الأخلاق الطبية هي مبحث عريق من مباحث علم الطب التي اقترنت به منذ نشأته، فقد أدرك البشر قديما ضرورة وضع مواثيق أخلاقية تضبط الممارسة الطبية، وتصوغ العلاقة بين الطبيب والمريض، وأقدم الوثائق التي أمكن العثور عليها بهذا الخصوص هي ” قسم أبوقراط” اليوناني، وقد اهتمت جميع الحضارات تقريبا بالأخلاق الطبية وصنفت فيها، ومنها الحضارة العربية التي عرفت نمطا فريدا من أنماط التصنيف الطبي سمي “أدب الطبيب”، فما هي أبرز المصنفات في هذا الباب، وما هي القضايا التي اعتنت بها، وهل يمكن اعتبارها تمهيدا للفلسفة الأخلاقية الطبية الحديثة.
أدب الطبيب: المصنفات والقضايا
تناول الأطباء في الحضارة العربية مبحث الأخلاق الطبية فيما عرف لديهم باسم “أدب الطبيب”، والأدب كلمة جامعة لكل ما يتحرز به عن الخطأ في ممارسة المهنة على ضوء القواعد الحاكمة لها، ومن هنا تواتر استخدامها في عدد من الكتابات مثل: أدب القاضي، أدب الكاتب، أدب العالم والمتعلم وأدب المريض والممرض. بلغ التصنيف في أدب الطبيب أوج نضجه في القرن الثالث الهجري الذي شهد صدور عدد من المصنفات التأسيسية ومنها: “أدب الطبيب” لإسحاق الرهاوي (من أهل القرن الثالث) وهو كتاب تأسيسي في هذا الباب، إذ لم يعرف أن أحدهم اختص هذا العلم بكتاب مستقل، وإنما كانت هناك مصنفات سبقته تناولت مسألة أو أكثر من مسائل أدب الطبيب، مثل: أخلاق الطبيب للرازي (ت: 313ه)، ومحنة الطبيب، ومعرفة محنة- أي امتحان- الكحالية ليوحنا بن ماسويه (ت: 243ه)، وامتحان الأطباء لحنين ابن إسحاق (ت:260ه). اتسعت حركة التصنيف في أدب الطبيب بعد كتاب الرهاوي، وكثير منها قد اقتفى أثره واعتمد منهجه، ومن هذه المصنفات: رسالة دعوة الأطباء لابن بطلان المختار (ت: 458ه)، والرسالة الأفضلية في تدبير الصحة لموسى بن ميمون (ت: 604ه) ورسالة في بيان الحاجة إلى الطب وآداب الأطباء ووصايهم لمحمود بن مسعود الشيرازي (ت: 710ه)، وهذه المصنفات على اختلافها ناقشت قضايا متباينة يمكن تصنيفها ضمن أربعة مباحث: أولا: أخلاق الطبيب وآدابه، أو الآداب التي يصلح بها نفسه. ثانيا: المؤهلات والاشتراطات العلمية التي ينبغي توافرها فيمن يمارس مهنة الطب. ثالثا: المحظورات التي ينبغي للطبيب توقيها، أو بعبارة أخرى حدود عمل الطبيب. رابعا: ضوابط العلاقة بين الطبيب والمريض، ما يجوز فيها وما لا يجوز. وهذه المباحث جميعا نجدها في مصنفات أدب الطبيب، ومن الأهمية بمكان أن نكشف عن جهود بعض الأطباء في إرساء منظومة أخلاق طبية مؤسسة على العقيدة الإسلامية.
الرازي: الاستقامة الخُلقية عماد الممارسة الطبية
أبو بكر الرازي هو واحد من رواد التصنيف في الأخلاق الطبية وذلك في رسالته ” أخلاق الطبيب” التي وضعها لتكون دستورا لأحد تلامذته، وأول ما يسترعي الانتباه فيها هو تشديد الرازي على دور الاستقامة الخلقية في نجاح عمل الطبيب، فيقول ” أول ما يجب [على الطبيب] صيانة النفس عن الاشتغال باللهو والطرب والمواظبة على تصفح الكتب” ” وإياك ومعاقرة الخمر .. إذ ربما احتاج إليك [مريض] في وقت فتٌصادف سكران، فتصغر في عينيه، ويقع في علاجك من الخطأ ما لم يمكنك تداركه”، كما ينبه إلى ضرورة ” أن يغض الطبيب طرفه عن النسوة ذات الحسن والجمال وأن يتجنب لمس شيء من أبدانهن، وإذا أراد علاجهن أن يقصد الموضع الذي فيه معنى علاجه ويترك إجالة عينية إلى سائر بدنها” وهو في هذه الجزئية الأخيرة يؤيد ما ذهب إليه جالينوس من قبل، ويدعمه بما شاهده من حوادث لبعض أطباء عاينوا النساء فكثر فيهم القيل والقال. ولا يتوقف الرازي عند مناقشة الالتزام الأخلاقي الفردي وأثره على الممارسة الطبية وإنما يناقش بعض المسائل الاجتماعية التي نجد صداها اليوم، مثل: الحق في تلقي الرعاية الصحية بغض النظر عن المستوى الاجتماعي، وهو يلخص موقفه من هذه المسألة بقوله “وينبغي للطبيب أن يعالج الفقراء كما يعالج الأغنياء”، ومثل: حفظ أسرار المرضى، وهي واحدة من أهم آداب مهنة الطب منذ وجدت حتى يومنا هذا، فعلى الطبيب ” أن يكون رفيقا بالناس حافظا لغيبهم كاتٍما لأسرارهم.. فإنه ربما يكون ببعض الناس من المرض ما يكتمه من أخص الناس به”.
