لن أتوسع في هذا المقال فقد لقي الحديث في المناسبات بين الآيات والسور اهتمامًا من العلماء، وخاصة أولئك الذين اشتغلوا بعلوم القرآن الكريم فمنهم من توسع ومنهم من اختصر، ويمكن الرجوع في هذا إلى ما كتبه الزركشي في البرهان والسيوطي في الإتقان، وأوسع من تحدث في ذلك البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ولا ننسى فخر الدين الرازي في مفاتح الغيب، والفراهي في نظام القرآن. كما لن أخوض هنا في الخلاف الذي جرى بين العلماء في ترتيب السور هل هو توقيفي أم اجتهادي؟ بل سأقف عند مسألتين الأولى القواعد العامة الضابطة للمناسبة، والثانية المناسبة بين السورتين، وليس خافيًا أن المقصود بالمناسبة هو الرابط الذي يربط بين الآيات وبين السور.

المسألة الأولى: القواعد العامة الموجِّهة للمناسبات

هناك قواعد خاصة تُعرف من خلالها المناسبات بحثها من اشتغل بالمناسبات ومنها ما ذكره السيوطي في الإتقان نقلًا عن الشيخ ولي الدين الملوي قائًلا:” والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له [1].

وفي هذا السياق يذكر الزركشي نماذج من ذلك:” وإذا اعتبرت افتتاح كل سوره وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنه مناسب لختام سورة المائدة من فصل القضاء كما قال سبحانه {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}، وكافتتاح سورة فاطر بـ {الحمد} أيضا فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل}، وكما قال تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح فإنه مناسب لختام سورة الواقعة من الأمر به وكافتتاح البقرة بقوله {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه} إشارة إلى {الصراط} في قوله {اهدنا الصراط المستقيم} كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب، وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة” [2] وعلى هذا فهذا الفنُّ  يحتاج إلى دقة النظر والتوسع في المعرفة، بالإضافة إلى اللغة والبلاغة، وهذه القواعد الجزئية نستثمرها في المسألة الثانية.

ما هي القواعد الضابط لفن المناسبة بين السور؟

 وأرى أن هناك قواعد عامة ينبغي أن تكون في ذهن المشتغل بهذا الفن، وهذه القواعد هي موجودة في الأصل وليست غائبة، ولكنَّ المقصود أن تكون حاضرة في ضبط وتوجيه النتائج التي وصل إليها من يشتغل بهذا الفن، ولهذا لا يُقال هذا تحصيل حاصل بل هي ضابطة وموجهة.
القاعدة الأولى: وحدانية الله تعالى
يدلُّ تفرُّد الله تعالى بإنزال هذا القرآن على ضرورة أنْ تكون هناك وحدة متكامل ونظرة شاملة لكل الألفاظ الواردة في المعاني المراد درسها، فالمرسل للرسل والمنزل للكتب عندما يكون واحدًا لا يكون هناك اضطراب في المعنى وتشويش في الدلالة، وهذا سرٌ من أسرار إعجاز القرآن الكريم وتحديه للأجيال، قال تعالى { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].
والاختلاف قد يكون في الألفاظ وتنوعها، وقد يكون في الأخبار وتناقضها، وقد يكون منسجما بعضه مع الفطرة والعقل وبعضه دون ذلك، وقد يكون بكشفه لِما في النفوس ودون ذلك، وقد يكون…
وقد عبَّر الزمخشري(ت: 538ه) عن هذه المعاني بأنه لو كان فيه اختلاف كثير” لكان الكثير منه مختلفا متناقضا، قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبَر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه” [3].

فلما كان كذلك كان إعجازه مستمرا إلى يوم القيامة، فكأنَّ آية النساء السابقة هي الأصل الذي انبنت عليه آيات التحدي الأخرى، وخاصة التحدي المطلق في قوله تعالى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88].

وأثر هذه القاعدة في هذا الفن أنَّها تحرك للبحث عن المناسبة بين الآيات نفسها وبين السور مع بعضها، فليس عبثا أن يأتي ترتيب الآيات توقيفًا كما في حديث ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهما ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَؤُلَاءِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةَ فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» [4].

فمادام الله تعالى سبحانه وتعالى واحدًا فينبغي أن يكون الخطاب منسجمًا تُلحظ فيه المناسبات، ولايكون الكلام متضاربًا.

القاعدة الثانية: القرآن متكامل كالآية الواحدة

لمَّا كان القرآن الكريم كلام الله تعالى الذي جاء هداية للإنسان يلزم عنه أنْ يكون متكاملا لا ترى فيه اعوجاجا، فالآيات الأُوَل في النزول متآخية مع آخر ما نزل منه، والآيات الأُوَل في الترتيب القرآني متماشية مع آخر سورة فيه وهي سورة الناس، ولهذه الفكرة تجد أقوال المفسرين طافحة بالتأكيد عليها- مع أنها واضحة- حتى لا يُتلاعب بنصوص القرآن فتضرب الآيات بعضها بعضا.

