تعد نظرية الإباحة من أوسع وأهم وأكبر نظريات الفقه الإسلامي، بل هي تمثل أحد أهم وجوه الترجمة العملية لمقصد الحرية من مقاصد الشريعة، فالإباحة في الاصطلاح الشرعي تترجم بالحرية في الواقع العملي، وذلك أن مساحة الإباحة من جهة النظر في تكاليف العباد هي أوسع المساحات مقارنة بالحرام والواجب والمستحب والمكروه، وهذا يرد على كثير ممن يدعي أن تعاليم الإسلام والشريعة سيف مسلط على رقاب الناس، ذلك أن الشريعة جاءت بتكاليف من الأوامر التي يجب على الناس فعلها، والنواهي التي يجب على الناس تركها، هذا من جهة التشريع، أما من جهة التنفيذ، فالإنسان مخير في الفعل والترك، ولا إكراه ولا إجبار عليه، وقد قال تعالى: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ) [البقرة: 256] ، وعندي أن الآية تحتمل أكثر من معنى: الأول: وهو المتبادر بالذهن، أنه لا يكره أحد على دخول الإسلام، بل يختار الإنسان لنفسه ذلك متى أراد، أو لا يفعل، والله يحاسبه يوم القيامة، والمعنى الثاني: أنه لا إكراه في فعل الواجبات وترك المحرمات، ما لم يترتب على ذلك ضرر على الغير.
ولما كانت الإباحة هي الجزء الأعظم من الأحكام الشرعية، ظهر معها ما يعرف بـ(تقييد المباح)، أي وضع قيود على الحكم الشرعي في استعماله، ولا يعني (تقييد المباح) إلغاء الحكم وانتقاله من الإباحة إلى الحرمة أو الوجوب، وإنما يبقى أصل الحكم كما هو، لكن يضاف عليه بعض الاحترازات والقيود.
على أن الإشكال الأكبر هو اقتصار كثير من العلماء في الحديث عن تقييد المباح بقاعدة: “للحاكم تقييد المباح”، أو “سلطة الحاكم في تقييد المباح.
والناظر في الشريعة يجد أن الإباحة لها أكثر من مستوى، من أهمها:
المستوى الأول: نظرية الإباحة، وهو تتبع الإباحة في عموم الشريعة، فيتناول فيها: تعريف نظرية الإباحة، ودلائلها من الكتاب والسنة وأقوال العلماء من الصحابة ومن بعدهم، ومباحث الإباحة في فروع الشريعة، وأصول نظرية الإباحة، والقواعد الناظمة لنظرية الإباحة، وضوابط نظرية الإباحة، وتطبيقاتها قديما وحديثا.
المستوى الثاني: تقييد المباح بشكل عام في الشريعة، وتتبع تقييد المباح في أبواب الشريعة كلها، سواء في العبادات أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو السياسة الشرعية، أو الفنون والآداب، أو غيرها.
المستوى الثالث: قاعدة: سلطة ولي الأمر في تقييد المباح.
ولكن مما يؤسف له غلبة الحديث عن سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، وحصر الحديث عن تقييد المباح في تلك القاعدة دون غيرها من القواعد الناظمة لنظرية الإباحة.
أنواع المباح:
للمباح أنواع كثيرة، من أهمها ما يلي:
- مباح ثابت بالنص، كحل البيع، كما قال تعالى (وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ) [البقرة: 275] فهذا لا يجوز تقييده، ولا ينقض أصله، فلا يعقل أن يأتي مجتهد ليقول: إن البيع حرام أو مكروه، لأن حل البيع ثابت بالنص الثابت.
- مباح ثابت باستصحاب البراءة الأصلية، ودليله قوله تعالى (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا) [البقرة: 29] ، فهذا يجوز تقييده بضوابط ذكرها الفقهاء. فتوظيف العمال – مثلا- هو مباح بناء على قاعدة البراءة الأصلية، وأن الأصل في الأشياء الإباحة، وهنا يمكن القول بتقييد تلك الإباحة، أنه لا يتقدم للوظيفة إلا من توافرت فيه شروط معينة، وأنه يتم الاختيار بين المتقدمين بناء على معايير خاصة ونحو هذا.
