لرمضان في حياة البشرية من الذكريات ما ليس لغيره ، فهو ضيف يهل زائرا كل عام ، فيستعد لمجيئه أهل السماء قبل أهل الأرض ،  يفتح الله فيه باب الجنة ، ويغلق فيه باب الجحيم ، وتُصفد فيه الشياطين ، ويُنادي مناد : يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشر أقصر. فكيف كان حال السابقين مع رمضان؟

وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يتهيأ له بما لم يتهيأ به لغيره من الشهور ، فيضاعف فيه من العبادات ، وفعل الطاعات ، والإقبال على ربه ؛ حتى قبل مبعثه ، إذ اعتاد كل عام أن يصحب زاده ويصعد به إلى غار حراء ، يترفع عن الدنيا ، ويسمو إلى السماء ..

فلما اصطفاه الله سبحانه وتعالى رسولا ، وكان الاصطفاء في رمضان صار يقدر لهذا الشهر قدره ، ويقوم لله في ليله حتى تتفطر قدماه ؛ شكرا لله على هذا الاصطفاء ، كما اعتاد جبريل عليه السلام أن يهبط إليه كل يوم بأمر ربه فيدارسه القرآن الكريم ، فيزيده ذلك صفاء على صفائه ، وكرما على كرمه ، فقد ورد في كتب الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان ، وفي رواية أخرى ” أجود من الريح المرسلة ” حين يلقاه جبريل ، ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه : “كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير ، وأعطى كل سائل ..

وسار على سنته السلف الصالح ، فكانوا إذا أهل عليهم رمضان شمروا عن ساعد الجد ، واجتهدوا في العمل الصالح طمعاً في مرضاة الله ورجاء في تحصيل ثوابه ، وتدارسوا القرآن كما تدارسه رسول الله ، وسهروا على تلاوته ليلا كما كان يسهر رسول الله ..

 وهذه رسالة أكتبها على عجل أبين فيها كيف كان حال السابقين في رمضان ، وكيف كانوا يقضون أيامه وساعاته ، وكيف كانوا يحسنون الاستفادة من نفحاته خير إفادة ، لعلنا نستطيع أن نقتدي بهم في هذا الأمر فنفوز كما فازوا ، وننعم بلذة الطاعة كما نعموا ، داعيا الله  سبحانه وتعالى أن يحشرنا معهم في رفقة النبي صلى الله عليه وسلم ” إخوانا على سرر متقابلين ” وأن يجعل هلال رمضان علينا هلال خير وبركة ، وأن يجعله بداية لإزالة الغمة عن سائر المسلمين ، وأن يرفع عنا ببركة رمضان البلاء والغلاء ، إنه نعم المولى ونعم المجيب.

ولتبدأ بالسابقين مع تلاوة قراءة القرآن الكريم في رمضان : فالقرآن كلام الله سبحانه ، يستمد عظمته وجلاله من عظمة الله عز وجل ، كما أنه المنهج الذي وضعه جل شأنه للإنسان ليسير عليه كي يحقق الغاية التي أوجده من أجلها ، ولذلك فإن دراسته هي السبيل لمرضاة الله وجلب الراحة والطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة ..

ليس فقط بل هو مأدبة الله التي يدعو إليها من أحب من عبادة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ ، فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ وَالنُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، وَنَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ ، لاَ يَزِيغُ فَيَسْتَعْتِبُ ، وَلاَ يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ ، وَلاَ يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ ، فَاتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلاَوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ ، أَمَا إِنِّي لاَ أَقُولُ الم وَلَكِنْ بِأَلِفٍ وَلاَمٍ وَمِيمٍ” .

ولذلك عندما نتحدث عن حال السابقين مع رمضان، نجد أن السلف الصالح كانوا يتسابقون إلى تلك المأدبة، ويتنافسون فيها ، وخاصة في شهر رمضان المبارك الذي خصه الله سبحانه وتعالى دون شهور السنة بإنزاله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذا الأسود بن يزيد رضي الله عنه يُروى عنه أنه كان يعكف على القرآن في رمضان حتى يختمه كل ليلتين ، وكذلك كان يفعل سعيد بن جبير ..

وكان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة.

وهذا محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله كان يجلس بعد صلاة القيام ليختم القرآن كل ثلاث ليالٍ .

وهذا مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة كان إذا دخل عليه رمضان يقبل على تلاوة القرآن من المصحف ، ويترك كل شيء حتى مدارسة الحديث ، ومجالسة أهل العلم  ..

وهذا سفيان الثوري رحمه الله كان إذا دخل عليه رمضان أيضا ترك كل مشاغل الدنيا ، وأقبل على قراءة القرآن ..

