مفهوم “الإصلاح” من المفاهيم الأساسية في منظومة المفاهيم الإسلامية؛ إذ هو يَرِدُ في سياقات مهمة ومتعددة؛ بدءًا من الدلالة على حالة الأرض المحيطة بالإنسان، أو الكون بوجه عام، من الاستقامة والتوازن.. مرورًا بالدلالة على رسالة الأنبياء، في التعمير والعمران.. وليس انتهاءً بترميم العلاقات الإنسانية نحو التماسك ونبذ الشقاق..
والصَّادُ وَاللَّامُ وَالْحَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْفَسَادِ([1]). يقال: صَلَحَ يَصْلَحُ وَيَصْلُحُ صَلَاحًا وَصُلُوحًا. وَرَجُلٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَوْمٍ صُلَحَاءَ وَمُصْلِحٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأُمُورِهِ، وَقَدْ أَصْلَحَهُ اللَّهُ. والإِصلاح: نَقِيضُ الإِفساد. والمَصْلَحة: الصَّلاحُ. والاسْتِصْلاح: نَقِيضُ الِاسْتِفْسَادِ. وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ بَعْدَ فَسَادِهِ: أَقَامَهُ. وَالصُّلْحُ: تَصَالُحُ الْقَوْمِ بَيْنَهُمْ. وَالصُّلْحُ: السِّلْمُ([2]).
إذن المعنى اللغوي لمادة “صلح” تشير إلى الاستقامة في النفس وفي الأفعال، وإلى الصفاء والسلام في العلاقات بين الناس.
دلالات ثرية
والاستخدام القرآني لمادة “صلح” ومشتقاتها لا يبعد عن ذلك، بل يضيف إليه أبعادًا أخرى؛ قال صاحب (المفردات): الصَّلَاحُ: ضدّ الفساد، وهما مختصّان في أكثر الاستعمال بالأفعال. وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسّيّئة. قال تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (التوبة: 102)، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (الأعراف: 56)، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البقرة: 82)، في مواضع كثيرة.
وأشار الأصفهاني إلى أن “الصُّلْح” يختصّ بإزالة النِّفَارِ بين الناس؛ يقال منه: اصْطَلَحُوا وتَصَالَحُوا، قال: {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًاۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128)، {وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} (النساء: 129)، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما} (الحجرات: 9)، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: 10).
كما يوضح أن إِصْلَاحَ اللهِ تعالى الإنسانَ يكون تارة بخلقه إيّاه صَالِحًا، وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد وجوده، وتارة يكون بالحكم له بالصَّلَاحِ. قال تعالى: {وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} (محمد: 2)، {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ} (الأحزاب: 71)، {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (الأحقاف: 15)، {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس: 81)؛ أي: المفسد يضادّ الله في فعله؛ فإنّه يفسد والله تعالى يتحرّى في جميع أفعاله الصَّلَاحَ، فهو إذا لا يُصْلِحُ عملَه([3]).
فالاستعمال القرآني لمادة “صلح” ومشتقاتها استعمال ثري الدلالات؛ يشمل وَصْفَ الأفعال من حيث الاستقامة والتزام الصراط المستقيم.. ووصفَ العلاقات من حيث الصفاء.. كما يشمل وصف جانب من جوانب تَفَضُّلِ الله تعالى على عباده إذ يُصلح بالهم ويرزقهم صلاح الأعمال؛ أي يرزقهم ما يُسعدهم على المستوى النفسي الداخلي، والمستوى الخارجي في حركتهم وسعيهم، فيوفقهم ويسدِّد خُطاهم.
إصلاح للكون والإنسان
ويهمنا بعد التعرف على مادة “صلح” في اللغة، وفي الاستعمال القرآني، أن نشير إلى عدة معانٍ أساسية ترتبط بمفهوم الصلاح والإصلاح:
• أن الصلاح جاء وصفًا للأرض، أي البيئة، بعد أن أصلحها الله تعالى وهيّأها للإنسان؛ قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (الأعراف: 56)؛ فالأصل في حال الأرض قبل تدخُّلِ الإنسان أن حالها مُصْلَح، وأنها على الدرجة المطلوبة من الصلاح، أي من الأداء والمنفعة والانتظام والتوازن؛ بحيث لو رأينا خلال في أمر ما منها، فيجب أن نعرف أنه خلل طارئ مُسْتَحْدَث، جاء بعد تدخُّلٍ غير منضبط، على خلاف الأصل.
وقد ذكر ابن عاشور أن (الإصلاح) قد يعني أن الشيء جُعِلَ صالحًا ابتداءً، أو أُصلِحَ بعد أن كان فاسدًا.. وهو في الآية بالمعنى الأول؛ فالأرض جُعلت على الصلاح ابتداءً([4]).
• أن الإصلاح جاء عنوانًا على رسالات التي جعلها الله تعالى لتحقيق سعادة الإنسان في الدارين، ولصلاح أموره ظاهرةً وباطنة؛ فقال نبي الله شعيب لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود: 88).
فكل تشريعات الله تعالى وتوجيهاته، من الأمر والنهي، إنما جاءت لتحقيق الصلاح والإصلاح.. والإعراضُ عنها هو ما يُنتج عنه الفساد والإفساد.. فالصلاح عنوان رسالات الله، وهو أيضًا عنوان على من يلتزم بهذه الرسالات؛ بل لا يكفي في منظور الإسلام أن يكون المرء صالحًا في نفسه وإنما لا بد له من أن يتعدَّى نَفْعُه ذاتَه، ليكون مُصْلِحًا لغيره، يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طبقًا لشروطه وآدابه؛ ولهذا نعى الله تعالى على بني إسرائيل أنهم: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 79).
