مقولة تجد صداها في النفوس منذ عقود طويلة، إذ تتعدى النزعة الاستهلاكية تأثيراتها البيئية والاقتصادية، إلى جوانب أبعد عمقا في حياة الإنسان المعاصر، وتكشف عن خلل كبير في تكوينه الروحي والنفسي، بعدما باتت النظرة المادية هي الحاكمة لسلوكه ومعاييره، وفي ظل فقدان الإنسان الإحساس بالمعنى، تظهر الحاجة إلى الدين والقيم لوضع كوابح لذلك الجنوح الهائل للنفس في الاستهلاك الذي تخطت حدوده المعقول.
للفيلسوف الشهير “زيجمونت باومان” رأي في أن الإنسان مستهلك بطبعه لإشباع حاجاته، لكن التطور الحديث هو تحول الاستهلاك إلى ثقافة في ظل مجتمع السوق، واعتبار مقدار الاستهلاك ونوعيته معايير لجودة الحياة، وأصبح العالم سوقا كبيرة وشرهة مدعوما بشبكة من المفاهيم والأفكار الجذابة، مثل: الحرية والاستمتاع، تدعم الاستهلاك وتغذيه، وتخلق فيه نهما لا يشبع ولا ينتهي، وسمحت تلك الأفكار بإعادة تشكيل كثير من المجتمعات على القيم الاستهلاكية النهمة.
تحدث الدكتور “عبد الوهاب المسيري “عن “الإمبريالية النفسية”، تلك الظاهرة التي غاب عنها حتى فكرة ترشيد الاستهلاك المادي ذاته، والتي خلقت إنسانا ذا بعد واحد، يبتغي الربح لتعظيم الاستهلاك وإشباع ملذاته التي لا ترتوي، وأسماها “حضارة الفوارغ” Disposable Civilization التي تستهلك كل شيء، وتبدد كل شيء من أجل الاستمتاع بالاستهلاك، فالمادية أصبحت رؤية مُستبطنة في الحياة، وصار الاستهلاك هو أبرز تجلياتها، وهنا يتقدم الفرد على المجتمع، ويتحكم المجتمع في وضع المعايير المادية، وصارت السلعة هي البداية والنهاية ومركز الوجود.
وظهر مصطلح “التسليع” comodification، بعدما أزاحت السلعةُ الإنسانَ عن مركز الكون لتحل مكانه، ويحل الاستهلاك محل المعنى والقيمة، وظهر مصطلح “مدمن التبضع shopaholic” أي الإنسان الذي يذهب للتبضع ليس من أجل الشراء، وإنما لأنه أدمن هذه العملية، وأطلقوا على هذا الإدمان اسمها لطيفا هو “محبو التبضع”، أي تصوير الإدمان الاستهلاكي أنه نوع من الهواية، التي يجب أن تحترم، ولها تقاليدها المبجلة.
استوقفت النزعة الاستهلاكية عددا من الكتاب والمفكرين في الغرب، وسعوا لمقاومتها، ومواجهة تسلطها، يؤكد الروائي الفرنسي “باسكال بروكنر” Pascal Bruckner في كتابه “بؤس الرفاهية: ديانة السوق وأعداؤها” أن الاستهلاك المحموم أصبح الهدف الأسمى للحضارة الغربية ، وترتب على ذلك انكفاء الأفراد على أنفسهم، وضعف اهتمامهم بالعالم. وفي كتاب “إمبراطويرة الأشياء” Empire of Things لـ فرانك ترينتمان Frank Trentmann، نقد للثقافة المادية وإشارة إلى ارتفاع معدلات الاستهلاك منذ العام 1500م، ويرى المؤلف أن الاستهلاك تجاوز الأشياء إلى أمور أخرى مثل كثرة السفر، فالاستهلاك أصبح هو الشيء المميز للحياة، وأصبحت الاقتصاديات العالمية تستند على الاستهلاك في استمراها وانتعاشها، وأشار أن الخدمات أصبحت تُقدم مع السلع في الأسواق الكبيرة، وصار السوق يشكل حيزا واسعا من حياة الناس ووجدانهم.