وكان الزهري رحمه الله إذا دخل عليه رمضان يفر من قراءة الحديث ، ومجالسة أهل العلم ، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.

وكان المازني البصري علامة زمانه في الفقه والنحو رحمه الله تعالى إذا دخل شهر رمضان لا ينشد بيتا من الشعر حتى ينتهي  ، وإنما كان شغله قراءة القرآن ..

هكذا كان حال السابقين مع رمضان، فقد ترك هؤلاء فضائل الأعمال التي هي دون القرآن الكريم في المثوبة والأجر ، فما بالنا نحن لا نريد أن نعزم على ترك المحرمات والمكروهات في تلك الأوقات التي ينادينا فيها منادي السماء : أن يا باغي الخير أقبل ؟!!

كما كان الرجل من السلف الصالح  يحرص على أن يُشرك أهله وأصحابه في ذلك الفضل، فهذا زبيد اليامي كان إذا حضر رمضان أحضر المصحف ، وجمع إليه أصحابه  ..

وبعضهم كان يخصص ختمة لأولاده يجمعهم عليها ؛ لينشئوا على تعظيم رمضان وحب القرآن ..

ومنهم من كان يستغل الفترة من بعد الإفطار إلى صلاة العشاء ، وهي الفترة التي يقضيها الناس الآن في تسالي التلفاز في تلاوة القرآن ، ويجعل لنفسه ختمة مخصصة بهذه الفترة ، مثل سعيد بن جبير ، وساعدهم على ذلك أنهم كانوا يؤخرون صلاة العشاء في شهر رمضان تأخيرا شديدا ،  كما قال ابن عساكر في تاريخ دمشق ، فهل من مشمر للحاق بهم ؟؟ ..

وفي خضم الحديث عن حال السابقين مع رمضان ، نرى أنه من العجب أن الملوك من السابقين كانوا يسابقون سائر العباد في ذلك المضمار ، ولا عجب فكان علو الهمة عند أحدهم يجعله يطمع في أن يكون صاحب المنزلة العالية في الآخرة كما كان صاحب الملك في الدنيا ، فهذا الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي يُذكر عنه أنه كان يختم القرآن في كل ثلاثٍ.. وكان المأمون الخليفة العباسي يكثر من قراءة القرآن في شهر رمضان حتى يكون في صوته بُحة  ..

وهذا الحجاج رغم مشاغله في الثورات والفتوحات كان يعين له قارئا في رمضان يقرأ عليه القرآن الكريم ..  

السابقون والتهجد لله سبحانه وتعالى في رمضان : التهجد أو قيام الليل دأب الصالحين ، حيث وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله : ” والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ” وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصف عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : “إنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ “..

 وهو سمة الذاكرين لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ ..

وهو العلامة التي يعرف بها المتقون ، كما قال الله سبحانه وتعالى وهو يثني عليهم : ” إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ  وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ “.

ولذلك كان السابقون حريصين على أداء تلك العبادة ( عبادة قيام الليل ) فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان إذا هدأت العيون قام فيُسَمعُ له دوي كدوي النحل حتى يصبح ، وكان طاووس رحمه الله إذا اضطجع على فراشه يتقلب عليه كما تتقلب الحبة على المقلاة ثم يثب ويصلي إلى الصباح ، ثم يقول: طيّر ذكر جهنم نوم العابدين ، وكان الحسن رحمه الله يقول : ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل ونفقة هذا المال ، فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره ، وكان عبد العزيز بن رواد إذا جن عليه الليل يأتي فراشه فيمد يده عليه ويقول: إنك للين ووالله إن في الجنة لألين منك ، ولا يزال يصلي الليل كله ، وكان الفضيل بن عياض يقول : إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأصبح وما قضيت نهمتي .

هذا كان حالهم في سائر الأيام فإذا ما جاءهم رمضان أكثروا من القيام ، وبالغوا في التهجد من الليل حتى كان بعضهم يقضي جُلّ الليل في التبتل إلى الله أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أنه قال : سمعت أبي يقول:” كنا ننصرف في رمضان من القيام فيستعجل أحدنا الخدم بالطعام مخافة الفجر “.

وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا فرغ  الناس من الصلاة بالمسجد أخذ إداوةً ( إناء يصنع من الجلد ) من ماءٍ ثم عاد إليه ، فلا يخرج منه حتى يصلي فيه الصبح .

وصار من السابقين من يختم القرآن في تهجده كل عشرة أيام ، ومنهم من يختمه في تهجده كل سبع ليال.

