يترتب على عموم الرسالة المحمدية وختمها أنها تحتوي في بنيتها الداخلية وفي أدبياتها على عناصر ثابتة وأخرى متحركة، حيث نجد في القضايا التي لا تختلف باختلاف الظروف والأزمان الكثير الكثير من الوضوح والتفصيل-كما هو الشأن في العبادات وأمور العقيدة-أما القضايا التي تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى آخر فإن الشريعة السمحاء ترسي الأصول، وترسم الخطوط العريضة، وتُعرض عن التفصيل والمسائل الجزئية؛ لأن بَلْورة هذه الأخيرة من واجبات المكلفين؛ فالشارع وجَّه بإقامة العدل وتحقيق الشورى وإغاثة الملهوف…وترك بلورة النُّظُم والأطر والأساليب التي تحقق ذلك للناس، على مقتضى الظروف التي يمرون بها.
وهكذا فالإسلام لم يفصل في جميع جوانب نموذج الحياة المعنوية التي ينبغي أن يحياها المسلم؛لأن مفردات ذلك النموذج، تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر . وعلى سبيل المثال فحين تكون البيئة التي يعيش فيها المسلم بيئة ضنك في العيش وضآلة في فرص الكسب، فإن المسلم حتى يكون معاصراً، يكون مطالباً بأن يبذل جهداً مضاعفاً في التدريب على مهنة، وفي إدارة الإمكانات القليلة، والتعاون مع إخوانه ومواطنيه في درء مخاطر المجاعة والبطالة.
وحين يجتاح بلداً ما تيار شهواني انحلالي، فإن الذي يبرز في النموذج آنذاك، هو السعي إلى إيجاد تيار روحي قوي، يواجه التيار الشهواني.وحين يعاني المجتمع المسلم من الشبهات والشكوك في صلاحية الإسلام العامة لتوجيه الحياة، أو في مسلَّمة من مسلَّماته الكبرى، فإن أولوية العمل تُعطي للفكر والحجة والبرهان والدليل المفحِم، وهكذا…
نفهم من هذا أن المسلم بحاجة-حتى يكون معاصراً-إلى أن يستجيب في تكوينه واهتماماته ومهاراته وردود أفعاله لتحديات البيئة المحيطة ومطالبها، في إطار الثوابت التي أرساها المنهج الرباني للشخصية الفاضلة. وهذا يعني إلا نقدَّس اجتهادات السابقين ومقولاتهم في رسم أبعاد المسلم النموذج أو (العبد الصالح)، كما يوجب على أهل العلم والفكر أن يوضحوا القسمات الرئيسة التي يجب أن تتوفر في المسلم النموذجي في عصرهم. وما يقولونه يظل اجتهاداً قابلاً للصواب والخطأ.
إنه يمكن القول: إن ما يعد رذيلة في عصر أو مكان، لا يمكن أن يصبح فضيلة في عصر أو مكان آخر، لكن الذي يختلف هو حجم الاهتمام بالشيء الفاضل، والوضعية التي نمنحه إياها في سلَّم الأولويات. إن إسراع الموظف إلى الالتحاق بعمله مطلوب في كل وقت، لكن حين يكون الموظف (عامل إطفاء) فإنه يكون للسرعة معنى آخر أكثر أهمية. وسأحاول هنا لفت النظر إلى بعض السمات والمهارات التي أرى أنها تحتل مكانه خاصة في نموذج (المسلم المعاصر) وهي أشبه بمخطط أوَّلي، وذلك على النحو الآتي:
- توجيه جميع المناشط نحو الغاية العليا
تقرر النظرة الإسلامية للإنسان أهمية توجيه جميع مناشطه في حياته المديدة نحو الفوز برضوان الله تعالى : {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين(162)لا شريك له وبذالك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام:162-163]
مناشط أوقات الفراغ، و مناشط الترفيه تعزز التوجه الإيماني لدى المسلم إذا كانت في إطار المباح،واستحضر صاحبها النية الصالحة عند مباشرتها. وهذا في الحقيقة يضفي على حياة المسلم نوعاً من الانسجام والتماسك؛ فلا يشعر بأي انفصام بين مناشط تحقيق الذات والحصول على النجاح والتفوق الشخصي… وبين مناشط النجاة في الآخرة، كما هو واقع في حياة كثير من المسلمين اليوم، وإنما يشعر أن مكاسبه الروحية والنفسية قد تأتي من خلال نصحه لشريك في تجارة أو أنشطة رياضية يقوم بها، أو النوم مبكراً من أجل الاستيقاظ لصلاة الفجر. حتى الأحداث غير السارّة فإن النظرة إليها على أنها ابتلاء من الله-تعالى-تجعل المسلم الحق يتلقاها بروح عالية ونفس مطمئنة،حيث ينتظر عاقبة الصبر عليها.قد ورد في الحديث الصحيح:(عجباً من المؤمن إن أمره كله له خير،وليس ذلك لأحد إلا المؤمن:إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
إن صَهْرَ جميع مناشط الحياة في بوتقة واحدة،ليس عبئاً-كما قد يتوهم-لكنه مصدر عظيم من مصادر السعادة والطمأنينة. وإن الخيط المنطقي والأخلاقي الذي ينتظمها جميعاً،يدعم كينونة المسلم،ويزيد في وضوح رؤيته الشاملة للحياة.