حالات تقييد المباح:
وللمباح حالات وصور وأشكال، من أهمها:
- الانتقال من الحرمة إلى الإباحة: مثل حرمة وطئ المرأة لا يكون إلا من خلال العقد الشرعي. فالأصل أنه يحرم وطء المرأة، وينتقل من حرمة الوطء إلى حله، من خلال عقد النكاح المشروع.
- الانتقال من الإباحة إلى الحرمة: كالطلاق، فالمرأة تكون حلالا للرجل، لكن الحل ينتقل إلى الحرمة من خلال الطلاق، والانتقال من الحرمة إلى الإباحة أشد من الانتقال من الإباحة إلى الحرمة، ألا ترى أن عقد الزواج له شروط وأركان يجب أن يستوفيها، وأن أي خلل في العقد قد يبطله، بخلاف الانتقال من الحل إلى الحرمة، فيكفي فيه أن يتلفظ الزوج بكلمة الطلاق، ولا يتوقف على صحة الطلاق إشهاد أو توثيق أو أن يكون الطلاق أمام المرأة والحديث لها مباشرة أو نحو هذا، فما دام قد نطلق بالطلاق؛ فقد وقع.
- الانتقال من العام إلى الخاص: ويعبر عنها الفقهاء بقولهم: ” الإباحة بالإذن العام لا تسقط الإذن الخاص“، ومثاله: الإذن للضيف بالأكل، يباح له الأكل، لكن لا يجوز له أن يعطي الطعام لغيره،، وأن يأكل قدر حاجته التي تكفيه، ولا يجوز له أخذ الطعام إلى بيته.
- الانتقال من الخاص إلى العام: ومثاله: إذا خصص أحد المحسنين بيتا لبعض الفقراء والمحتاجين أو غيرهم، فلهم الانتفاع بالبيت وحدهم دون غيرهم، ولا يجوز لهم نقل هذا الانتفاع إلى الغير، حتى ولو كان بغير عوض؛ لمخالفته مفهوم الإذن وقصره عليهم.
قيود الإباحة عند الضرورات التي تبيح المحظورات ثلاثة:
ومن أهم القواعد التي تتعلق بالإباحة قاعدة: ( الضرورات تبيح المحظورات)، على أن تطبيق تلك القاعدة ليس مطلقا، بل فيها تقييد بعدة ضوابط، من أهمها:
- ألا يكون في إباحة المحظور تعد على حق الغير؛ لأن الضرر مرفوع في الشريعة.
- أن يكون زمن الإباحة مقيدا بوقت محدد، وهو بقاء العذر، فإذا زال العذر؛ انتفت الإباحة، وعاد الحكم حراما ممنوعا كما كان، فمن خشي على نفسه الموت، ولم يجد ما يأكله، فله أن يأكل ما كان محرما مثل لحم الخنزير، فإذا وجد طعاما غيره؛ عاد حكم حرمة لحم الخنزير كما كان.
- أن تقدر الضرورة بقدرها، فإذا احتاج إلى أكل لحم الخنزير؛ فلا يأكل إلا ما يقيم به صلبه ويبقيه على الحياة، دون الشبع.
ضوابط تقييد المباح:
ولتقييد المباح ضوابط ذكرها العلماء، من أهمها:
- موافقة الشرع لتقييد ذلك المباح، فلا يجوز في تقييد المباح انقلابه حراما، ومنع جنسه وأصله، فإذا قلنا بجواز تنظيم النسل – في بعض الحالات- فلا يجوز أن يكون عاما، ولا يجوز أن يمنع الإنجاب بالكلية.
- موافقة مقاصد الشريعة، والصلة بين تقييد المباح وبين مقاصد الشريعة صلة قوية جدا، فتقييد المباح يقصد به جريان الأحكام على وفق مقاصد الشريعة، ومنع الخلل والضرر الحاصل من الحكم إن قيل بإباحته على الإطلاق، وقد قال الشاطبي: ” استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد”.
- أن يكون تقييد المباح من اجتهاد من العلماء المجتهدين، وليس من المقلدين أو عوام الناس، ولا يفتي المرء نفسه بشيء من هذا القبيل، بل هو من سبيل الاجتهاد الذي يجب أن يكون من أهله ( الفقهاء المجتهدين)، وفي محله.