وحتى من تقدم بهم السن قد حرصوا على أخذ قسطهم من هذا الزاد ، حكا الوليد بن علي عن أبيه أن سويد بن غفلة كان يؤمنا في شهر رمضان في القيام ، وقد أتى عليه عشرون ومائة سنة ..

وبعضهم كان يتقاسم ليله مع أهله وأولاده ، قال أبو عثمان النهدي: تضيّفت أبا هريرة رضي الله عنه سبعاً ( أي نزلت عليه ضيفا ) فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً ، يصلي هذا ثم يوقظ هذا  ..

ولم ينتشر ذلك بين الصفوة فقط ، وإنما كان أمرا مألوفا لدى عامة الناس ، يقول نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما : سمعت ابن أبي ملكية يقول: كنت أقوم بالناس في شهر رمضان فأقرأ في الركعة الحمد لله فاطر ونحوها، وما يبلغني أنّ أحداً يستثقل ذلك .

وقال يزيد بن خصفة عن السائب بن يزيد : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة ، وكانوا يقرءون بالمائتين ، وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من شدة القيام ..

وهذا المثنى بن سعيد يقول: أدركت هذا المسجد ( مسجد بني ضبيعة ) وإمامهم يصلي بهم في رمضان ، يختم بهم في كل ثلاث رجل يقال له عمران بن عصام، وصلى فيهم قتادة بعده ، فكان يختم في كل سبع ..

فهل نعجز عن أن نكون مثل هؤلاء ؟! كلا ! وإنما نحتاج فقط إلى قليل من العزم مع التفكر فيما ينتظر من يفعل مثل ذلك من النعيم الدائم في جنات عرضها كعرض السموات والأرض ..

ولا يفوتنا أن نذكر أن هؤلاء السابقين كانوا يحرصون على التدبر في فيما يقرءون ويسمعون ، ولم يكن همُّ أحدهم فقط كم قرأ في كل ركعة  ، فهذا سعيد بن جبير كان يصلي بالناس في رمضان ، ويرجّع القراءة ، فربما أعاد الآية مرتين ..

وكذلك حرصوا على القراءة في الصلاة من ذاكرتهم دون مصحف ، وكانوا يكرهون القراءة للصلاة في المصحف ، وإن وردت عن البعض فيها إباحة ، فقد جاء في تاريخ بغداد عن سويد بن حنظلة البكري أنه مر بقوم يؤمهم رجل في المصحف في رمضان فكره ذلك ، ونحّى المصحف .  

وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان يكره أن يؤم الرجل الناس بالليل في شهر رمضان في المصحف ، وقال : هو من فعل أهل الكتاب ؛ ولأن ذلك ربما شغل القارئ عند التدبر فيما يقرأ ، ويكون كل تركيزه في متابعة القراءة ..

وللأسف هذا العادة انتشرت هذه الأيام مع كثرة الحفاظ ، فإذا كان عذر السابقين أنهم لم يجدوا الحفاظ من الكثير ، فما عذرنا نحن وحفاظنا يعدون بالآلاف المؤلفة؟! ..

ونذكر أيضا أن المقرئين الذين كانوا يؤمون الناس في الصلاة كانوا يحرصون على أن يجعلوا صلاتهم بالناس دون مقابل إلا من كان إماما راتبا من قبل الدولة ؛ طمعا في ثواب الله في الآخرة ، فقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق معاوية بن قرة أنه قال : كنت نازلا على عمرو بن النعمان بن مقرن ، فلما حضر رمضان أتاه رجل بكيس دراهم فقال : إن الأمير مصعب بن الزبير يقرئك السلام ، ويقول : لم يدع قارئا إلا وقد وصل إليه منا معروف ، فاستعن بهذا ، فقال : قل له والله ما قرأنا القرآن نريد به الدنيا ، ورده عليه..

كما كانوا يلومون من يأخذ أجرة على صلاته بالناس ، فقد ورد أن رجلا أعمى كان يجالس سفيان الثوري فإذا كان شهر رمضان خرج إلى السواد ( القرى الزراعية ) فيصلي بالناس فيُكسى ويوهب له ، فقال سفيان : إذا كان يوم القيامة أثيب أهل القرآن من قراءتهم ، ويقال لمثل هذا : قد تعجلت ثوابك ، فقال له الرجل : يا أبا عبد الله تقول هذا لي وأنا جليس لك ؟ قال : إني أتخوف أن يقال لي يوم القيامة : إنه كان جليس لك أفلا نصحته.

وأنا أنصح كل قارئ بما نصح به سفيان الثوري صاحبه ، وأقول لهم : لا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.

