في عصر تنتشر فيه المعلومات بسرعة البرق عبر وسائل التواصل، أصبح الخوض في أمور الدين متاحاً للجميع. لكن، ما هي الحدود الفاصلة بين النصيحة المشروعة والتعدي على الشريعة؟ هنا يبرز مصطلح فقهي خطير وهو “الافتئات على الدين”، والذي يعني التجرؤ على ما ليس للمرء به حق.

في هذا المقال نعرض تعريف الافتئات، حكمه الشرعي، وأخطر صوره العملية، أقوال العلماء فيه، والآثار المدمرة التي يتركها على الدين والمجتمع.

التعريف اللغوي والاصطلاحي للافتئات

لفهم خطورة الافتئات، يجب أولاً التعريف بالمصطلح بشكل دقيق.

الافتئات بالهمز ويأتي بالتخفيف في اللغة، يدل على الاستبداد بالرأي والانفراد بالأمر دون إذن من ينبغي استئذانه. وقد يأتي بمعنى السبق والتعدِّي على حق الغير. وأصل الكلمة من مادة فوت أي السبق وفوت الفرصة، ومن معانيها أيضًا الافتراء وقول الباطل عن الآخرين[1].
اصطلاحًا: عرَّف الفقهاء الافتئات بأنه «السَّبْقُ إلى التصرُّف في الشيء، والانفرادُ في ذلك دونَ استئذانِ مَن هو صاحبُ الحقِّ فيه»[2]. وبعبارة أخرى، هو أن يتقدَّم الشخص على غيره في أمر هو من اختصاص ذلك الغير دون إذنه، فيعتدي على حق من هو أولى منه[3].

ويشمل ذلك نوعين رئيسيين:

  1. الافتئات على حق الإمام (ولي الأمر) في أمور السلطنة كإقامة الحدود وإعلان الجهاد وعقد المعاهدات
  2. الافتئات على حق غير الإمام في شؤون خاصة كحقوق الوالد في تزويج ابنته أو حق إمام المسجد الراتب في الإمامة ونحو ذلك.

حكم الافتئات في الإسلام؟

أجمع الفقهاء على أنَّ الافتئات على الآخرين في أمور الدين محرم شرعًا في الجملة؛ لما فيه من تعدٍّ على حقوق من هو أولى بالأمر. فلا يجوز لأحد أن يتصرَّف في اختصاص غيره بدون إذنه، سواء كان المفتات عليه هو ولي الأمر (الحاكم الشرعي) أو عالمٌ صاحب اختصاص أو غيرهما.

حكم الافتئات على ولي الأمر

إن وقع الافتئات على حق الإمام خاصة، عُدَّ ذلك جريمة تستوجب التعزير والتأديب؛ لأنه إساءة إلى مقام الإمام، ونوع من الخروج عن طاعته. وقد نص العلماء على أن من يفتات على ولي الأمر يُعاقَب لتعزيز هيبة السلطة وحفظ النظام.

مثال ذلك: إقامة الحدود الشرعية حقٌّ خاص للإمام أو نائبه، فلا يحل لأحد من العامة أن يقيم حدًا أو يُنفِّذ قصاصًا دون إذن السلطان؛ ومن يفعل ذلك يُؤدَّب شرعًا لافتئاته على سلطة الدولة[4].

حكم الافتئات على حقوق الأفراد

أما الافتئات على حقوق الأفراد كافتئات وليٍّ أبعد على ولاية الزواج مع وجود الولي الأقرب، فقد تتوقف صحة التصرف على إجازة صاحب الحق أو نظر الحاكم؛ وفي كثير من الحالات يحكم الفقهاء ببطلان التصرف لكونه غير مأذون به أصالةً.

وبوجه عام فإن الافتئات مذموم ومحرم إلا في حالات الضرورة القصوى أو بإذن صاحب الحق؛ فإذا أذن أو فوَّض صاحب الشأن زال وصف الافتئات لأن الإذن يجعل التصرف مشروعًا من أصله[5].