- أن يكون تقييد المباح في أفراد المباح لا جنسه، فلا يمنع جنس المباح، فإن قيدنا شيئا، فهذا التقييد راجع إلى بعض أفراد الجنس، ولكن لا يجوز المنع بالكلية.
- أن يكون تقييد المباح للضرورة، أو حاجة تنزل منزلة الضرورة. كالنهي عن ادخار الأضاحي، ثم عاد الحكم للإباحة؛ لضرورة وقتها.
وإن كان تقرر عن الفقهاء قاعدة : (الضرورات تبيح المحظورات)، فإنه يكملها قاعدة أخرى هي: ( الضرورات تقيد المباحات).
أمثلة على تقييد المباح:
الأمثلة النبوية:
ومن الأمثلة النبوية على تقييد المباح:
النهي عن كتابة الحديث:
فقد نهى النبي ﷺ عن كتابة الحديث أول الإسلام، كما أخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعا قال: ((لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن من كتب شيئا غير القرآن فليمحه»، ثم أمر بكتابته بعد فترة، وكان ذلك خشية أن تختلط كتابة الحديث بكتابة القرآن.
النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث: فقد أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه، قال: قلت لعائشة: أنهى النبي ﷺ أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: «ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير، وإن كنا لنرفع الكراع، فنأكله بعد خمس عشرة» قيل: ما اضطركم إليه؟ فضحكت، قالت: «ما شبع آل محمد ﷺ من خبز بر مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله».
الأمثلة العمرية:
والأمثلة في تقييد المباح عند الصحابة كثيرة، ولكن تميز بها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-، وعرف عنه الاجتهادات الفقهية التي يمكن أن يطلق عليها ( الفقه الوقائي)، أو: ( الفقه الاحترازي)، ومن أمثل ذلك عند عمر – رضي الله عنه:
- منعه كبار الصحابة من الزواج من نساء أهل الكتاب؛ خشية الاقتداء بهم، فينصرف الناس عن المسلمات بالزواج من نساء أهل الكتاب، ولا يعني هذا أن عمر – رضي الله عنه- حرم نكاح نساء أهل الكتاب، و هو الذي منع حذيفة منه ، وعلله خشية نكاح المومسات، وهذا يعني أنه لم يحرم الأصل.
- إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا، فقد كان الطلاق على عهد النبي ﷺ وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر يقع واحدة، لكنه لما رأى الناس تساهلت في إيقاعه، فأفتى بوقوع الطلاق الثلاث ثلاثا.
- ومنه: إيقاف صرف سهم المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة؛ معللا ذلك أنه يصرف حين يكون بالمسلمين ضعف، فإذا زال الضعف فلا يصرف لهم.
- تأخير الصدقة عام الرمادة ثم أخذها ضعفا العام القابل
- ومنه: التجنيد الإجباري، وإلزام الناس به؛ خشية فوات الجهاد في سبيل الله، ونشر دعوته.
اجتهادات العلماء:
ومن أبرز اجتهادات العلماء في تقييد المباح، رفض العز ابن عبد السلام فرض ضرائب على الناس زمن حرب التتار حتى يخرج الأمراء والمماليك من أموالهم، ثم لما فعلوا؛ أجاز فرض ضرائب على الأغنياء؛ لتجهيز جيش المسلمين لحرب التتار.
مراجع عن تقييد المباح:
وقد تناول عدد من الباحثين تقييد المباح في دراسات لهم، منها على سبيل المثال:
- تقييد المباح.. دراسة أصولية وتطبيقات فقهية. د. حسين الموس
- قواعد تقييد المباح، محمود سعد مهدي
- سلطة الحاكم في تقييد المباح، هشام تهتاه
- تقييد المباح وأثره في القضايا المعاصرة، اليازية علي الكعبي
- سلطة ولي الأمر في تقييد المباح.. تأصيلا وتطبيقا، زينب أبو الفداء
- تطبيقات مبدأ تقييد المباح في الفقه الإسلامي، رسالة جامعية بجامعة دمشق.