ولم يرض القراء بجعل قراءتهم ابتغاء ثواب الآخرة فقط ، بل حرصوا بصفتهم أهل القرآن على أن يتفوقوا على غيرهم في الاجتهاد في رمضان ، فهذا رجل يسمى ابن اللبان كان يصلي بالناس صلاة التراويح في جميع الشهر ، وكان إذا فرغ من صلاته بالناس في كل ليلة لا يزال قائما في المسجد يصلى حتى يطلع الفجر ، فإذا صلى الفجر دارس أصحابه ، وقد وصفه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بقوله : وكان ورده كل ليلة فيما يصلي لنفسه سبعا من القرآن ، يقرأه بترتيل وتمهل ، ولم أر أجود ولا أحسن قراءة منه ..

وهذا البخاري  كان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ، فإذا جاءه السحر أقبل يقرأ ما بين النصف إلى الثلث من القرآن ..

وما بعث الله نبيا إلى قوم إلا كانوا أكثرهم اجتهادا في فعل الصالحات ، وهكذا ينبغي أن يكون الأئمة الدعاة من بعدهم .

وأخيرا أقول : إنه كان من سنة السابقين في رمضان أن يأتوا بالأشربة في المساجد أوقات القيام والتهجد ، فيشرب منها الفقراء وغير الفقراء ، كما كانوا يقومون بتطييب المساجد في رمضان والجمع كي لا تتغير رائحتها بسبب طول المكث فيها فيملها الناس ، وقد ورد في تاريخ دمشق أن مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ المجمر قدّامه إذا خرج إلى الصلاة في شهر رمضان ، فما أجملها من خلال !! وما أحسنها من فضائل..   

 رمضان وولاة الأمر من السابقين : إن الحاكم في الإسلام كما هو مطالب بأن ييسر لرعيته سبل المعاش والحياة الهانئة في الدنيا مطالب أيضا بأن يرشدهم إلى ما يثقل موازينهم في جنة الخلد يوم القيامة، وكما هو مطالب بأن ينجيهم من كوارث الدنيا وأوبائها وأمراضها مطالب أيضا بأن يساعدهم على أن ينجو من عذاب الله وغضبه في الآخرة ، تطبيقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ” الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ” .  

ولذلك كان ولاة الأمر من السابقين الصالح يقومون بدور مشكور في تشجيع الناس على ذلك  ، ويحضونهم على قيام الليل في رمضان حضا ، ويجمعونهم في المساجد،  ويرتبون لهم القراء ليصلوا بهم ،  ومثال على ذلك ما  جاء عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أُبَي بن كعب وتميما الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان ..

وفي رواية أخرى أنه جعل بالمدينة ثلاثة قراء يقرءون في رمضان، فأمر أسرعهم أن يقرأ بثلاثين آية ، وأمر أوسطهم أن يقرأ بخمس وعشرين ، وأمر أدناهم أن يقرأ بعشرين .. وكتب بذلك إلى سائر البلدان المسلمة ليتأسوا به ..

وجاء في  تاريخ دمشق لابن عساكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يأمر الناس بقيام رمضان ، ويأمّر للرجال إماما ، وللنساء إماما ..

كما كان ولاة الأمر من السلف يوسعون على الناس في أرزاقهم إذا هل رمضان ،  فقد ذكر الشعبي أن عمر رضي الله  عنه زاد الناس مائة مائة ، يعني في عطاء كل واحد من جند المسلمين ، وكان قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه ، ولأمهات المؤمنين درهمين درهمين ، فلما ولي عثمان رضي الله عنه أقر ذلك وزاده ، واتخذ سماطا في المسجد أيضا للمتعبدين والمعتكفين وأبناء السبيل والفقراء والمساكين ..

هذا فضلا عن سعيهم  للقضاء على كل ما ينقص من قدر رمضان ، أو يفسد على الناس جوهم الإيماني ، فقد ورد أن شاعرا يسمى النجاشي مر بآخر يسمى أبا سماك الأسدي في رمضان فدعاه إلى الشرب فأجابه ، فبلغ ذلك عليا رضي الله عنه فأخذ النجاشي وهرب أبو سماك ، فجلده علي رضي الله عنه ثم زاده عشرين على حد السكر ، فقال له : ما هذه العلاوة ، فقال : لجرأتك على الله في شهر رمضان وصبياننا صيام ..

وجيء إلى عمر رضي الله عنه برجل قد أفطر في رمضان فجعل يضربه ويقول : تفعل هذا وصبياننا صيام ، ثم نفاه إلى الشام ..