جاء في (الكليات): الصَّلَاح: هُوَ سلوك طَرِيق الْهدى وَقيل: هُوَ استقامة الْحَال على مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْعقل. والصالح: الْمُسْتَقيم الْحَال فِي نَفسه؛ وَقَالَ بَعضهم: الْقَائِم بِمَا عَلَيْهِ من حُقُوق الله وَحُقُوق الْعباد. والكمال فِي الصّلاح مُنْتَهى دَرَجَات الْمُؤمنِينَ ومُتَمنَّى الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ([5]).
• أن الإصلاح من شروط التوبة التامة التي لا تكتفي بكلماتِ استغفارٍ تجري على اللسان، وإنما تصير التوبةُ سلوكًا تلتزم به الجوارح.. وهنا نشير إلى نوع من التوبة يمكن أن نسميه “التوبة الفكرية”؛ أي التي تتصل بالبيان بعد الانحراف، وبالتبليغ بعد الكتمان؛ وقد ذكر القرآن شروطها في معرض الحديث عن “علماء اليهود وأحبارها، وعلماء النصارى, لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد ﷺ, وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل”([6]). فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة: 159). وقد ذكر القرآن شروط هذه التوبة بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 160)؛ قال ابن كثير: “اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} أي: رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَبَيَّنُوا لِلنَّاسِ مَا كَانُوا كَتَمُوهُ”([7]). فأصلحوا: حتى لا تكون التوبة مجرد قول باللسان؛ وبيّنوا: حتى لا يستمر الخطأ الذي أحدثوه، ويتواصل التدليس.
وهكذا يقال في كل من أراد أن يلتزم طريق “التوبة الفكرية” التامة؛ ليكون صادقًا مع الله تعالى أولاً، وصادقًا مع الناس الذين خُدعوا من قبلُ بتزييفه وتحريفه.
• أن الإصلاح جاء وصفًا للعلاقات الإنسانية، سواء بين الأزواج المتخاصمين، أو بين الفرقاء المتنازعين؛ قال تعالى: {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًاۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128)، وقال أيضًا: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات: 9). فالإسلام يريد مجتمعًا متماسكًا متراحمًا، في أسرته الصغيرة وفي أسرته الكبيرة؛ لأن الشقاق والخلاف باب للشيطان ينفذ منه للفساد والإفساد، وتقطيع الصِّلات وتوهين العلاقات..
وهكذا نجد مادة (صَلَحَ)، بما فيها صَلاحٍ وصُلْح وإصْلاح وتَصَالح ومُصَالحة، تشكِّل ركنًا أساسيًّا في منظومة القيم والمفاهيم الإسلامية التي جاءت لِصلاح الكون والنفس والعلاقات الاجتماعية.. ولن يكون ذلك إلا باتباع “رسالة الله”؛ التي هي “رسالة إصلاح” ورسالة عُمران لهذه المستويات الثلاثة أيضًا..
([1]) مقاييس اللغة، ابن فارس، 3/ 303.
([2]) لسان العرب، ابن منظور، 2/ 516.
([3]) المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، ص: 489، 490.
([4]) قال ابن عاشور: “الْبَعْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} بَعْدِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهَا عَلَى صَلَاحٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} عَلَى نِظَامٍ صَالِحٍ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَبِخَاصَّةٍ الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَخَلَقَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ، وَعَزَّزَ ذَلِكَ النِّظَامَ بِقَوَانِينَ وَضْعَهَا اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ وَالصَّالِحِينَ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ عِبَادِهِ، الَّذِينَ أَيَّدَهُمْ بِالْوَحْيِ وَالْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ، أَوْ بِالْإِلْهَامِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْحِكْمَةِ، فَعَلَّمُوا النَّاسَ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُونَ مَا فِي الْأَرْضِ عَلَى نِظَامٍ يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِفَاعُ بِنَفْعِ النَّافِعِ وَإِزَالَةِ مَا فِي النَّافِعِ مِنَ الضُّرِّ وَتَجَنُّبِ ضُرِّ الضَّارِّ، فَذَلِكَ النِّظَامُ الْأَصْلِيُّ، وَالْقَانُونُ الْمُعَزِّزُ لَهُ، كِلَاهُمَا إِصْلَاحٌ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِيجَادُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَالَثَانِي جَعْلُ الضَّارِّ صَالِحًا بِالتَّهْذِيبِ أَوْ بِالْإِزَالَةِ. وَقَدْ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَنَّ (الْإِصْلَاحَ) مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِيجَادِ الشَّيْءِ صَالِحًا وَبَيْنَ جَعْلِ الْفَاسِدِ صَالِحًا. فَالْإِصْلَاحُ هُنَا مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِصْلَاحٌ حَاصِلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ لَا إِصْلَاحٌ هُوَ بِصَدَدِ الْحُصُولِ. فَإِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ النِّظَامُ فَأُفْسِدَ الصَّالِحُ، وَاسْتُعْمِلَ الضَّارُّ عَلَى ضُرِّهِ، أَوِ اسْتُبِقِيَ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَتِهِ؛ كَانَ إِفْسَادًا بَعْدَ إِصْلَاحٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (الأنفال: 73). التحرير والتنوير، ابن عاشور، 8/ 175.
([5]) الكليات- معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، الكفوي، ص: 561.
([6]) جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، 3/ 249.
([7]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/ 473.