إن قصة الإسراء والمعراج قد كانت وستبقى أعظم حدث في السيرة النبوية، لأنها عرفت نقلات جد متنوعة ومتناسبة ومؤسسة لقوانين الوجود بكل صوره وتفاعلاته . فقد جمعت في لحظات جد وجيزة بين الواقع والمثال ،الروحي والجسدي ،الأرضي والسمائي ،التاريخي والديني، الفيزيائي والكيمائي،الزماني والمكاني،الملكي والفلكي،كما ربطت بين نسبية الزمان والمكان وبين سرعة الإنسان ومنتهى الطرف والعيان، وأيضا تفاعل النفسي والجسمي والغذائي والسلوكي…

الحكمة البليغة للمعجزة و بعدها الروحي والتاريخي

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”أتيت بالبراق  وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار  ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه ،قال:فركبته حتى أتيت بيت المقدس ،قال:فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء ،قال:ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين  ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر  وإناء من لبن وإناء من خمر  فاخترت اللبن ،فقال جبريل :اخترت الفطرة “[1].

يقول محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله تعالى: “إن في الاقتران الزمني  بين إسرائه عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس والعروج  به إلى السموات السبع لدلالة باهرة على مدى ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله تعالى ،وفيه دلالة واضحة أيضا على العلاقة الوثيقة بين ما بعث به كل من عيسى بن مريم ومحمد بن عبد الله عليهما الصلاة والسلام ، وعلى ما بين الأنبياء من رابطة الدين الواحد الذي ابتعثهم الله عز وجل  به. وفيه دلالة على ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين في كل عصر ووقت من الحفاظ على هذه الأرض المقدسة وحمايتها من مطامع  الدخلاء وأعداء الدين ،وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمي هذا العصر  أن لا يهنوا ولا يجبنوا ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسةوأن يطهروها من رجسهم ويعيدوها إلى أصحابها المؤمنين…

وفي تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم اللبن على الخمر حينما قدمها له جبريل عليه السلام دلالة رمزية على أن الإسلام هو دين الفطرة ،أي الدين الذي ينسجم في عقيدته وأحكامه كلها مع ما تقتضيه نوازع الفطرة الإنسانية الأصيلة ،فليس في الإسلام ما يتعارض والطبيعة الأصلية في الإنسان ،ولو أن الفطرة كانت جسما ذا طول وأبعاد لكان الدين الإسلامي الثوب المفصل على قدره …”[2].

كما أن للبن دلالات العلم والمعرفة وصحة المصدر في التلقي والبحث والاستنتاج ،كما دلت عليه روايات وتأويل صريح من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم“[3].

 الإسراء والمعراج ورواية عبد الله بن عباس المدسوسة

هذا العلم والتثبت فيه هو الذي سيجعل من قصة الإسراء والمعراج مجالا للتحقيق والتدقيق، سواء على مستوى السنة والرواية ،أو على صعيد الحقائق وخضوعها للتصورات والتصديقات ، ومن بينها تلك التي اعتبرت ملفقة في هذه المسـألة كالمنسوبة زعما إلى الصحابي عبد ابن عباس رضي الله عنه .

إذ الملاحظ على أصحاب السير والمؤلفين في الميدان أنهم لم يذكروا هذه الرواية بتاتا ، بل لم يأت ذكر ابن عباس في القصة أصلا صحيحا أم منحولا ،منهم ابن هشام عن ابن إسحق ،وكذلك ابن كثير، بالرغم من تجميع هذا الأخير لمختلف الروايات صحيحها وضعيفها والمقارنة بينها وتحقيق ترتيبها و دلالاتها ،كان على  رأس تلك المصادر  صحيح البخاري ومسلم .

فحتى وإن كانت هناك رواية عن عبد الله بن عباس في هذا الموضوع فلربما لم يذكرها المحققون تفاديا لفتح المجال أمام تسريب تلك الرواية المكذوبة والمنسوبة إليه بحبكة وذكاء ماكر ، وبراعة في التخييل والتمثيل قد لا يتطابق مع الواقع والحقيقة في كثير من الجوانب .

وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي:”احذر وأنت تبحث عن قصة الإسراء والمعراج أن تركن إلى ما يسمى ب“معراج ابن عباس “فهو كتاب ملفق من مجموعة أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند ،وقد شاء ذاك الذي فعل فعلته الشنيعة هذه أن يلصق هذه الأكاذيب بابن عباس رضي الله عنه ،وقد علم كل مثقف بل كل إنسان عاقل أن ابن عباس بريء منه ،وأنه لم يؤلف أي كتاب في معراج الرسول بل وما ظهرت حركة التأليف إلا في أواخر  عهد الأمويين.

ولما وقف دعاة السوء على هذا الكتاب ووجدوا فيه من الأكاذيب المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفل زعزعة إيمان الكثير من الناس ،راحوا يروجون له ويدعون إليه وكان في جملة من كتب عنه مادحا ومعظما الدكتور لويس عوض، وما أدراك من هو لويس عوض، مع أنهم يعلمون قبل سائر الناس أنه كتاب مكذوب على ابن عباس وأن أحاديثه كلها باطلة ،ولكن الكذب سرعان ما ينقلب عندهم صحيحا إذا كان فيه ما يشوش أفكار المسلمين ويلبس عليهم دينهم “[4].