أخطر صور الافتئات على الدين وأمثلة من الواقع

يمكن العثور على صور متعددة للافتئات في مجالات العقيدة والفقه والقضاء وغيرها، منها على سبيل المثال:

الافتئات في العقيدة والدعوة

أن يتصدر بعض الأفراد لتأويل النصوص الشرعية أو إطلاق أحكام التكفير والجهاد دون رجوع للعلماء ودون إذن ولي الأمر. مثال ذلك: ما قامت به جماعات متطرفة حين ادعت أنها وحدها تفهم الشرع وتطبق الحدود وتعلن الجهاد بنفسها، منتزعةً صلاحيات الإمام ومفترضةً نفسها مكان الدولة.

وهذا افتئات واضح على سلطان ولي الأمر في أمور العقيدة العامة والجهاد، وقد بيَّن العلماء أن أمر القتال وإعلان الجهاد موكول للإمام وحده، ولا يجوز أن يتولاّه الأفراد، لقول النبي : «أُمِرْتُ (أي النبي ) أن أقاتل الناس…»[6]، حيث صرّح «لم يأتِ بلفظ أُمرنا أو أَمرتُكم حتى لا ينسحب الأمر على الأفراد أو الأمة»، مما يفيد أن قرار الحرب شأنٌ من شؤون الدولة حصراً. فافتئات هؤلاء على حق ولي الأمر أوقعهم في انحرافات كالتكفير بغير حق واستباحة الدماء.

الافتئات في الفتوى

أن يقوم من ليس أهلًا للعلم بالإفتاء في دين الله بغير علم ولا إذن. قال أهل العلم صراحةً: «الأصل في الفتوى أنها لا تكون إلا لأهل العلم، وليس لغيرهم أن يُفتي في دين الله تعالى». فتصدي الجهلة أو المتعالمين للإفتاء يُعدُّ افتئاتًا على أهل العلم والافتاء.

ومن صور ذلك أيضًا تجاوز النظام الشرعي للإفتاء في بعض الدول؛ كأن يصدر شخص فتوى مخالفة للفتوى الرسمية يُعلن رؤية الهلال (بداية رمضان أو العيد) مستقلًا عن الجهة المخوَّلة، مما يسبب البلبلة.

وقد حذر السلف من الجرأة على الفتيا بغير حق، فروي في الحديث: «أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار», وتنسب أيضًا كلمة: «من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض». وعلى الرغم من ضعف بعض هذه الروايات إسنادًا، إلا أن معناها صحيح عند العلماء. فمن يفتئت على أهل الإفتاء بغير علم يقع في القول على الله بلا علم وهو أمر عظيم الحرمة.

الافتئات في القضاء وتنفيذ الحدود

أن يتولى الأفراد استيفاء الحقوق وإقامة الحدود أو العقوبات الشرعية دون سلطة قضائية. مثال: قيام ولي الدم بالقصاص من القاتل مباشرةً دون رفع الأمر للقضاء، أو تنفيذ بعض المتدينين حدًا (كالجلد أو الرجم) على متهم بالزنا أو السرقة دون حكم من محكمة شرعية. هذا التصرف محرَّم شرعًا ويندرج تحت الافتئات على الإمام والقضاء.

وقد قرر الفقهاء أن إقامة الحدود والقصاص من اختصاص الحاكم الشرعي فقط ، فلا يجوز لأحد أن “ينتزع سيف القضاء” ويفاخر بأنه يقيم الشرع بنفسه. وقد اتفق العلماء على أن من قتل مرتدًا أو زانيًا محصنًا دون إذن الإمام فإن الحد يقع على الجاني (فلا ديةَ للمقتول المستحق للعقوبة)، ولكن يُعزَّر الفاعل لتعدّيه على صلاحيات الحاكم.

وكذلك استيفاء القصاص بلا إذن السلطان يُعتبر صحيحًا من حيث إنه أخذٌ للحق لكنه يستوجب التعزير عند جمهور الفقهاء لافتئات فاعله على السلطة القضائية. وفي العصر الحاضر، تُصنَّف مثل هذه الأفعال كجرائم (كتحقيق القصاص الأهلي أو إنشاء محاكم موازية) ويعاقب عليها القانون في الدول الإسلامية لخطورتها على النظام العام.

