تجمل القرن الثامن الهجري بعديد من الأئمة المجددين الأجلاء، البارزين في حسن رعاية العلوم الإسلامية وحراستها وخدمتها بأكمل الوجه، وكان في مقدمة القوم الإمام يوسف المِزِّي واسمه  جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن علي المشهور بالمزي، نسبة إلى بلدة المزة إحدى قرى حلب، وبها المولد عام 654هـــ  والمنشأ، وحفظ القرآن الكريم في الصغر، ثم رحل إلى أمصار العلماء لسماع العلم على سنة سلف الأمة.

مكانة الحافظ المزي العلمية

كان الإمام المزي مفخر أهل زمانه وإماما لمن بعده، وكان فاضلاً عارفا، كثير الاطلاع، بارعاً في العربية والأصول والخط والتصنيف، عارفاً بعلم الحديث، بصيراً بعلم الرجال بمعنى الكلمة، علامة في الحفظ والفهم والعلل، وقد نال لقب ” الحافظ ” عن جدارة واستحقاق.

قوة حفظه ومتانة ضبطه واتقانه

للمحدثين طرق ووسائل متنوعة في معرفة مدى مستوى الراوي من الحفظ والضبط، ومن بينها إيقاع الإبدال عمدا في الحديث سندا ومتنا؛ لمن يراد اختبار حفظه وضبطه ونقاء مروياته من الخلل، ولهم في ذلك قصص ومواقف عجيبة مع الرواة، ومن أشهر من يفعل هذا شعبة بن حجاج ويحي بن معين، وقصة امتحان أهل بغداد للبخاري المشهورة من خير شاهد في الباب، والإمام المزي ممن وقع به هذا الاختبار.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن صاحبه ابن عبد الهادي صاحب ” المحرر ” أتى على الإمام المزي يوما فقال له: انتخبت من روايتك أربعين حديثا، أريد قراءتها عليك، وقرأ الحديث الأول، وكان الشيخ متكئا فجلس، فلما أتى على الثاني تبسم، وقال: ما هو أنا، ذاك البخاري.

فقال ابن كثير:” فكان قوله هذا عندنا أحسن من رده كل متن إلى سنده”.[1]

ومن عجائب تمكنه ومتانة ضبطه وقوة حظفه أنه كان يرد على القارئ إذا غلط وهو ناعس ردا جمبلا.

يقول ابن كثير:” وكان شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزّي -تغمده الله برحمته- يكتب في مجلس السماع وينعس في بعض الأحيان، ويرد على القارئ ردا جيدا بينا واضحا؛ بحيث يتعجب القارئ من نفسه! أإنه يغلط فيما في يده وهو مستيقظ، والشيخ ناعس وهو أنبه منه! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء” [2]

وَقَال التاج عبد الوهاب السبكي: “وبالجملة كان شيخنا المزي أعجوبة زمانه، يقرأ عليه القارئ نهارا كاملا والطرق تضطرب والأسانيد تختلف وضبط الأسماء يشكل وهو لا يسهو ولا يغفل، يبين وجه الاختلاف، ويوضح ضبط المشكل، ويعين المبهم يقظ لا يغفل عند الاحتياج إليه، وقد شاهدته الطلبة ينعس فإذا أخطأ القارئ رد عليه كأن شخصا أيقظه، وقال له: قال هذا القارئ كيت وكيت هل هو صحيح؟ وهذا من عجائب الأمور وكان قد انتهت إليه رئاسة المحدثين في الدنيا”[3] وقف مع هذه العبارة متأملا ” فإذا أخطأ القارئ رد عليه كأن شخصا أيقظه” إلى هذه الدرجة من الفطنة ورجاحة العقل، وتمام ضبط الصدر والإتقان، وشدة التيقظ، حتى صار مرور الخطأ في أذنيه كالمنبه، وما أكثر من حاله هذه من المحدثين.

توليته مشيخة دار الحديث الأشرفية

 احتلت دار الحديث الأشرفية ريادة علمية، وصدارة لقائمة مجامع الفنون العلمية بمدينة دمشقة وفي العالم الإسلامي أيامها، بناها الملك الأشرف مظفر الدين من ملوك الدولة الأيوبية عام 630هـ وجعلها دارا للحديث الشريف وعلومه تعليما وتعلما، وتعظيما لشأنه وتنويها بأهله ومكانتهم، وقد اشترط الملك الأشرف الواقف على من يتولى مشيخة المدرسة أن يجتمع فيه علمان أساسيان؛ وهما: علم الرواية وعلم الدراية، وفي حال تعذر توفرهما في العالم، وإنه يقدم صاحب الرواية على العالم بالدراية، وكان أول من وليها بشروطها هو الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، وفيها أملى كتابه الشهير بمقدمة ابن الصلاح وغيره، ثم تولى إدارتها بعده أفاضل الأئمة الأجلاء أمثال ابن الحرستاني، وأبو شامة، والنووي والشريشي، وغيرهم، وتصدروا فيها بالدروس وأملوا فيها المصنفات وانتفع بهم الخلائق من العامة والخاصة أيما انتفاع، ثم جاء عصر الإمام المزي بعد ابن الشريشي، فنظر الناس فلم يجدوا أحدا ممن أولى بمشيخة دار الحديث غيره، فلذا وجدوا أنفسهم أمام حقيقة واضحة لا مناص عنها، لأن الإمام المزي أكثر أهل العصر متضلعا في علمي الرواية والدراية، ومن هنا قادهم الواقع المشاهد لتسليم قيادة العلم له رغما على ما في بعض نفوس الأشاعرة من الضغينة، فعينوه إماما وشيخا لدار الحديث، ومكث فيها أكثر من ثلاث وعشرين عاما مدرسا ومعلما ومرشدا ومربيا ومؤلفا، ويعتبر خيرا من عمرها بالعلم.