فلماذا لا يقوم ولاة أمر المسلمين الآن بتأديب كل من يتعدى على حرمة الشهر المبارك ، ويفسد على الناس طاعتهم ، ويوصون القائمين على  الإعلام باتقاء الله فيما يعرض في الفضائيات من مفاسد في هذا الشهر المبارك قبل أن يأتي يوم القيامة فيحاسبون على أوزار الناس مع أوزارهم ، وليحرصوا على أن ينجوا بأنفسهم يوم لا ينفع لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، هذا اليوم الذي لو كان مع النفس البشرية ما في الأرض جميعا ومثله معه ما استطاعت أن تفتدي به من عذاب الله .. 

السابقون والإنفاق في سبيل الله في رمضان : الصدقة تطفئ غضب الرب ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ” ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا طيبا ـ إلا كان الله آخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تبلغ التمرة مثل أحد ” ( وقال صلى الله عليه وسلم ” كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس ” وقال صلى الله عليه وسلم ” الصدقة تسد سبعين باباً من الشر ” ..

عرف السابقين كل هذا الفضل للتصدق والإنفاق في سبيل الله فأقبلوا عليه بنفس راضية ، بل وتسابقوا فيه وتنافسوا ، وكان أحدهم يرى نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من حاجة الفقير المسكين إليها ، قال الشعبي: ” من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه “.

وكان ذلكم التسابق وهذا التنافس بينهم يزداد بحلول شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أكرم من الرياح المرسلة ، يقول يونس بن يزيد وهو يصف حال ابن شهاب الزهري المحدث الشهير : ” كان ابن شهاب إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن ، وإطعام الطعام ..

وهذا حماد بن أبي سليمان يُروى أنه كان يضيف في شهر رمضان خمسين رجلا كل ليلة ، فإذا كانت ليلة العيد كساهم ، وأعطى كل رجل منهم مائة درهم..

وكان إطعام الفقراء والجود عليهم سمة مألوفة عند الموسرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول : حضر رمضان ونحن في أهل الصفة فصمنا ، فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل السعة فأخذه فانطلق به فعشاه..

بل إن بعضهم كان يجود بإفطاره الذي يعده لنفسه ، فهذا أحمد بن حنبل يأتي إليه سائل فيدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ، ثم يُطوي ويصبح صائماً، كما ورد أيضا أن داوود الطائي ومالك بن دينار كانا يؤثران بفطورهما وهم صائمان..

وكان ابن عمر رضي لله عنهما يصوم ولا يفطر إلاَّ مع المساكين، فإذا منعهم أهله عنه لم يتعشَّ تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل ..

وكان الشافعي يقول: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصَّوم والصلاة عن مكاسبهم ..

وهذا السلطان ألب أرسلان يتفقد الفقراء في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار ( الدينار كان متوسط وزنه 4 جرامات ذهب ) أما صلاح الدين الأيوبي فذُكر أنه أقام بالقدس قبل حطين جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن ، وكلما وفد عليه أحد من رؤساء الفرنج للزيارة فعل معه غاية الإكرام تأليفا لقلوبهم كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ..

وهذا أحد الخلفاء العباسيين يرتب عشرين دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء ، يُطبَخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ، ويحمل إليها أيضا من الخبز النقي والحلواء شيء كثير ، وذاك آخر ـ أحسبه المستنصر ـ كان يقف على أمواله ويقول : أترى أعيش حتى أنفقها كلها ، فكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات ، وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء لاسيما في شهر رمضان .. 

وحكي أنه اجتاز راكبا في بعض أزقة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان فرأى شيخا كبيرا ، ومعه إناء فيه طعام قد حمله من محلة إلى محلة أخرى ، فقال : أيها الشيخ لم لا أخذت الطعام من محلتك ، أو أنت محتاج تأخذ من المحلتين ؟ فقال : لا والله يا سيدي ، ولم يعرف أنه الخليفة ، ولكني شيخ كبير وقد نزل بي الوقت ، وأنا أستحي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت الطعام فيشمت بي من كان يبغضني ، فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطعام ، وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لا يراني أحد ، فبكى الخليفة المستنصر ، وأمر له بألف دينار ، فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحا شديدا ، حتى قيل : إنه انشق قلبه من شدة الفرح ، ولم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوما ..

وفي عصرنا مثل هؤلاء الأثرياء الكثير والكثير ، وبإمكانهم أن يخلدوا ذكراهم بالنفقة في سبيل الله كما خلد هؤلاء ذكراهم فيفوزا بطيب الدارين الدنيا والآخرة ، فهلموا أيها الكرماء !!!!!

وأذكر أن جود السابقين وكرمهم في رمضان قد امتد ليصل إلى المساجين ، فقد جاء في تاريخ دمشق أن زياد بن عبيد الله ـ وكان أميرا على مكة في عهد العباسيين ـ قال لصاحب له : يا أبا العلاء قد حضر هذا الشهر المبارك ، وقد رققت لأهل السجن لما هم فيه من الضر ، وقد رأيت أن أصيرك إليهم فتلهيهم بالنهار ، وتصلي بهم بالليل ..

