حبُّ الرسول وإن كان واجباً ولكن هناك فرق بين الحب الواجب والإطراء المنهي عنه شرعاً، والتوسل إلى الله بالنبي إذا اعتبرنا الباء للقسم فالجمهور على منعها وأجازها أحمد، وإن اعتبرنا الباء للسببية فهناك خلاف بين العلماء فابن تيمية أنكره، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام أجازه.
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر
لا شكَّ أنَّ رسول الله ـ ﷺ ـ وسيلتنا إلى الله، من حيث إنه مُعَلِّمٌ ومُرْشِد، فطاعته وحبُّه أساسه حبُّ الله للعبد، قال تعالى ( قُلْ إِنْ ُكْنُتْم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنُوبَكُمْ ) ( آل عمران: 31 )، وقال (مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) ( النساء : 80 )، وكذلك دعاؤه لنا من وسائل القُرْب من الله، وأيضًا شفاعته العُظْمى يوم القيامة، وشفاعته الخاصة لبعض أمته، والذين يسألون له الوسيلة بعد إجابة المُؤَذِّن، كما سبق في الحديث الذي رواه مسلم . ولا يختلف في ذلك أحد من المسلمين، إنَّما الخلاف في قول بعض الناس : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك أن تغفر لي، أو أستشفع به إليك وهذا القول يحتمل توجيهين :
الأول: التوسل إلى الله بالنبي ـ ﷺ ـ ليدعوَ له، وهذا لا يشكُّ أحد في جوازه وبخاصة في حياته، فقد طلب الصحابة منه الدعاء فدعا لهم وأُجيب دعاؤه . روى البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً جاء إلى النبي ـ ﷺ ـ وهو يخطب على المِنبر يوم الجمعة وقال : يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا . فدعا النبي فنزل المطر مدة أسبوع فقال الأعرابي : تهدَّم البناء وغرِق المال، فادع الله لنا . فدعا فقال ” اللهم حَوالَيْنا ولا علينا ” فانزاح السحاب .
وجاء في البخاري عن أنس أيضًا أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان إذا قَحَطُوا استسقى بالعباس فقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبْنا توسَّلنا إليك بنبيك فتُسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، فيُسقَوْن . فكان العباس يدعو وهم يُؤَمِّنون لدعائه فَسُقُوا .
الثاني : التوسُّل إلى الله بذات النبي ـ ﷺ ـ،بمعنى أن يدعو الداعي ربه راجيًا الإجابة إكرامًا للنبي لمنزلته عنده . ومِثْل النبي في ذلك غيره من الأنبياء، فيقول الداعي : أسألك اللهم بنبيك، أو بجاه نبيك أن تغفر لي .
وهذه العبارة تحتمل أمرين :
(ا) أحدهما: القَسَم وأداة القَسَم هي الباء مثل : بالله أن تجلس أو تفعل كذا، على معنى أُقسم بالله . والجمهور يمنعون القسم بغير الله يقول النبي ـ ﷺ ـ : ” من كان حالفًا فلْيحلف بالله أو ليَصمُت ” . وأجاز أحمد بن حنبل في رواية عنه القسَم بالأنبياء .
(ب) وثانيهما عدم القسم، إذا أُريد بالباء السببية، والمعنى أسألُك يا الله بسبب نبيك أن تُكْرِمَني، فإن كان المراد : بسبب الإيمان به وحبُّه وطاعته فلا غُبار عليه؛ لأنه توسُّل بعمله هو، وهو قُرْبَة إلى الله تعالى . وإن كان المراد : بسبب ذاته، أو بسبب منزلته من الله ووجاهته عنده، فهذا هو الذي احتدم الخلاف حوله بين العلماء .
ففريق ينكره؛ لأن مجرد الجاه لا يُعطي الشفاعة، وعلى رأس هذا الفريق ابن تيمية، وقد ألَّف في ذلك رسالة خاصة، حاول فيها أن يرُدَّ ما جاء عن الصحابة في جوازه، إما بالطعن في السند بالضعف، أو الوقف على الصحابة، أو على مَن ليس قوله أو فعله حُجَّة، وإما بالتأويل، فيؤوِّل ما ثَبت منه على أنه توسُّل بدعاء النبي أو دعاء غيره، كما حدث في استسقاء عمر بدعاء العباس، وكما حدث في حديث الأعمى، وسيأتي بعدُ، ومنه توسُّل الناس في الموقف يوم القيامة بالأنبياء ليشفعوا لهم عند الله، أي ليدعوا الله لهم، وأن النبي ـ ﷺ ـ يدعو، بعد أن يرفع رأسه من السجود تحت العرش، فيقول له ربه : ارفع رأسك وسلْ تُعْطَ، واشفعْ تُشفَّع . فيقول: يا رب أمتي. وفريق يُثْبِتُه، ومنهم العز بن عبد السلام الذي قال في فتاويه : لا يجوز أن يُتوسَّل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله ـ ﷺ ـ إن صحَّ حديث الأعمى .
واستدل هذا الفريق بما أُثر في ذلك، ومنه :
1 ـ كان أهل الكتاب بنو قريظة والنضير يتوسلون بالنبي ـ ﷺ ـ قبل وجوده لينصرهم الله على أعدائهم . قال تعالى في اليهود ( ولمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِين كَفَرُوا ) ( البقرة : 89 )، فكانوا إذا قاتلوا المشركين قالوا : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، فينصرهم الله .
2 ـ عن عثمان بن حُنيف أن ضريرًا طلب من النبي ـ ﷺ ـ أن يدعوَ الله له بالعافية، فأمره أن يتوضأ فيُحْسِن الوضوء ويدعو بقوله ” اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله إني توجَّهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقْضَى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ ” وفي رواية ” فإن كان لكَ حاجة فمثل ذلك ” قال عثمان : فواللهِ ما تفرَّق بنا المجلس حتى دخل علينا بصيرًا كأنه لم يكن به ضُر .
وجاء أن عثمان بن حُنيف أرشد رجلاً إلى ذلك فقضى له عثمان بن عفان حاجته . ويَردُّ الفريق المانع بأن الشفاء ليس بهذا الدعاء، وإنما بتوسُّل الأعمى بدعاء النبي وشفاعته، ولو توسَّل غيرُه من العُمْيَان بتوسُّل الأعمى بدعاء النبي ـ ﷺ ـ، بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله . لكن أجاب هؤلاء بأنه لا مانع أبدًا أن يكون الشفاء بدعاء الأعمى لربه مسْتشفِعًا بالنبي، ولذلك قال : اللهم فشفِّعه فيَّ . وقد كان الأعمى صادقًا في الدعاء خاشعًا فاستجاب الله له، ولو صدقَ غَيْرُه وخشع في دعائه ما كان هناك مانع من الاستجابة . وما دام الأمر فيه احتمال فلا يتحتَّم المنع .
3 ـ علَّم النبي ـ ﷺ ـ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أن يقول ” اللهم إني أسألك بمحمد نبيِّك وبإبراهيم خليلك …” ورُدَّ عليه بأنه حديث غير صحيح .