في الإمامة وإمامة الصلاة

من أدلة الشرع أن الإمامة حق لمن عُيِّن لها أو من هو أحق بها، ولا يصح أن يفتات أحدٌ عليه في ذلك. ففي إمامة الصلاة نهى النبي أن يؤمّ الرجلُ جماعةً في حضور صاحب الحق بالإمامة. جاء في الحديث الصحيح: «لا يُؤمَّنَّ الرَّجلُ الرَّجلَ في سُلطانِهِ ولا يَقعُد في بَيتِهِ على تَكرِمَتِهِ إلّا بإذنِهِ». ومعناه كما قال العلماء أن إمام المسجد الراتب أو صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره، فلا يجوز لضيف أو مأموم أن يتقدم للصلاة بوجود الإمام إلا بإذنه[9]. وبالتالي، من يتخطى الإمام الراتب ويؤم الناس دون إذنه يكون مفتاتًا على حقه الشرعي.

وبالمثل في الإمامة العظمى (ولاية الحكم)، لا يجوز لشخص أن ينصِّب نفسه حاكمًا أو أميرًا على المسلمين بدون بيعة شرعية أو تفويض من أهل الحل والعقد؛ لأن ذلك افتئات على سلطة الأمة وسبب للفوضى والفرقة. وقد ذكر الفقهاء أن انتزاع أي اختصاص من ولي الأمر أو القفز فوق سلطته هو افتئاتٌ محرّم بإجماعهم.

أقوال العلماء في التحذير من الافتئات

أكّد علماء الإسلام قديمًا وحديثًا على حرمة الافتئات وخطورته على جماعة المسلمين، ونورد بعضًا من أقوالهم الموثوقة:

  • الإمام الماوردي (ت ٤٥٠هـ): «فعلى كافّة الأمة تفويضُ الأمور العامّة إليه (أي إلى وليّ الأمر) من غير افتياتٍ عليه ولا معارضةٍ له ليقومَ بما وُكِل إليه من تدبير المصالح»[10]. فهذا نصٌّ صريح يوجب على الناس عدم التعدي على صلاحيات الحاكم.
  • قول جماعة من أهل العلم: «فلا يجوز لأحدٍ الافتياتُ على الإمام، ولا المُضيُّ في شيء من الأمور إلا بإذنه؛ ومن افتات عليه فقد سعى في شقِّ عصا المسلمين وفارق جماعتهم»[11]. وقد استدلوا بحديث النبي : «من عصى الأمير فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله». فهذا التحذير الشديد يبيّن أن المفتات على ولي الأمر يُعدُّ مفرِّقًا لجماعة المسلمين وخارجًا عن طاعة الرسول .
  • الإمام ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ): قرر قاعدة منع تغيير المنكر لمن ليس له ولاية، فقال: «ليس لأحدٍ أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد شارب الخمر ويقيم الحدود؛ لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد… فهذا مما ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر المطاع كالسلطان ونوابه». فابن تيمية ينهى صراحةً عن ممارسة إقامة الحدود لمن ليس له ولاية، ويعدّ ذلك أخطر من المنكر نفسه لكونه يوقع في فوضى أشد[13].
  • الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت ٧٩٥هـ): ذكر في سياق طاعة ولاة الأمور في الاجتهاديات: «لا يجوز الافتئاتُ على الأئمة ونوّابهم ولا إظهار مخالفتهم، ولو كانوا مُفرِّطين في نفس الأمر… فإن تفريطهم عليهم لا على من لم يفرّط» [14]؛ أي أن تقصير الحاكم لا يبرر افتئات الرعية والخروج عن النظام.
  • وقال شمس الدين أبوعبدالله بن الأزرق الغرناطي وهو يعدد ما يصدر من مخالفات لولي الأمر : “المخالفة الثالثة : الافتيات عليه في التعرض لكل ما هو منوط به ، ومن أعظمه فسادا تغيير المنكر بالقدر الذي لا يليق إلا بالسلطان، لما في السمح به والتجاوز به إلى التغيير عليه… ومن السياسة تعجيل الأخذ على يد من يتشوق لذلك وتظهر منه مبادئ الاستظهار به، وإن كان لا ينجح له سعي، ولا يتم له غرض”[15]. ب
  • دار الإفتاء المصرية (مفتي مصر د. شوقي علام): أكدت في بيانٍ حديث أن «انتزاع الاختصاصات من ولي الأمر أو منازعته فيها أو القفز فوق سلطاته يُعدُّ من الافتئات عليه»، وأن الفقهاء نصّوا على عقوبة المفتات؛ مما يدل على حرصهم على حفظ كيان الدولة ومنع الفوضى. وبيّن المفتي أن الجماعات المتطرفة التي خرجت على ولي الأمر انطلقت من تكفير الحكام وتفرّدت بتطبيق الشريعة زعمًا، وهذا مسلك باطل يدل على سوء فهمهم للنصوص الشرعية.