ولو نظر أهل الخير للمساجين في عصرنا نظرة هذا الرجل لهدى الله أكثرهم للخير ، ولحقق المجتمع من وراء هدايتهم الكثير والكثير ، لأنهم سيكونون عناصر خيرة وإيجابية بعد خروجهم من السجن ..

 السابقون والاعتدال في الطعام والشراب في رمضان : نقل أبو حامد الغزالي عن بعض الصالحين قوله : ” إن الأكل من الدين، وعليه نبه رب العالمين بقوله وهو أصدق القائلين ” كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ” وذلك لأن الأكل والشرب وسيلة التقوي على الحياة ، وبدون تلك الوسيلة لا يستطيع الإنسان عبادة ربه ، ولكي يؤدي الأكل تلك الوظيفة لابد من الاعتدال وعدم الإسراف فيه كما أمرنا الله سبحانه وتعالى في قوله عز وجل : ” كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ” ذلك لأن الإسراف يضر بصحة الإنسان بدلا من أن يفيدها ، ويجعل الطعام عليها نقمة لا نعمة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم خير قدوة في هذا الأمر ، ونصح أصحابه وسائر المسلمين بالتوسط والاعتدال بعد أن بين لهم أن الطعام الكثير شر ما يدخل على معدة المرء فقال صلى الله عليه وسلم “: ما ملا آدمي وعاء شرا من بطنه حسب بن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن غلبته نفسه فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس ” .

وإذا كان المسلم يحتاج إلى ما يقويه ويعينه على الصيام في وجبتي الإفطار والسحور فلا بأس له بذلك ، وقد ورد في زاد المعاد لابن القيم عن الزهري وكان من خيار التابعين أنه كان يأكل اللحم في رمضان ويقول : أكلُ اللحم يزيد سبعين قوة ، وذكر نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عبد الله إذا كان رمضان لم يفته اللحم ..

إلا أن ذلك ينبغي ألا يحول هذا الشهر المبارك إلى موسم لعرض الموائد التي ترهق كاهل الأسرة المسلمة ، وتجعلها تحتاج للاستدانة في أحايين كثيرة ، مع إن المفترض أن المسلم بصيامه يوفر وجبة كل يوم من الثلاث وجبات ، وبالتالي تكون نسبة التوفير فيه تعادل 33 % من نفقته اليومية ، ويمكن أن يستفاد بها في أوجه أخرى من أوجه الإنفاق ، ولعل هذا ـ والله أعلم ـ ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن شهر رمضان :” ..  شهر يزاد فيه رزق المؤمن .. ” .

وهذان نموذجان أذكرهما للدلالة على اعتدال السابقين في تناول طعامهم وشرابهم في هذا الشهر المبارك ، النموذج الأول هو الخليفة العباسي المهتدي الذي حكم العالم الإسلامي في أوج مجده وغناه يقول عنه أبو العباس هاشم بن القاسم : “كنت عند المهتدي عشيَّةً في رمضان فقمت لأنصرف ، فقال: اجلس، فجلست، فصلى بنا، ودعا بالطعام ، فأحضر طبقا عليه أرغفة وآنية فيها ملح وزيت وخل فدعاني إلى الأكل فأكلت أكل من ينتظر الطبيخ فقال: ألم تكن صائماًً؟ قلت: بلى، قال: فكل واستوفِ ، فليس هنا غير ما ترى!..

والثاني هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي ورد عنه أنه كان في رمضان الذي قُتل فيه يتعشى ليلة عند الحسن ، وليلة عند الحسين ، وليلة عند عبد الله بن جعفر ، لا يزيد على لقم معدودة، ويقول : يأتي أمر الله وأنا خميص ، فعل ذلك وهو خليفة للمسلمين ..

ولا نطالب من وسّع الله عليه أن يتشبه في طعامه بعلي رضي الله عنه ولا بالمهدي في تقشفهما ، وإنما فقط أن يلتزموا بقول الله تعالى :” كلوا واشربوا ولا تسرفوا ” وألا يُذهبوا طيباتهم في الحياة الدنيا ، وألا يخرجوا بالصيام عن مقصده ، وألا ينسوا أن حولنا من المسلمين من لا يجدون ما يسدون به رمقهم ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان يقول : ” ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم ” .

السابقون وسنة الاعتكاف في رمضان : روى ابن ماجة في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” فِي الْمُعْتَكِفِ هُوَ يَعْكِفُ الذُّنُوبَ وَيُجْرَى لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا .

