نتناول في هذه المقالة جانب من مسارات حركة الإصلاح المعرفي في الأمة، وهو المسار الخاص بالمفاهيم وتحديداً مفهومي ” الإصلاح” و”التغريب” وهما المفهومان الأبرز في النشاط المعرفي لحركة الإصلاح خلال القرن العشرين.
ارتبط مفهوم “الإصلاح” في الفكر الحديث بحركة “الإصلاح الديني” في أوروبا ضد هيمنة الكنيسة والإقطاع وتسلطهما على العقل الإنساني والعمران البشري في العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، وقد ظهرت هذه الحركة مع ظهور المذهب البروتستانتي مقابل المذهب الكاثوليكي المهيمن على الحياة الكنيسة آنذاك.
أما في العالم الإسلامي فقد ارتبط مفهوم “الإصلاح” في العصر الحديث بالجانب المادي العسكري، كما ظهر في تجربة السلطان سليم الثالث (1761) ومحمد علي (1769)، وناصر الدين شاه (1831) باقتباس “التعليم العسكري” من النمط الغربي. و يلاحظ أن مصطلح “الإصلاح” لم يكن له وجود عند المفكرين المسلمين في بداية المواجهة مع الفكر الغربي وحضارته، بل مالوا إلى استخدام وتبنى مفهوم “التجديد”.([5]) وهو ما دفع رضوان زيادة للتساؤل “لماذا استبعد تماماً لفظ الإصلاحReform لحساب مصطلح التجديد Reconstruction،…ويرد ذلك إلى عاملين، الأول، ما جاء في الأدبيات الدينية عن “التجديد”، ([6]) والثاني: قراءة تجربة الإصلاح الديني المسيحي”.([7])
ويوصف “المعرفي” -الشطر الثاني للمفهوم المذكور – بأنه يتعامل مع الظاهرة من منظور كلي ونهائي،([8]) وقصدنا هنا بـ”المعرفي” هو مستوى الإصلاح الذي يتعامل مع كليات النموذج المعرفي التوحيدي ( المفاهيم والتصورات والمدركات وطرائق التفكير ومصادره…).
وإجرائيا الإصلاح المعرفي: الجهود الفكرية التي توجهت صوب ” الأسس المعرفية” في مجالين أساسيين، الأول: نقد وتفنيد الفكر الغربي الوافد ورده إلى أصوله؛ وذلك لبيان اختلافه وتناقضه مع النموذج المعرفي الحضاري التوحيدي. والمجال الثاني: بناء القيم والتصورات والمفاهيم والمدركات وطرق وأساليب التفكير من أجل تأسيسات منهجية في المجالات الأساسية لـ “المستوى المعرفي التوحيدي والحضاري”.
أما “التغريب” وهو واحد من المفاهيم التي تعبر عن تأثيرات الفكر الوافد في العصر الحديث مثل: الاستلاب، الغزو الثقافي، الهيمنة الثقافية…وقد اخترنا “التغريب” لمقاربته في معجمنا اللغوي من المعنى الذي نقصده أو في كثير من جوانبه حيث يشير إلى: حالة الغربة / الانفصال / الارتحال / النزوح/ الغياب / الاختفاء/ البعد…
ويبدو “التغريب” الأكثر فاعلية في العوامل التي أدت إلى هيمنة سؤال الإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، وذلك لما أنتجه مشروعه الفكري من تباينات حادة في العقل المسلم وفي تصوراته ومفاهيمه انعكست بدورها على منظومته الفكرية وطريقة تصوره للأحداث والوقائع وتفسيره لها، وهو ما يشير إليه طارق البشرى بقوله “إن من أخطر وجوه الإفساد القيمي في هذا الشأن، أن ما كان يعتبر عاملا داخلياً صار يعتبر عاملاً خارجياً في تقويم أحداث التاريخ نفسه، وانعكس الوضع، فصار ما هو عامل خارجي كالحملة الفرنسية على مصر، صار يعامل أحياناً كما لو كان عاملاً داخلياً، وذلك عندما ينظر إليه البعض عنصراً مساهماً وباعثاً للنهوض والتقدم. وقد جرى له هذا التقويم تحت إملاء المفهوم السائد عن “وحدة العصر” بالمعنى الأممي والحضاري، وما ترتب على ذلك من اغتراب والتحاق برباط التبعية مع الغرب والالتحاق المعنى هنا ليس التحاقا مادياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً ولكنه التحاق يتعلق بالوعي”.([9])
ويضيف البشرى أيضاً موضحاً اتصال واستمرار حركة التغريب وتغييب الوعي وتحقيق الانفصال عن الجذور والتاريخ والتشتت الحضاري بقوله ” وأحسب أن القيمة السائدة لدينا الآن عن “المعاصرة ” أو “وحدة العصر الحديث” بمعناها الأممي والحضاري هي من أسس ما يروج من قيم ومفاهيم تنتج اختلاط الوعي بالذات. وهي من أسس ما نعاني من اغتراب واستلاب حضاري. ولا يقتصر أثرها على إفساد نظرنا إلى واقعنا ووقائعنا من منظور خاص بنا ومتميز، ويرعى صالحنا الحضاري والمادي، ولكنه يمتد إلى نظرنا إلى ماضينا، فيعيد تشكيله على غير ما قام في الواقع الماضي. كما أنه يقيم التبعية والتجزؤ، لا في الواقع وحده ولكنه يقيمها في الوعي ذاته”([10])
