لا أحد يجهل ما لحج بيت الله الحرام من أجر وثواب عظيمين يجعلان القلوب متعلقة بهذا الركن العظيم ومتشوقة إلى أدائه كلما سنحت فرصة، يستوي في ذلك من تسعفه الظروف لأداء حجة الإسلام، ومن تحول الحج بالنسبة له إلى روتين سنوي لا يختلف عن الإجازة السنوية التي ينتظرها للذهاب والسياحة في أرض الله، لكن ما تعانيه الأمة العربية هذه الأيام من مشاكل وحروب عصفت بدول وعرَّضت شعوبا -كانت حتى الأمس القريب تنعم بمستوى لا بأس به من الأمن والدعة ورغد العيش- للمحن والتشرد يتطلب البحث عن آلية تعيد إحياء ثقافة ترتيب الأولويات، لأن واقع الأمة الجديد خلق ظروفا قاسية تعيشها شعوب عربية مسلمة تستدعي توجيه كل طاقات الأمة المادية والمعنوية لنجدتها وانتشالها من براثن الفقر والجوع والمرض.

فرغم ما أشرت إليه من مشاكل تعيشها شعوب عربية كثيرة يواصل قطاع عريض من المسلمين هدر طاقات مالية كبيرة وإنفاقها في تتابع حج التطوع، وكأن الله سبحانه وتعالى حصر أبواب الخير ومصارف الأموال في الحج فقط، إذ كثيرا ما تسمع بعضهم يتفاخر بأنه حج أكثر من عشرين مرة، واعتمر أكثر من ذلك دون أن يدري هذا المسكين أنه بتصرفه هذا – وإن كان يكسبه أجرا- يبدد ثرواته في أمور لم تفرض عليهم ولديه من المجالات الأكثر أجرا وأهمية ما يستدعي منه صرف هذه المبالغ الطائلة عليها وحصوله على أجر مضاعف.

وللمتابع أن يتخيل كم سيكون وضع اللاجئين السوريين -في مخيمات الأردن وتركيا ولبنان- جميلا لو قام نصف مدمني السياحة الدينية بالتبرع بتكاليف حجهم للاجئين السوريين في تلك المخيمات، وله أن يتخيل كم من عمارات وشقق سكنية سيعاد بناؤها في قطاع غزة لو وجهوا تلك الأموال إلى المساهمة في إعادة إعمار القطاع؟، وكيف سيكون حال عشرات المرضى الذين يئنون في المستشفيات بسبب أمراض مزمنة وبينهم وبين الشفاء منها توفير مبالغ مالية تمكن هؤلاء المرضى من الذهاب إلى البلدان المتقدمة طبيا للعلاج فيها، وكم من أرباب أسر يعيشون خلف القضبان بسبب تعثر مالي أدى بهم إلى السجن، وبينهم وبين إعادة البسمة إلى زوجاتهم واطفالهم استقطاع 10% من تكاليف السياح الدينيين؟.

أما آن التفكير في جمع تكاليف حج التطوع وتوجيهها إلى بناء جامعات تدرس أجيال المستقبل وتوفر منحا دراسية للمتميزين في دراستهم من الطلبة، أو توجيه تلك الأموال لبناء مستشفيات متخصصة تقدم العلاج للمرضى وتساهم في مجال البحث العلمي، خصوصا الأبحاث المتعلقة باكتشاف علاج السرطان، او الإيدز، أو الفيروسات المنتشرة التي تهدد العالم، فذلك ترف فكري وثقافة متقدمة ما زالت تفصل أمتنا العربية عنها سنوات ضوئية.

ومما لا شك فيه أن المسؤولية في توعية الأمة وتوجيه فائض أموالها إلى حيث يجب أن يكون تقع على عاتق العلماء الذين لا يفتون إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، والذي لا أحد يسأل عنه، وسنكون سعداء لو أن وزارات الأوقاف والشؤون الدينية في البلدان العربية الميسورة أصدرت أوامرها لخطباء المساجد قبل بدء التسجيل لموسم الحج بضرورة حث المسلمين الذين سبق لهم أداء فريضة الحج أن يتيحوا المجال لغيرهم ممن لم يسبق له أداء حج الفريضة، وينفقوا أموالهم في مصارف أخرى للصدقة، كما أن الجهات الرسمية بإمكانها منع هؤلاء من تكرار الحج وإجبارهم على إتاحة المجال لغيرهم ممن ينتظر وصول الدور إليهم، خصوصا في البلدان التي تتبع نظام القرعة في منح رخصة الحج نتيجة لارتفاع عدد السكان.

ولعل سائلا يسأل ويقول: ما الضامن في أن منع هؤلاء من الذهاب إلى الحج سيجعلهم يتصدقون بتكاليف حجهم التطوعي على الأمور الأكثر أولوية؟، والجواب بسيط، إذا لم نحقق من وراء منعهم من الحج غير إتاحة المجال للقابضين على الجمر في انتظار فرصة لأداء حج الفريضة لكفانا ذلك، لكن من غير المفيد أن يسمح لهم بهدر هذه الأموال وحرمان غيرهم من فرصة الحج.