وورد في الأثر ” من اعتكف يوما ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين ” ([19]) وذلك لما فيه من خلو المرء بنفسه ، وابتعاده قليلا عن دوامة الحياة وضوضائها التي تلهي القلب وتشغله عن التفكر في مصيره ومآله بعد موته ..

وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على سنة الاعتكاف مدة بقائه بالمدينة المنورة بعد هجرته ، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله »وعن أنس رضي الله عنه أنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان مقيما يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، فإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين».

وروي عن أنس رضي الله عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان  إذا حان العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه ، وشد مئزره ، واجتنب النساء ، وجعل عشاءه سحورا  ..  

واقتدى الصحابة ـ رجالا ونساء ـ بالنبي صلى الله عليه وسلم في المحافظة على سنة الاعتكاف ، فقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم ( أي أصحابه ) يجهرون بالقراءة، وهو في قبة له، فكشف الستر، وقال: ” إذا كان أحدكم يناجي ربه، فلا يرفعن بعضكم على بعض القراءة ” .

وصار على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السلف الصالح عبر التاريخ .. ، حتى رأينا من يذكر عنه : أنه ظل ستين سنة كاملة يعتكف في العشر الأخير من رمضان .

السابقون ومدارسة العلم وتدريسه في رمضان: العلم خير ما يرزق بها الإنسان ، ويعظم فضله إذا ما اقترن بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ، كما قال ربنا عز وجل : ” يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ” .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام.

وهذا الفضل جعل السلف الصالح يقبلون على العلم تعلما وتعليما بشغف ، وكانت رغباتهم إليه تزداد في رمضان حيث يضاعف ثواب العمل الصالح  ، فهذا  ابن عباس رضي الله عنهما وهو أمير البصرة كان يغشى الناس في رمضان فما ينقضي الشهر حتى يفقههم ..

 ولعل ابن عباس لم يتفرغ للقرآن في رمضان كما فعل الزهري ومالك لأنه كان رجلا أميرا يرى من المسئولية عليه أن يضاعف من جهده في تفقيه الناس ، أما مالك والزهري فكانا يعلمان الحديث تطوعا ، فرأيا أن من الأفضل أن يتفرغا لأنفسهما في هذا الشهر ، ويؤكد ذلك أن مالكا لما سئل عن ذلك قال : شهر أحب أن أتفرغ فيه لنفسي ..

ويؤيده أيضا ما قاله النووي في الأذكار : والمختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له فهم ما يقرأ ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو فصل الحكومات بين المسلمين أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامَّة للمسلمين فليقتصر على قدر لا يحصل له بسببه إخلال بما هو مرصد له ، ولا فوت كماله ، ومن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثْر ما أمكنه من غير خروج إلى حدّ الملل أو الهذرمة في القراءة ..

أخلاق السابقين في رمضان : وكان من هدي السابقين في رمضان أيضا الصبر على الصوم مهما كان شاقا ، فقد روي عن الأحنف بن قيس أنه قيل له : إنك شيخ كبير ، وإن الصيام يضعفك ، فقال : إني أعده لسفر طويل ، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه..  

كما كانوا يتصفون بالصراحة والشفافية مع النفس ، ومع الغير ، فلا يتردد أحدهم إذا وقع في الخطأ أن يقر بخطئه ، فهذا الصحابي سلمة بن صخر رضي الله عنه يقول :  كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب منها شيئا فيتبع بي حتى أصبح ، فتظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء ، فلم ألبث أن نزوت عليها ، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم ، فقلت لهم : امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لا نمشي معك ، وما نأمن أن ينزل فيك قرآن ، أو يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك مقالة يلزمنا عارها ، ولنسلمنك بجريرتك ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت بذاك يا سلمة ، فقلت : أنا بذاك وها أنذا صابر لأمر الله ، فاحكم بما شئت ، فقال لي : حرر رقبة ، فضربت صفحة رقبتي ، وقلت : والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك رقبة غيرها، قال : فصم شهرين متتابعين ، فقلت : وهل أصابني الذي أصابني إلا في الصوم ؟!! قال : فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا ، فقلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ، ما لنا طعام ، قال : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك ، فأطعم منها وسقا من تمر ستين مسكينا ، وكل بقيتها أنت وعيالك،  فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي ، وقد أمر لي بصدقتكم ..