كما سار المشروع التغريبي عبر نسق منهجي يهدف إلى استيعاب النخب العلمية المنتمية إلى الثقافات الأخرى عبر عدة آليات هي: التثاقف (تحقيق رغبة رحيل المهاجر من ثقافته إلى قيم الغرب، ومن سلوكيات ثقافته الأصلية، إلى قيم الغرب وسلوكياته) والتدامج (التحول الفعلي إلى ثقافة الغرب وسلوكياته) والتشتيت (الفقدان الكامل للهوية الأصلية). ([11]) وهو ما يتوافق مع وجهة النظر الغربية لمعنى التغريب والذي يعنى “أنه يجب على أي دولة تريد أن تصبح غنية وقوية ، أن تتعلم كيف تعيش وتفكر مثل الغرب”. ([12])
أما التغريب في نظر المفكرين المسلمين فيهدف إلى “خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه، ثم تحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية، وتسيدها على حضارات الأمم ولاسيما الحضارة الإسلامية“.([13])
ويخلص فهمي جدعان إلى أن دعوة “التغريبيين” تكمن في الخروج من الدائرة العربية والإسلامية خروجاً كاملاً أو شبه كامل، وهذا الخروج يتبلور بصفة خاصة في التبني الكامل للقيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للمدنية الغربية وفي الدعوة صراحة للارتباط بأوروبا والتبعية لها، ([14]) ويشير جلال آل أحمد إلى أن التغريب “مجموعة من الأعراض تطرأ على حياتنا في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ”.([15])
والتغريب بما تقدم يمكن وصفه بأنه تلك العملية التي تعرض فيها العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر-ولازال- من محاولة لفرض المشروع المعرفي الغربي القائم على تبني القيم المادية، والنظرة المادية للمعرفة والكون و تمثلاتها في ميادين الفكر والعلوم الإنسانية والطبيعة و التصورات الأساسية حول الله والإنسان والكون، على العقل والوجدان المسلم بهدف استبدال النموذج المعرفي الغربي بالنموذج المعرفي التوحيدي.
([1]) ابن منظور،جمال الدين أبو الفضل. لسان العرب، حـ7، بيروت، دار أحياء التراث العربي، ط2، 1997، ص384.
([2]) مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، استانبول، دار الدعوة، ط2 ،1960، ص 520.
([3]) الأصفهاني، الحسين بن محمد الراغب، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دمشق، دار القلم،1992، ص489.
([4])عمر،السيد. “مداخل الإصلاح في الأمة :جدالات الديني والسياسي”في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، تقرير أمتي في العالم، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2006، ص77 .
([5]) انظر -زيادة، رضوان جودت. سؤال التجديد في الخطاب الإسلامي المعاصر، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2004.
([6]) في إشارة إلى حديث “أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”.
([7])زيادة، رضوان. الخطاب العربي حول الإصلاح،في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، مرجع سابق، ص65.
([8])المسيري، عبدالوهاب. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ج1، القاهرة، دار الشروق 1999،ص121.
([9]) البشري، طارق.” الإصلاح والتجدد في أمتي صناعة محلية وحضارية ” في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج،مرجع سابق، ص 8 .
([10])البشري، طارق: ” الإصلاح والتجدد في أمتي صناعة محلية وحضارية “، مرجع سابق، ص 8 .
([11]) عمر، السيد. “مداخل الإصلاح في الأمة :جدالات الديني والسياسي”، مرجع سابق، ص105.
([12])ماكارثي، جوستين. ” سياسات الإصلاح العثماني ” ترجمة: عبد اللطيف الحارث، الاجتهاد، العدد45-46 ، بيروت، 2000،ص63 .
([13]) الجندي، أنور. شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، بيروت، المكتب الإسلامي 1978، ص13، 14.
([14])جدعان، فهمي. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979، ص324.
([15])آل أحمد، جلال. نزعة التغريب، ترجمة: حيدر نجف، كتاب قضايا إسلامية معاصرة، (21)، 2000، ص31 .