كثير من العلماء يخافون على أنفسهم إذا دخلوا قصور السلاطين؛ إذ لا يأمنون على أنفسهم من الافتتان بالدنيا وزخرفها، أو السير في ركاب السلاطين وأهوائهم، وجعل العلم في خدمة السلاطين، وليس تبصيرهم وإرشادهم وتنويرهم وهدايتهم.

هذا إلى جانب أنهم قد ينالهم الأذى من الحكام والسلاطين إذا كان رأيهم مخالفًا لما يريده هؤلاء الحكام والسلاطين. وقد يدخلون في خدمة أحد السلاطين وتقبل عليهم الدنيا، فإذا ذهب هذا السلطان وخلفه غيره قد ينقم على هؤلاء الذين كانوا في خدمة من سبقه، فيُنزل بهم أنواع التنكيل والبطش والتشريد.

لكن من العلماء من يرى أن يكون في حاشية الحكام والسلاطين حتى يكون بطانة خير؛ فيوجه السلاطين والحكام إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، ونشر العدل بين الرعية… إلخ.

ومن هذا الصنف الأخير العالمة أمة اللطيف بنت الناصح عبد الرحمن بن نجم الحنبلي، التي عاشت في كنف الدولة الأيوبية.

سليلة بيت العلم : إن أمة اللطيف نشأت في بيت علم؛ فأبوها هو نَاصح الدّين أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن نجم بن عبد الْوَهَّاب الْحَنْبَلِيّ الأنْصَارِيّ السَّعْدِيّ الْعَبَّادِيّ الشِّيرَازِيّ الأَصْل، الدِّمَشْقِي، المعروف بابن الحنبلي.

ولد ناصح الدين ليلة الجمعة سابع عشر شوال سنة أربع وخمسين وخمسمائة بدمشق. وسمع بها من والده، وجماعة. فهو من بَيْت الْحَدِيث والفقه، حدث هو وأبوه وجده، وجد أَبِيهِ وجد جده. دخل بلادًا كثيرة، واجتمع بفضلائها وصالحيها، وفاوضهم، وأخذ عَنْهُم.

اشتغل بالوعظ، وبرع فِيهِ، ووعظ من أوائل عمره، وحصل لَهُ القبول التام. وَكَانَ له حرمة عند الملوك والسلاطين، خصوصًا ملوك الشام بَنِي أيوب، ورُوسل به إلى الأطراف. وحضر فتح بَيْت المقدس مَعَ السلطان صلاح الدين. ودرس الناصح بعدة مدارس. وانتهت إِلَيْهِ رئاسة المذهب بَعْد الشيخ موفق الدين.

وللناصح -رحمه اللَّه تَعَالَى- تصانيف عدة، منها: كتاب “أسباب الْحَدِيث”، وكتاب “الاستسعاد بمن لقيت من صالحي الْعِبَاد فِي البلاد”، وكتاب “الإنجاد فِي الجهاد”، وكتاب “تاريخ الوعاظ”.

كَانَ فقيهًا، فاضلاً، أديبًا، حسن الأخلاق، واعظًا، متواضعًا، متفننًا، حلو الإيراد، صارمًا، مهيبًا، شهمًا، كبير القدر. توفى يَوْم السبت ثالث المحرم سنة أربع وثلاثين وستمائة بدمشق. وله أقارب وذرية علماء([1]).

ورغم أن أباها قد عُلم تاريخ ميلاده ووفاته، إلا أننا لم نقف على تاريخ ميلاد أمة اللطيف، ولا مشايخها الذين تلقت عليهم العلم، ولا حتى العلم الذي برعت فيه أهو الفقه أم الحديث أم الأصول أم التفسير أم القراءات … إلخ، لكن جلّ من أرّخ لها وصفها بأنها: عالمة([2]).

الدخول في خدمة ربيعة خاتون : إن تاريخ تحصيلها العلمي غير معروف، ودائمًا ما تبدأ سيرتها بذكر خدمة أمة اللطيف لربيعة خاتون بنت أيوب مدة من الزمن.

وربيعة خاتون هي أخت الناصر صلاح الدين، وزوجة صاحب إربل؛ فهي أخت الملوك، وزوجة الملوك، وعمة الملوك. وقد أحبت ربيعةُ خاتون أمةَ اللطيف، وحصل لَهَا من جهتها أموال عظيمة.

وقد كانت أمة اللطيف بطانة خير لربيعة خاتون؛ إذ أشارت عَلَيْهَا بِبِنَاء الْمدرسَة الصاحبية بسفح قاسيون بدمشق، فبنتها ووقفتها على الشيخ الناصح أبي أمة اللطيف والحنابلة.