- عدم المساومة على المبدأ
هذه سمة أخرى مهمة في نموذج المسلم المعاصرة؛ فالمغريات بالانحراف والضغوطات الحياتية المتزايدة، تدفع المسلم دفعاً إلى التنازل عن بعض مبادئه وقناعاته من أجل تحقيق بعض رغباته ومصالحة؛ ولذا فإن المرء الذي يحاول أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى مع التمسك بمبادئه، يحاول في الحقيقة الجمع بين نقيضين، إذ لابد في بعض الحالات من التخلي عن أحدهما في سبيل استقامة أمر الآخر.
إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ، يعدّ انتصاراً لشهوة أو غرض آني. أما الانتصار للمبدأ فإنه بمثابة التربع على قمةٍ من الشعور بالسعادة والرضا والنصر والحكمة والثقة بالنفس. وقد أثبت المبادئ أنها قادرة على أن تكرر النصر المرة تلو المرة. وحين يخسر الإنسان مصلحة نتيجة الإصرار على مبدأ، فإنه في الحقيقة يخسر شيئاً، لكنه على المستوى الشعوري وعلى المدى البعيد يعد رابحاً.
إن التمسك بالمبدأ في المنْشَطِ والمَكْرَه، هو الذي يمنح حياتنا معنى، ويجعلها تختلف عن حياة السوائم الذليلة التي تكافح من أجل البقاء المجرد. لا شك أن الظروف الصعبة، توهن من ضبط القِيَم والمبادئ للسلوك، لكنها نفسها هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس اختلطت مبادئهم بدمائهم ولحومهم، وبين أناس لا تمثل المبادئ بالنسبة إليهم أكثر من تكميل شكلي لإنسانيتهم.
إن التمحور على المبدأ، يستلزم الانحياز الدائم إلى الحق ومقاومة الشر؛ فالالتزام بالمبدأ، ليس مسألة شخصية بحتة،وإنما هو موقف أخلاقي واجتماعي أيضاً؛ حيث إن من وظائف المسلم الأساسية في هذه الحياة إحقاق الحق وإزهاق الباطل ومحاصرة الشر بكل صوره وأشكاله. والتخلي عن هذه الوظيفة، يحوّل المجتمع المسلم إلى غابة،يأكل القوي فيها الضعيف، ويصبح البقاء فيه للأقوى لا للأصلح.
- المحافظة على الصورة الكليّة:
يقوم المنهج الإسلامي في بناء الشخصية على العموم والشمول والتكامل. وهناك نصوص وأدبيات كثيرة، تؤكد مجتمعة على ضرورة تنمية كل أبعاد الشخصية العقلية والروحية والبدنية والعاطفية… لكن الملاحظ أن لدى الإنسان قابلية عجيبة للانجذاب نحو بُعد أو محور من المحاور، وترك باقيها غفلاً دون أي اهتمام. وهذا مشاهد لدى معظم الناس؛ إذ إن من المألوف أن ترى من يصرف كل اهتمامه إلى الرياضة، على حين أنه لا يقرأ كتاباً واحداً في السنَّة أو جزءاً من القرآن الكريم في الأسبوع. ونجد كذلك في المقابل بين المثقفين وطلاب العلم الكثير ممن لا يقيم أي وزن لِلَّياقة البدنية. وهناك من ينهمك في المسائل الفكرية والتنظرية، لكنه يعاني من جفاف روحي وتقصير في العبادات. وهناك من يقف على النقيض.
إن المرء ينتزع الإعجاب عندما يجتمع فيه ما تفرَّق في غيره.وإن التنمية الزائدة لجانب من الجوانب على حساب جانب آخر تبدو في بعض الأحيان كما لو كانت نوعاً من البراعة النادرة، لكنها تشويه وتبديد لفضيلة التناسق.
حتى لا نفقد الصورة الكلية للوضعية التي ينبغي أن نكون عليها،فإن علينا أن نعطي كل ذي حق حقه،وربما وجب لتحقيق ذلك القيامُ بأمرين:
أ- أن ننظر دائماً إلى خارج ذواتنا من أجل المقارنة،ومن أجل أن نستشرف ما نحن عليه عن كثب.إن الرؤية تتشوه عندما نعزل ذواتنا وأوضاعها عن السياق الاجتماعي والتاريخي والحضاري.
ب-أن ننظر دائماً إلى واجباتنا العامة وأهدافنا الكليّة،ومدى خدمة بنائنا لأنفسنا لتلك الواجبات وتلك الأهداف