وفي كتاب جمهورية المستهلكين “A Consumers’ Republic، لـ”إليزابيث كوهين” Lizabeth Cohen، تأريخ لنمو النزعة الاستهلاكية بعد الحرب العالمية الثانية، وترى الكاتبة أن عقلية الاستهلاك أعادت صياغة الحياة ، وأصبح الاستهلاك رمزا للرفاهية العامة، لكن نتج عن تلك النزعة تغذية الفوارق الطبقية، التي أصبح الاستهلاك فيها معيارا للتفرقة، وانتشرت روح عدم المساواة، لكن كتاب ” الأنفلونزا: كيف يقتلنا الاستهلاك المفرط، وكيف نقاومه” كان أكثر جرأة في نقد النزعة الاستهلاكية، ويعد الكتاب من الأدبيات المهمة في مناهضتها، حيث نظر الكتاب إلى الاستهلاك كمشكلة وليس كفضيلة، وحمل الكتاب رسالة مهمة مفادها أن ” أفضل الأشياء في الحياة ليست أشياء” ، فالاستهلاك مؤشر على كثرة النفايات والتلوث، وتماشيا مع رسالة الكتاب هناك نفايات تمتد أيضا إلى عالم الروح وليس عالم الأشياء فقط، أهمها غياب المعنى، وفقدان الغاية.
كتاب “الثمن الباهظ للمادية” The High Price of Materialism لـ”تيم كاسر” Tim Kasser يعد دراسة عميقة حول كيفية تقويض المادية والاستهلاكية لنوعية حياتنا وسعادتنا وصحتنا النفسية، فيشير أن الإنسان بمجرد حصوله على ما يكفيه من الغذاء والمأوى والملبس، فإن المكاسب المادية الإضافية لا تفعل الكثير لتحسين الرفاهية، كما أن تراكم الثروة والممتلكات المادية لا يحقق السعادة، بل قد يؤدي إلى التعاسة، وذلك لأن الأشياء المادية لا تعالج القلق والتوتر والاكتئاب، وتدني احترام الذات، ويذهب “كاسر” أبعد من ذلك ليؤكد أن القيم المادية تقوض الرفاهية، لأنها تُديم مشاعر عدم الأمان، وتضعف الروابط الإنسانية، وتجعل الإنسان أقل حرية، فالإنسان يكون أكثر عرضة للخطر، عندما تكون الميول المادية أكثر تحديدا.
يشير الأديب “أوسكار وايلد” Oscar Wilde أن الناس يعرفون سعر كل شيء، ويجهلون قيمة كل شيء، هذه الملاحظة الذكية تكشف عن تنامي النزعة الاستهلاكية، وثقافة السوق التي هيمنت على الإنسان، بعدما تحول السوق إلى إله، وهو ما أشار إليه ـ كتاب “السوق كإله” The Market as God لـ”هارفي كوكس” الذي يرى أن السوق أصبح مؤلها، وأن هياكل الرأسمالية المعاصرة أصبحت مشابهة لهياكل المؤسسة الدينية، فالكاتب ينظر إلى الاستهلاك أنه أصبح دينا، وفي ظل هذا الإله الجديد تنعدم المساواة ويغيب العدل، وتزداد المظالم، فالسوق يبدو وكأنه يتصف بصفات إلهية في العلم والقدرة، وكأنه عقيدة كلية تسعى لتغيير أسلوب حياة الناس ونمط معيشتهم بما يوافق قيمه، بل له طقوس ومعابد هي الأسواق الكبيرة، لذا يرى “كوكس” في السوق ظاهرة دينية تستحق التوقف، ويرى أن الأزمات الأرضية هي أزمات وجودية، فالسوق والمال أصبحا ظاهرة دينية في المجتمعات الحديثة، لكنهما غير قادرين على تحمل الثقل الثقافي، الذي هو أساس الأزمة الوجودية والروحية في العالم.
ويؤكد ذلك “روث فاليريو” Ruth Valerio في كتابه ” مجرد العيش: الإيمان والمجتمع في عصر الاستهلاك” فالنزعة الاستهلاكية تؤثر على كافة مجالات الحياة، سواء الشخصية أو العلاقات الإنسانية، أو النظرة إلى العالم، بل إن كتاب “الدين في المجتمع الاستهلاكي” يدعو لصياغة العلاقة بين الدين والاستهلاك، حيث ساهمت الاستهلاكية في تشكيل الثقافة الدينية في بعض المجتمعات الحديثة.
ولعل المتأمل في الإسلام يجد تحذيرات متعددة من العبودية للسلعة، والوقوع في فخ الاستهلاك، وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري، يقول النبي –ﷺ-:” تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش”، فالعبودية للمادة، والاستهلاك تقود حتما إلى التعاسة، حتى الأشواك التي يُصاب بها هذا العبد المادي لا يستطيع أن يخرجها من جسده لأنها تغلغلت إلى أعماق الروح والنفس، لذا كان علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- يقول “لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان”، والتراث الديني في الزهد مكتظ بمقاومة تلك النزعة الاستهلاكية.