فقد تعمدت الوقوف  ،أو استوقفني عند الموضوع، هذا التحذير  عنوة من طرف المرحوم البوطي ،لما له من أهمية قصوى وأثر قوي على نفوس المسلمين وذلك من مبدأ “ليس كل ملذوذ مفيد أو دال على المآل السعيد”،وإنما قد يكون اللذيذ قاتلا شر قتلة ومدمرا إلى حد بعيد، بل هو أكثر ضرا من سم الأفاعي وخبث الصدأ أو العناكب  في المناكب.

إن توظيف هذه الرواية المزعومة والتركيز عليها ونشرها على أوسع نطاق لهي مماثلة لخلفية أولئك الذين يروجون وينشرون  مثل كتاب “الروضالعاطر  في نزهة الخاطر في علم النكاح“المختص ،زعما وتطرفا ،في المجال الجنسي باعتباره عالم الملذوذات ودغدغة المحسوسات وتنويع المهيجات التي تلعب بالخيال الغريزي لعبا وتسكر العقل الضيق إسكارا  وتجعل من المراهق شيخا ومن الشيخ مراهقا وليس كهلا  كمثال دمية وكراكيز توجه بأدنى إشارة وتهتز بأوهن أصبع وإثارة.

وهذا الخطر المحدق بالعقيدة، والمهدد للمعتقِد البسيط أو الفج الضعيف، سبق وحذر منه  الغزالي  في كتابه الرائع والعلمي بامتياز :”إلجام العوام عن علم الكلام “،والذي سيذكر فيه وظيفة احترازية ووقائية في باب العقيدة عبر عنها بالوظيفة السادسة ،وهي” الكف بعد الإمساك” أي الإمساك عن التصرف في النصوص الغيبية والعقدية بشكل جزافي واعتباطي :”وأعني بالكف كف الباطن عن التفكر في هذه الأمور فذلك واجب عليه كما وجب  عليه – أي العامي – إمساك اللسان عن السؤال والتصرف ،وهذا أثقل الوظائف وأشدها وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن أن لا يخوض غمرة البحار وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها ،ولكن لا ينبغي أن يغره نفاسة جواهرها مع عجزه عن نيلها ،بل ينبغي أن ينظر  إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائس البحار فما فاته إلا زيادات وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها. فإن غرق أو التقمه تمساح فاته أصل الحياة ،فإن قلت:إن لم ينصرف قلبه من التفكير والتشوف إلى البحث فما طريقه؟قلت:طريقه أن يشغل نفسه بعبادة الله وبالصلاة وقراءة القرآن والذكر ،فإن لم يقدر فبعلم آخر لا يناسب هذا الجنس من  لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه،فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة  والحياكة ،فإن لم يقدر فبلعب ولهو وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه العظيم خطره وضرره،بل لو اشتغل  العامي بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله تعالى فإن ذلك غايته الفسق وهذا عاقبته الشرك وأن الله لا يغفر أن يشرك  به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء”[5].

إذ الغزالي سيكون هنا واضعا اللبنات لما يمكن أن نصطلح عليه بعلم النفس العقدي ،وهذا من أدق العلوم في نظرنا وأصوبها وأضبطها  في المجال السلوكي ،حيث سرعة التأثر بالأيديولوجيات ودغدغة المشاعر والعواطف عندها قد ينساق المرء مع أوهام الشوق والذوق من غير اكتراث ولا التفات ،لأن حبك للشيء يعمي ويصم .  

وعين الرضا عن كل عيب كليلةوعين السخط تبدي المساويا

خاصة وأن مسألة الإسراء والمعراج هي من حيث المبدأ مثيرة للفضول ومحركة للخيال منذ الوهلة الأولى، شئنا أم أبينا،فإذا لم تكبح جماح العواطف عند محاذاة شواطئها تاهت النفوس عندها مع الأهواء وتشابه الأسماء في فضاءات لا نهاية ولا حد لها .

وهذا هو الذي قد حصل فعلا  في الرواية المنسوبة زعما إلى عبد الله بن عباس حيث تبدو جدلية الملل والنحل جلية والصياغة فيها مقصودة وليس أنها مجرد سرد وخطأ أو تقصير في التعبير والتمثيل.

فمن بين المحطات التي تتجلى فيها قمة الحبك والصناعة المثيرة نجد هذه الفقرة:”قال النبي:فدنوت من ربي حتى صرت منه كقاب قوسين أو أدنى فوضع يده ،يعني يد الله عز وجل، بين كتفي ،ولم تكن يدا محسوسة كيد المخلوقين ،بل يد قدرة وإرادة،فوجدت بردها على كبدي ،فذهب عني كل ما رأيته من العجائب وأورثني علم الأولين والآخرين ،وملئت فرحا وسرورا ،فأخذني عنه الثبات والسكون فظننت أن من في السموات والأرض قد ماتوا إلا  أنا لا أسمع هناك حسا ولا حركة ،ثم رجع إلي عقلي وتفكرت فيما أنا فيه من الشرف العظيم…”.


[1] رواه مسلم

[2] محمد سعيد رمضان البوطي :فقه  السيرة ص152-153

[3] رواه البخاري في كتاب العلم

[4] محمد سعيد رمضان البوطي :فقه السيرة 154

[5] الغزالي:إلجام العوام عن علم الكلام  دار الكتاب العربي بيروت ص77