فلم تمنع شافعية ربيعة خاتون الأيوبية من بناء مدرسة للحنابلة، ووقف الأوقاف عليها.

أما أمة اللطيف فإنه نتيجة لعظم ثروتها فقد أوقفت المدرسة العالمة للحنابلة بدمشق([3]).

الحبس والمصادرة : بعد موت ربيعة خاتون سنة 643هـ لاقت أمة اللطيف الشَّدائد والأهوال والمصائب؛ إذ تم حبسها ومصادرة أموالها، والمدارس العلمية التي أوقفتها، وظلت محبوسة ثلاث سنين بقلعة دمشق([4]).

إطلاق سراحها وزواجها : حاول كثيرون التوسط لدى حكام دمشق من أجل الإفراج عن أمة اللطيف، قال سبط ابن الجوزي: “ودخلتُ مع نواب الصَّالح في قضيتها، وبالغتُ في أمرها، فأطلقت من الحبس، وتزوَّجت بالأشرف ابن صاحب حمص”([5]).

وقد أخرجها الله عزيزة من محنتها تلك؛ إذ تزوجها الملك الأشرف [627-662هـ = 1230-1263م] ملك حمص والرحبة، والذي حارب التتار، وهزمهم، فنبل قدره وتحدث الناس بشجاعته، وكان موصوفًا بالحزم والدهاء، ويُعد من الكرماء الأغنياء المترفين، وهو آخر من ملك من أسرته([6]).

وتركت دمشق، ورحلت مع زوجها إلى الرحبة وتل باشر، وعاشت هناك حتى وافاها الأجل.

الكتابة والتصنيف والتأليف : أجمع المؤرخون على أن لها تصانيف ومجاميع وتآليف، لكن أحدًا منهم لم يذكر اسمًا واحدًا من تلك المصنفات، أو في أي فرع من فروع العلم، رغم أن بعض المؤرخين عاصروها مثل سبط ابن الجوزي([7]).

الوفاة : عاشت أمة اللطيف سنوات معدودة في ظل زوجها بالرحبة، ووافتها المنية في سنة ثلاث وخمسين وستمائة غريبة عن الأهل والعشائر.

ويبدو أنها بعد زواجها زادت ثروتها من جديد؛ إذ بعد وفاتها “ظهر لها بدمشق من المال والذخائر والجواهر واليواقيت ما يساوي ستمائة ألف دِرْهم -على ما قيل، غير الأوقاف والأملاك.

ومع هذا كانت فاضلةً، صالحة، دَيّنة، عفيفة”([8]). أما عمرها فلم نستطع تحديده تمامًا؛ لجهلنا بتاريخ مولدها.

في الخاتمةإن أمة اللطيف قد غلبت شهرتها بارتباطها بربيعة خاتون الأيوبية، ودخولها في خدمتها، وزواجها من الملك الأشرف ابن منصور صاحب حمص، على تتبع آثارها العلمية، وأغفلوا إلقاء الضوء على مشايخها وتلاميذها ومصنفاتها، واكتفوا بوصفهم لها بأنها عالمة مشهورة.


([1]) انظر: سير أعلام النبلاء، (19/54، 23/6-7)، وتاريخ الإسلام، (14/142)، والوافي بالوفيات، (18/175)، وذيل طبقات الحنابلة، (3/423-437).

([2]) انظر: مرآة الزمان، (22/391)، وتاريخ الإسلام، (14/441)، والبداية والنهاية، (13/199)، والوافي بالوفيات، (14/67)، والدارس في تاريخ المدارس، (2/63، 87)، ونهاية الأرب في فنون الأدب، (29/318)، وخطط الشام، (6/98)، ومعجم المؤلفين، (2/319)، والأعلام، (2/13، 7/319).

([3]) انظر: مرآة الزمان، (22/391)، وتاريخ الإسلام، (14/441)، والبداية والنهاية، (13/199)، والوافي بالوفيات، (14/67)، والدارس في تاريخ المدارس، (2/63)، ونهاية الأرب في فنون الأدب، (29/318)، ومعجم المؤلفين، (2/319)، والأعلام، (2/13).

([4]) انظر: مرآة الزمان، (22/391)، والبداية والنهاية، (13/199)، ونهاية الأرب، (29/318).

([5]) مرآة الزمان، (22/392).

([6]) الأعلام، (7/319).

([7]) مرآة الزمان، (22/392).

([8]) السابق، (22/392).