من الإشكاليات التي صدرتها لنا الحداثة اعتبار التراث عقبة في طريق التنظير المعرفي الإسلامي وضرورة تجاوزه من أجل الدخول في المعترك الحضاري المعاصر بذهنية خالية من أية أحكام مسبقة يمكن أن يمدنا بها التراث، ولعل الباحث المسلم – الذي نوجه إليه هذه المقالة- يقف هو الآخر في حيرة فكرية يتساءل ما العمل مع التراث؟ وكيف يمكن تجاوز عقبته – تلك التي صدرتها لنا الحداثة والحداثيون؟

في مفهوم التراث

التراث من ورث، ورث فلاناً: جعله من ورثته…ويقال أورثة المرض ضعفاً، والحزن هماً، وأورث المطر النبات نعمة. (توارثوا) الشيء: ورثة بعضهم عن بعض، و(الإراث) ما ورث، و(التراث): الإرث و(الوارث): صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الأرض ومن عليها1.

ويشير القرآن إلى معان متعددة لمضمون التراث، منها:   التراث المادي (وتأكلون التراث) (وورث سليمان داود)، (وورثة أبواه)، (وعلى الوارث مثل ذلك).

التراث المعنوي وهو تراث العلم والنبوة (ويرث من آل يعقوب) أي وراثة العلم والنبوة؛ لأن الأنبياء لا يورثون مالاً، بل يورثون العلم “العلماء ورثة الأنبياء” وفي معجم الطبراني: “عن أبي هريرة أنه مرَّ بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم، قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَسَّم وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد فدخلنا، فلم نر فيه شيئا يُقَسَّم، فقال لهم أبو هريرة: أما رأيتم في المسجد أحدا؟ قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرءون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم”.

ولم يظهر مصطلح التراث بمعانيه الحديثة إلا مع أحمد أمين في ترجمته لكتاب “تراث الإسلام”، ثم شاعت هذه الكلمة مع مشروع طه حسين “تراثنا” وصدرت في الخمسينيات كتب تحت هذا العنوان، وفى الستينيات صدرت مجموعة “تراث الإنسانية” وبذلك اتسع مفهوم “التراث”…وفى الاستعمال الحديث أصبح “التراث” يطلق على النتاج الفكري الموروث عن علماء المسلمين عبر العصور2.

وفي هذا الجانب المفهومي على الباحث أن يميز بين الوحي (الإسلام) وبين النتاجات الفكرية التي صدرت من العقل المسلم في ظل الالتقاء بالوحي، وفي هذا الجانب عليه أن يأخذ في الاعتبار أمرين:

أولهما: أن هذا التراث الفكري والمشخص لدى الأفراد ليس هو الإسلام، بمعنى أنه ليس هناك تطابق تام بين التراث والإسلام، وإنما يجئ التراث نتيجة تفاعل بالسلب والإيجاب مع الإسلام بالدرجة الأولى. وثانيهما:أن الإسلام – كما جاء في مصادره الأصلية القرآن والسنة الصحيحة – له صفة الديمومة والاستمرارية التي تتخطى عوامل الزمان والمكان، فهو ليس موقوتاً ولا زائلاً، أما الفكر الذي دار حولهما، فهو عطاء موقوت مرتبط بالزمان والمكان.

ويرى حامد ربيع أن التراث ترتبط به ثلاثة عناصر هي: القيم، والممارسة، والاستمرارية، وهى ترتبط بدورها بالجماعة التي شكلت هذا التراث وأسهمت في تكوينه وأصبح علامة من علامات تلك الجماعة وتشكلها التاريخي والثقافي. “إن التراث يفترض عناصر ثلاثة: قيم، وممارسة، واستمرارية. القيم ذاتها نوع من المعرفة والثقافة، ولكن الممارسة لتلك القيم – حيث إن الممارسة تعنى الخبرة وقد تحددت زماناً ومكاناً وموضوعاً – تقودنا إلى نطاق الحضارة، ولكن ليست كل حضارة تراثًا”.

وقد تم التعامل مع التراث الإسلامي خلال ما يقرب من قرن على عدة مستويات على اختلاف درجة الاهتمام والعمق والإتقان، وهذه المستويات هي: المستوى الأول: هو النشر، أي القيام بنشر المخطوطات الفكرية والعلمية في المجالات المختلفة وكان أكثرها ما يخص الجانب الفقهي والكلامي. والمستوى الثاني: هو التحقيق العلمي، وإضافة خدمة تهيئة المخطوط بما يناسب شكل التعامل الحديث مع الكتاب المطبوع. والمستوى الثالث: التناول المعرفي، وهو التناول الذي يهتم بتطوير أدوات التعامل والنظرة إلى التراث، ورغم أهمية هذا المستوى من التعامل إلا أن الإنتاج فيه ضعيف وليس على مستوى الأهمية المرجوة فيه.