يقول الحافظ ابن كثير صهر الشيخ:” وفي يوم الخميس ثالث عشرين ذي الحجة سنة718هـ باشر الشيخ الإمام العلامة الحافظ الحجة شيخنا، ومفيدنا أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبدالرحمن بن يوسف المزي مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي، ولم يحضر عنده كبير أحد لما في نفوس بعض الناس من ولايته لذلك مع أنه لم يتولها أحد قبله أحق بها منه، ولا أحفظ منه، وما عليه منهم إذا لم يحضروا عنده فإنه لا يوحشه إلا حضورهم عنده، وبعدهم عنه أنس.[4]

وقال أبو العباس ابن تيمية لما باشر المزي مشيخة دار الحديث:” لم يلها من حين بنيت إلى الآن أحق بشرط الواقف منه لقول الواقف فإن اجتمع من فيه هذه الرواية ومن فيه الدراية قدم من فيه الرواية[5]

وقال تقي الدين السبكي: والذي نراه أنه ما دخلها أعلم منه ولا أحفظ من المزي ولا أورع من النووي.[6]

وقد حاول الأشاعرة عزل الإمام المزي عن منصبه من أجل تأثره بشيخ الإسلام ابن تيمة وصحبته له وانتهاج نهجه، وأنه ادعى بخط يده عند توليته المشيخة بأنه أشعري العقيدة خلافا لحقيقة حاله.

ولما عين تقي الدين السبكي على قضاء الشافعية بدمشق هرول إليه أحد كبار الأشاعرة

-وهو صدر الدين سليمان بن عبد الحكيم المالكي– بليلة واحدة عقب وصوله دمشق،  وتحدث عن الإمام المزي ثم قال للسبكي: “وينبغي لك عزله من مشيخة دار الحديث الأشرفية، فقال السبكي لما سمع الكلام: فاقشعر جلدي وغاب فكري وقلت في نفسي: هذا إمام المحدثين!!! والله لو عاش الدارقطني استحيي أن يدرس مكانه. قال: وسكت ثم منعت الناس من الدخول علي ليلا.

وقال له ابنه: إن صدر الدين المالكي لا ينكر رتبة المزي في الحديث ولكن كأنه لاحظ ما هو شرط واقفها من أن شيخها لا بد وأن يكون أشعري العقيدة، والمزي وإن كان حين ولي كتب بخطه بأنه أشعري إلا أن الناس لا يصدقونه في ذلك.

فقال: أعرف أن هذا هو الذي لاحظه صدر الدين، ولكن من ذا الذي يتجاسر أن يقول المزي ما يصلح لدار الحديث والله ركني ما يحمل هذا الكلام.[7]  سبحان الله، هكذا إجماع الموافقين والمخالفين على حقية الإمام المزي بهذا المنصب العلمي دون غيره، ثم لله دار تقي الدين السبكي وقد ساقه الإنصاف إلى أن يكون حليف الحق وإن كان مخالفا للإمام المزي في المنهج.

ثناء العلماء عليه

كانت مكانة الإمام المزي العلمية موضع الاعجاب والتقدير لدى كل من عرفه وعايشه أو اطلع على أخباره ومدوناته، وقد تواتر ثناء العلماء عليه وذكروه بجميل الذكر وحسن الأوصاف.

ومن ذلك قول معاصره وتلميذه ورفيقه الإمام الذهبي حيث يصفه في أكثر موضع من كتبه بأنه “العلامة، الحافظ، البارع، أستاذ الجماعة، محدث الإسلام، وخاتمة الحفاظ، وناقد الأسانيد والألفاظ، وهو صاحب معضلاتنا، وموضح مشكلاتنا، ما رأيت أحدًا في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي.

ثم قال الإمام الذهبي في موطن آخر:” وغالب المحدثين من دمشق وغيرها قد تتلمذوا له، واستفادوا منه، وسألوه عن المعضلات، فاعترفوا بفضيلته، وعلو ذكره”[8]

ولما سئل ابن سيد الناس اليعمري عن أحفظ من لقي فقال:” وجدت بدمشق الإمام المقدم والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه وتقدم أبا الحجاج المزي، بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه: كم ترك الأول للآخر، أحفظ الناس للتراجم، وأعلمهم بالرواة من أعارب وأعاجم، … ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر، معتمدا آثار السلف الصالح، مجتهدا فيما نيط به في حفظ السنة من النصائح، معرضا عن الدنيا وأسبابها، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام.[9]

وقال التاج السبكي عنه:” شيخنا وأستاذنا وقدوتنا الشيخ جمال الدين أبو الحجاج المزي، حافظ زماننا، حامل راية السنة والجماعة، والقائم بأعباء هذه الصناعة، والمتدرع جلباب الطاعة، إمام الحفاظ كلمة لا يجحدونها، وشهادة على أنفسهم يؤدونها، ورتبة لو نشر أكابر الأعداء، لكانوا يودونها، واحد عصره بالإجماع، وشيخ زمانه الذي تصغي لما يقول الأسماع”[10] علما بأن القائل هذه الكلمات النيرة أشعري وشيخه المزي سلفي ولكنه نطق بالحق. 

وهذه هي نبذة يسيرة من ثناء أهل عصر الشيخ عليه، وأما ثناء من جاء بعدهم من أهل العلم فإنه لا يكاد يحصى، كما تراه في كتب الحديث والفقه والتراجم وغيرها.