدوائر عديدة متحدة المركز، تتكون من مئات الآلاف من أجسام ناصعة البياض، لأنأس يرغبون في، ويبحثون عن، ويفعلون الشيء ذاته، رمزا لتسليم النفس إلى بارئها..”
القادمون إلى الإسلام من سياق حضاري واجتماعي مختلف، يستطيعون أن يلمحوا جوانب لا تلتقطها عيوننا من جماليات الإسلام وأثرها في سلوك الناس، وهذا يجعل القراءة لهم وعنهم شيئاً مستحقاً.