يقول البغوي (ت:510ه):”  الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله تعالى واحد[5]،

ويقول فخر الدين الرازي (ت:606ه) ” القرآن كله كالسورة الواحدة وكالآية الواحدة يصدِّق بعضها بعضا ويبين بعضها معنى بعض، ألا ترى أن الآيات الدالة على الوعيد مطلقة، ثم إنها متعلقة بآيات التوبة “[6] وهذا المعنى الذي ذكره الفخر الرازي نجده عند القرطبي (ت:671ه) في قوله:” والقرآن كالآية الواحدة في دلالة البعض على البعض [7].

وإذا كان القرآن كذلك فينبغي أنْ تكون هناك مناسبات بين الآيات، وبين السور، فهو متآخٍ يمثل كتلة واحدة.

القاعدة الثالثة: المناسبة بين الآيات والآيات، وبين السور والسور هي ظنية

تُعدُّ هذه القاعدة ضابطة لما ذُكر سابقًا، فالقاعدتان السابقتان تشجعان على البحث والنبش في إيجاد المناسبات، وهي موجودة، فتأتي هذه القاعدة بمثابة الكوابح حتى لايتعجلَّ الباحث فيحكم جازما بأنَّ ماذكره هو المناسبة دون غيرها، فهذه القاعدة ليست نكوصا وتراجعًا عن القاعدتين السابقتين، بل هي داعية إلى التأني في النتائج وباعثة إلى المزيد من الاجتهاد والتحري.

وهذه القاعدة لها علاقة بالألفاظ التي يستخدمها الباحث في هذه المناسبة، فعليه أنْ يقول مثلًا (غالب الظن كذا، يتوقع أن تكون المناسبة كذا…) فما وصل إليه هو اجتهاد والاجتهاد ظنٌّ لا يرقى إلى اليقين.

ما وجه التناسب بين سورتي العلق والقدر

تأتي سورة العلق قبل سورة القدر مباشرة، والأولى رقمها ستة وتسعون والثانية سبعة وتسعون من عداد سور القرآن الكريم، فما المناسبة المتوقعة بين هاتين السورتين؟
تتجلى المناسبة بين هاتين السورتين – والله أعلم-  في:
أولا: الفعل وظرفه الزمني
نلحظ في سورة (العلق) قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} [العلق: 1 – 3] فقد تكرر الفعل مرتين، ومن المعلوم أنَّ الفعل أيّا كان ماضيًا او مضارعًا أو أمرًا يحتاج إلى ظرف زمني يقع فيه، فالفعل عبارة عن حدث، والحدث لا يقع من غير زمن، فأين الظرف الزمني الذي وقع فيه الأمر بفعل القراءة؟ هذا الزمن نجده في سورة (القدر) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1] فالأمر بالقراءة حدث ليلًا عند النزول في ليال رمضان في ليلة القدر.

ثانيًا: وحدة الظرف الزمني
لا يخلو الفعل من تعلقه بزمنٍ، وهذا ذكرناه آنفا، والزمن قد يكون ليلًا وقد يكون نهاراً، كما أنه قد يكون ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا، فالأمر بالقراءة لم يكن مستقبلا بل كان ليلًا في ليلة القدر، فمن الثابت في كتب الحديث والسير أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يذهب إلى غار حراء  ” فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ – وَهُوَ التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: ” فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 2] ” [8].

فالأمر بالقراءة حصل ليلة القدر ” فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في الغار من جبل حراء في رمضان … والليلة التي ابتدئ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر” [9] وهي الليلة المُصرَّح بها في قوله تعالى {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان: 1 – 4].

ثالثُا: وحدة المضمون

هذه الوحدة واضحة ونذكرها لبيان المزيد من الترابط، فالأمر بقراءة الآيات الخمسة الأولى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 – 5] هي التي نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء، وهذه الآيات الخمسة هي المقصود بقوله تعالى في سورة القدر {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1] أي ابتداء إنزاله في هذه الليلة[10]

رابعًا: التعظيم للقرآن في السورتين

التعظيم الوارد في السورتين للقرآن الكريم جلي واضح، وهذا يرمز إلى الترابط بين السورتين، فليس هناك انتقال من موضوع إلى موضعٍ آخر بشكل كلي، فاختيار هذه الليلة العظيمة القدر يتناسب مع شيء مُنزَلٍ عظيم القدر هو القرآن الكريم، على رسول عظيم الشأن هو محمد عليه الصلاة والتسليم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) } .

خامسًا: تنزيل الملائكة في السورتين:

أما في سورة العلق، فالذي نزل هو جبريل عليه السلام، وهذا واضح وقد ذكرنا حديث البخاري “فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ ” والملك هو جبريل، وأما في سورة القدر {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} [القدر: 4، 5] وإنزال القرآن هو من أعظم الأوامر.


[1] السيوطي، الإتقان في علوم القرآن:3/370. 

[2] السيوطي، البرهان في علوم القرآن:1/3. 

[3] الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: 1/540.

[4] رواه الترمذي في جامعة أيواب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبرة، رقم: 3086، وقال حديث حسن ورواه أبو داود والنسائي. انظر الزيلعي، تخريج أحاديث الكشاف:2/47.

[5] البغوي، معالم التنزيل في تفسير القرآن:1/410.

[6] فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب:32/295. 

[7] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 19/271.

[8] صحيح البخاري، بدء الوحي، رقم:3.  

[9] ابن عاشور، التحرير والتنوير: 25/277.  

[10] انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير: 25/ 277.