الآثار المترتبة على الافتئات في الدين

إن الافتئات في أمور الدين – سواء على السلطان أو العلماء – ليست مجرد مخالفة نظرية، بل تترتب عليه أضرار جسيمة في الدين والدنيا، منها:

تقويض وحدة الأمة وانتشار الفوضى

يؤدي الافتئات إلى انقسام الصف وشق عصا الطاعة، مما يولّد فتنًا دائمة في المجتمع، ويُجرّئ أهل الأهواء والسفهاء، ويضعف هيبة السلطة الشرعية، ويخلّ بمصالح الأمة واستقرارها. فكل من تجاوز إمامه أو جماعته في أمر عام إنما يفتح باب الفتنة والاضطراب الذي قد لا يُحمد عقباه.

ضياع الحقوق وظهور الظلم

عندما يتصرّف غير المؤهَّل في الإفتاء أو القضاء بغير إذن، تنتشر الأحكام الخاطئة ويضيع العدل. قد يُعاقَب أبرياء أو تُهدر دماء بغير حق بسبب افتئات الجهلة، كما قد تضيع حقوق الضعفاء لغياب النظام الرسمي. لذلك قال العلماء: من أفتى بغير علم فإن كل ما يترتب على فتواه من مخالفة للشرع يتحمّل وزرَه المفتري؛ لأنه تسبب في ضلال الآخرين وإيقاعهم في الحرام أو تركهم للواجب. فالإفتاء بغير علم طريق إلى الضلالات وهلاك الحرث والنسل.

الإثم العظيم والعقوبة الأخروية

يعدُّ الشرعُ الافتئاتَ على دين الله من كبائر الذنوب لما فيه من قولٍ على الله بغير علم. وقد قرن اللهُ التجرؤَ على الفتيا بغير علم بالشرك في التحريم في كتابه، فقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ بعد أن ذكر تحريم الشرك والفواحش. فالذي يتجرأ على منصب الإفتاء أو يتكلم في العقيدة بغير حق مُتوعَّدٌ بالنار وبسخط الرحمن عز وجل. وقد ورد في الحديث: «من أفتى بغير علم، كان إثمُه على من أفتاه»[16].

التعرّض للعقوبة الشرعية الدنيوية

اتفقت كلمة الفقهاء على أن للإمام معاقبة المفتات تعزيرًا وتأديبًا ليكفّ الناس عن هذه التجاوزات. وقد طبقت الدول عبر التاريخ هذا الأمر صونًا للنظام؛ ففي العصر الراهن تُجرّم الأنظمة القضائية والدينية الرسمية أعمال الافتئات (مثل إنشاء جماعات دينية أو إصدار فتاوى رسمية بلا ترخيص) وتفرض عقوبات صارمة على مرتكبيها تصل إلى السجن ونحوه. وهذه العقوبة الدنيوية إنما شرعت زجرًا للمخالف وحمايةً للأمن الديني والمجتمعي.

الافتئات في الدين ظاهرة خطيرة تُنافي نظم الشريعة ومقاصدها في حفظ الجماعة والمرجعية العلمية. فالواجب على المسلم لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، واحترام التراتبية العلمية في الفتوى والتعليم. ولا يجوز أن يقتحم المرء ما لا يحسنه أو يستبد بالأمر دون أهله، لئلا يقع في تعدٍّ على حقوق الله وحقوق العباد فيجر على نفسه والمجتمع من المفاسد ما لا يُحمد. وقد قال النبي : «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتُم»[17]، فكلٌّ مسؤولٌ عما وُكِل إليه، وليس لأحد أن يفتات على الآخر في أمر جعله الشرع من اختصاصه. نسأل الله العافية والسلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.