ومع حرصهم على الاجتهاد في فعل الخير في رمضان إلا أنهم كانوا يكرهون التكلف فيه ، جاء عن وهب بن جابر أنه قال : كنت في بيت المقدس فجاء مولى لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال : إني أريد أن أقيم ها هنا شهر رمضان ، فقال له عبد الله : تركت لأهلك ما يقوتهم ؟ قال : لا ، قال : فارجع فاترك عندهم ما يقوتهم ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ..

كما كان من عادة السابقين عدم الهزل في رمضان ، والحرص على استغلال الأوقات ، فقد جاء في إحياء علوم الدين أن الحسن البصري مر بقوم وهم يضحكون فقال : إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه لطاعته ، فسبق قوم ففازوا ، وتخلف أقوام فخابوا ، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون ، وخاب فيه المبطلون ..

هذا بالإضافة إلى حفظ سائر الجوارح عما نهى الله عنه ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:  إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ، ودع أذى الخادم ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء ، وكان أبو هريرة يقول: إذا كنت صائماً فلا تجهل ولا تساب ، وإن جُهِل عليك فقل: إني صائم ..

وكان من هدي السابقين أيضا ألا يسافروا في رمضان إلا إذا دعت الضرورة كي لا يرهق المسافر أو يضطر إلى الفطر فقد  قدم رجل على عمر رضي الله عنه فقال : متى خرجت ؟ قال : في شهر رمضان ، قال : صدق من وصفك بالجفاء ألا أقمت حتى تفطر ثم تسافر ..   

وأما عن السفر الضروري ، فأنقل ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد :  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر في رمضان فصام وأفطر وخيّر الصحابة بين الأمرين ، وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله .

حال السابقين مع أولادهم في رمضان : دأب السلف على تدريب أطفالهم على الصيام فإذا شبوا ألفوه ، فقد جاء عن عكرمة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كنا نأخذ الصبيان من الكتاب فيقومون بنا في شهر رمضان ، ونعمل لهم الخشكنانج ( حلوى من السكر ) ..  

وبتلك التربية كان ينشأ الصبي فيرى الصيام سهلا ميسورا ، ولو تركوا دون تدريب وتوجيه حتى شبوا بحجة أنهم غير مكلفين لشق عليهم الأمر كما يحدث لبعض الشباب المسلم الآن ، فليكن لنا أسوة حسنة في سلفنا الصالح في توجيه أبنائنا وتربيتهم على خصال الخير.

بكاء من عجز عن الصوم من السابقين : إن السابقين كانوا يبكون إذا أدرك أحدهم رمضان وبه علة تمنعه الصيام ، فقد روي عن سعيد الجريري عن أبي نضرة قال : مرض رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه أصحابه يعودونه فبكى ، فقالوا : يا أبا عبد الله ما يبكيك ؟ ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” خذ من شاربك ثم اصبر حتى تلقاني ” فقال : بلى ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذات يوم وقد أهل شهر رمضان : ” لو يعلم العباد ما في شهر رمضان لتمنى العباد أن يكون شهر رمضان سنة “.

بكى المرضى لعجزهم عن الصيام وهم معذورون عند الله ، فما بال أصحاؤنا وما بال شبابنا وشباتنا ؟!! أما آن لهم أن يعرفوا فضل رمضان وصيامه ؟!!

وختاما، وسواء تعلق الأمر بحال السابقين مع رمضان، أو حالنا راهنا، أقول : الحمد لله على أن بلغنا رمضان ونحن أصحاء ، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التأسي برسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسلفنا الصالح في استغلال أوقاته فيما يرفع درجاتنا  ، وأن يوفقنا للعمل بما نعلم ، وأن يجعل تلك الكلمات التي كتبناها شاهدة لنا لا علينا ،  وألا يجعلنا كالشمعة التي تحترق ليستضيء بها غيرها .


مسند أحمد : ج 6 / ص 388 .

شعب الإيمان للبيهقي :ج 8 / ص 140

سنن الدارمي  : ج 10 / ص 191

صحيح البخاري :ج 21 / ص 406.

سنن أبي داود :ج 4 / ص 73.

الذاريات 15 :18.

إحياء علوم الدين :ج 1 / ص .354

صحيح البخاري : ج 8 / ص 253

أخرجه البخاري تعليقا ومسلم والترمذي والنسائي في الكبرى واللفظ لابن ماجة من حديث أبي هريرة.

أخرجه ابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم من حديث عقبة بن عامر.

رواه الطبراني.

المؤمنون : 51.

الأعراف : 31

السنن الكبرى للنسائي  : ج 4 / ص 177

جزء من حديث رواه ابن أبي خزيمة .

رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن.

سنن ابن ماجه : ج 5 / ص 342

رواه الطبراني .

صحيح ابن حبان : ج 15 / ص 329

أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة .

المجادلة : 11 .