الرهاوي: انعقاد الصلة بين العقيدة والطب
كتاب “أدب الطبيب” لإسحاق الرهاوي هو أول وثيقة مكتملة تبحث في الأخلاق الطبية كما أسلفنا، إذ جاء في مقدمة وعشرين بابا حوت أمهات المسائل المتعلقة بآداب الطبيب وواجباته، والمشكلات التي تثيرها مهنة الطب، وأول ما يسترعي الانتباه في معالجة الرهاوي أنه أقام رابطا بين صحة العقيدة وبين كمال مهنة الطب، فيحدثنا في مقدمته عن الاعتقادات الثلاث التي ينبغي للطبيب الإيمان بها، وهي: الاعتقاد بالخالق جل وعلا، والمحبة الصادقة التي ينبغي للعبد أن ينظر بها إلى خالقه، والإيمان بالرسل والأنبياء. وتأسيسا على هذه العلاقة الارتباطية بين العقيدة والطب نجده يحذر من استخدام الطبيب الذي لا إيمان له، فيقول: “فليس لك أن تحفل بمن عدل عن هذه الأمانات [الاعتقادات] ظنا منه ببطلانها فازدرى على الشرائع وأظهر التدهر والزندقة، فليس ذلك منه إلا جهلا يسوقه إلى الهلاك وسوء العاقبة”، يعلل ذلك بأن فساد اعتقاده برهان على “حيرته وسوء عقله” ومن كان بهاتين الصفتين لا ينبغي الوثوق به. وفي كتابه يسوق الرهاوي عددا من المبادئ الأخلاقية التي يراها لازمة للطبيب ومنها : – أن “لا يرغب في الحرام من الأموال، فكم ممن قد أرغبهم الأشرار من الرجال والنساء ببذل الأموال والمواعيد وأنواع الخدم، فلشرههم وجهلهم أعطوا أدوية قتالة، ومذرحات أسقطت الأجنة وأشباه ذلك من الأمور المهلكة، جميع ذلك جهلا بالعواقب وكفرا بالمنعم”. – “لا يجوز للطبيب أن يعالج مرضا لم يتحقق عنده مرضه لئلا يوقعه في مرض آخر يكون أعظم من الأول فيحتاج أن يعالج من العلاج”، وكأنه بذلك يطلب من الطبيب أن يتيقن من تشخيص المرض، إذ ربما تشابهت الأعراض فيعطى المريض دواء لا يحتاجه. – “ووجه العدل وابتداؤه ينبغي أن يكون من الطبيب أولا، وذلك بأن يروض نفسه ويأخذها دائما باستعمال الأخلاق المحمودة والأفعال المرضية… مع الاجتهاد في اقتناء صناعته ودرس كتبها، والمعاناة لأعمالها، لا يفرق في ذلك بين الناس كافة، ولا يفرق في ذلك بين صديقة وعدوه، ولا بين موافقه ومخالفه”، وهو في هذا يلتقي مع ما ذهب إليه الرازي من أن الرعاية الصحية هي حق للجميع دون استثناء. – ولأجل انضباط المهنة وردع المتطفلين من ممارستها دون معرفة يقترح الرهاوي على ولاة الأمر من الأمراء والملوك منعهم واشتراط إجراء امتحان لمن يود ممارسة الطب، فيقول: “ولما كان قوم قد تغطرسوا على هذه الصناعة فادعوها بغير معرفة بها، وجب على الملك خاصة، إزالتهم عما عصوه أولا…. وألا يُمكن من الجلوس للطب إلا بعد ما ذكرناه من المحنة [الامتحان] والاختيار من الأطباء”.
الزهراوي: هل في القتل رحمة؟
أبو القاسم الزهراوي (ت: 404ه) هو طبيب وجراح أندلسي من رواد الجراحة والتشريح في الحضارة الإسلامية، ألف كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف)، ويُعدّ هذا الكتاب من أعظم الكتب في الطبّ، إذ جاء في ثلاثين مجلدا، وقد ناقش الزهراوي خلاله بعض القضايا الأخلاقية التي تعترض عمل الطبيب، ومنها ما لم يزل قائما في عصرنا مثل قضية القتل الرحيم الذي أباحته بعض الدول بتشريعات قانونية، وهو ينبه تلاميذه إلى ما يجب اتخاذه في هذا الشأن قائلا: “قد يقع إليكم في هذه الصناعة ضروب من الناس يضجرون من الأسقام، فمنهم من قد ضجر بمرضه فهان عليه الموت لشدة ما يجد من سقمه، وطول بليته، وبالمرض من التعذر ما يدل على الموت. ومنهم من يبذل لكم ماله ويغنيكم به، رجاء الصحة، ومرضه قتال، فلا ينبغي لكم أن تساعدوا من هذه صفته البتة، وليكن حذركم أشد من رغبتكم وحرصكم، ولا تقدموا على شيء من ذلك إلا بعد علم ويقين يصح عندكم بما يصير إليه العاقبة المحمودة، واستعملوا في جميع علاج مرضاكم تقدمة المعرفة والإنذار بما تؤول إليه السلامة، فإن لكم في ذلك عونًا على أكتساب الثناء والمجد والذكر والحمد، ألهمكم الله يا بـنّي، الرشد ولا حرمكم الصواب والتوفيق”. خلاصة القول، أن التصنيف في الأخلاق الطبية ظهر خلال القرن الثالث الهجري وتواتر بعده، وأن كثيرا من المبادئ الأخلاقية التي طرحت حينئذ لم تفقد صلاحيتها رغم التطور الحاصل في المجال الطبي.