موقف العقل المسلم المعاصر من التراث

 علينا أيضًا أن نرسم خارطة نوضح فيها موقف العقل المسلم المعاصر سواء الذي تأثر بدعوات الحداثة أو مثلت عنده فعل كان يجب أن يكون لديه رد فعل مقابل له في القوة ومضاد له في الاتجاه. والمشهد الفكري الإسلامي يشير إلى أن العقل المسلم وقف إزاء التراث الإسلامي  بصفة عامة ثلاثة مواقف متباينة من حيث القبول والرفض.

الموقف الأول: جاء متأثراً بالنظرة الغربية للتراث والتي  وضعته في ثنائية “التراث – الحداثة”، وهى الثنائية التي تنتصر للحداثة على حساب التراث ولا ترى فيه إلا عائقاً لعملية التحديث يجب أن يزال.

الموقف الثاني: موقف التيار التقليدي الذي  يدافع عن التراث بكل قوة ويراه النموذج الوحيد والنهائي لحياة المجتمع العربي الإسلامي ويجب العودة إليه بكل تفاصيله وأشكاله.

الموقف الثالث: موقف تيار الإصلاح المعرفي وهذا التيار يرى في التراث “جهد بشرى قابل للإفادة والنقد والتفحص، فأزالوا عنه القداسة، وينطلق هذا التيار من رؤية معرفية منهجية مرتكزها الأساس قائم على التفرقة بين التراث الذي هو فعل بشرى، واجتهاد ظرفي، والأصول المرجعية المتمثلة في القرآن الكريم بوصفه المنشئ والسنة النبوية بوصفها المصدر المبين”.

أهمية التراث في التكوين الحضاري

 مما ينبغي أن يرَكُز في ذهن الباحث أن التراث ليس كومة من الأوراق أو حتى من الأفكار التي أدت دورها تاريخيًا وحضاريًا في الأمة وعلى المستوى الإنساني، ولكن إضافة إلى ذلك فإن التراث يدخل شئنا أو أبينا ضمن التكوين الحضاري للأمة في كل عصورها، ولا يمكن التخلص منه جملة في إعادة بناء شخصيتها الحضارية، واستعادة وعيها الحضاري، إن التراث من حيث هو كونه تفاعل للفكرة الإسلامية مع العقل المسلم يظل تجسيدًا بشريًا للوعي الإسلامي البشري بالإسلام ذاته، ولكنه في ذات الوقت لا يمكننا أن نطلق عليه أنه الإسلام، لذلك فإن مقياس قبوله أو رفضه هو مدى قربه أو بعده من الإسلام ذاته متمثلًا في الوحي (القرآن) وصحيح السنة النبوية. وهو بذلك يظل شاهدًا على فهم الإنسان المسلم للإسلام الذي ينبغي علينا أن ننظر إليه بعين الاعتبار والجدية لما يؤديه من أدوار للهوية للمسلم في سياقاته الزمنية المتتابعة.

ويرتبط التراث في مستواه التربوي ببناء الذات وتشكلها ومعرفتها، فلا مجال للإنسان المسلم المعاصر بتحقيق هذه العمليات الثلاث حول الذات: البناء والوعي والمعرفة إلا أن يكون التراث جزءاً أساسيًا من هذه المعرفة وهذا البناء وذلك الوعي. والتراث بذلك أداة لبناء الذات الحضارية – كما يحددها حامد ربيع (1924-1989) -وفقًا للعناصر المعرفية التالية:

– إن التراث هو أداة للمعرفة بالذات، والذات واحدة لا تتعدد، وهى واحدة تعبر عن استمرارية ثابتة برغم تنوع نماذجها على المستوى الفردي والجماعي، إن المعرفة بالذات لا تنطلق إلا من الماضي.

–  إن اكتشاف الذات له أبعاده المتعددة، أهمها: عملية خلق الوعي بالذات التاريخية… إن اكتشاف الضمير التاريخي هو نقل للوعي الجماعي من اللاشعور إلى الشعور.

–  يساهم التراث في المعرفة بخصائص الطابع القومي، والطابع القومي بمعنى مختلف هو خصائص الفرد على المستوى الجماعي في تعامله مع الحقيقة الاجتماعية، وفي فهم العالم الذي يحيط به، وأساليب حل المشكلات.

–  يعمل التراث – أيضاً – على وضع إطار للتعامل مع المشكلات التي يعانى منها المجتمع العربي-الإسلامي في واقعه المعاصر، وهذا لن يتم إلا من منطلق العودة للتاريخ، والتراث هو أحد عناصر ذات التاريخ.