توصد العلمنة كل الأبواب التي تقود إلى الإيمان واليقين، وتقف بأدواتها ومعرفتها لتصد الراغببين في الوصول إلى الحقيقة، فهي تريد أن تطمس الطرق التي يسلكها الإنسان ليصل إلى ربه، لتقول للناس: تستطيعون أن تطمئنوا دون الحاجة إلى رب أو إيمان، وتستطيعون أن تنجو دون الحاجة إلى السماء، ومن الطرق التي تجتهد العلمانية في إغلاقها: التأمل الباحث عن الأسئلة الوجودية والمصيرية، فتحول العلمنة التساؤلات الكبرى لتصبح أسئلة تتعلق بالتنمية البشرية، وإكساب الإنسان مهارات جديدة للتغلب على قلقه الوجودي.
المادية والتأمل
كان الذنب الإبليسي في بدء الخليقة هو الإيمان المفرط بالمادية، والتحول منه إلى العصيان الكبير، فقد رفض “إبليس” أمر الخالق سبحانه وتعالى، استنادا إلى أساس مادي، وهو طبيعة عنصر الخلق بينه وبين آدم، فظن أن النار تسمو على الطين، فكان الاستغراق التام في تلك المادية، السبب في تحوله إلى شيطان رجيم.
والتأمل إذا جعل حدوده المادة، لن يرتقي الإنسان، بل سيعيش في حدودها ووفق قانونها، ولن يستطع أن يكسر قيودها، ولن تحلق روحه بعيدا في الملكوت، فالتأمل أشبه بأجنحه الطائر بالنسبة للعقل، فإذا كان الجناح كليلا كسيرا يضرب بضعف الهواء، ظل العقل منحصرا في المادية، وإذا كان قويا فإن التحليق يكون عاليا، لذا نصح “جلال الدين الرومي” ألا يذهب الإنسان إلى التأمل بغير استعداد ولا تأهب، لأن غنيمة التأمل هي الوصول إلى الحقيقة والغاية من الوجود والخلق، لذا كان يقول: “فإن تطلب اللؤلؤ..عليك بالغوص في عمق البحر فما على الشاطئ غير الزبد”، فما على شاطيء التأمل إلا استغراق آخر في المادية، بعدما حولت الماديةُ روح َالتأمل العميق إلى تنمية لقدرات بشرية تُقام من أجلها المراكز، وتُعقد لها الدورات، ويتخصص فيها أشخاص قادمون من أعماق المادية ليخاطبوا الروح بلغة خادعة، وهو ما تنبه له “الرومي” بقوله:”إن الرجل اللئيم يسرق لغة الدراويش ليتلو على البسطاء أسطورة منها يخدعهم بها”.
ومع غياب التأمل انتشرت في الغرب “البوذية” الداعية إلى نوع من التأمل المُخادع؛ فينظر فيه الإنسان إلى داخله سعيا لتحقيق سلام داخلي، فالبوذية عند كثير من الغربيين الماديين مخرج وجدوا فيه متنفسا لحاجتهم للتأمل بعيدا عن الدين، فالدين يحوي تكاليف وأوامر ونواهي، وغالبية هؤلاء يريدون أن يحيوا بلا تكليف ولا عبادة ولا ضمير يقظ، ومع ذلك يريدون أن يحصلوا على الطمأنينة، من خلال القيام بتدريبات تبدو روحية لكنها غير ذلك!
بعد حرب فيتنام في السيتينات من القرن الماضي انتشرت البوذية وفسر البعض هذا الانتشار بأنه بديل أفضل من المخدرات في ظل الصدمات التي يعيشها كثير من الأمريكيين بسبب تلك الحرب، فكثرت المؤلفات الغربية عن البوذية، وتحول عدد من المشاهير خاصة في هولييود إليها، وأرجع آخرون سبب انتشار البوذية إلى غياب فكرة الإله، وهي فكرة يتفهمها العقل المادي، كما أن البوذية ذات رؤية محدودة للكون، وفيها ما يخلق قدرا من الراحة للشخص المادي دون أن ينسف إيمانه الكامل بالمادية، إذ تمنح البوذية قدرا ضئيلا من البعد الإنساني للمادية الطاغية،
كما أن أكثر فكرة مُعقدة داخل البوذية هي فكرة تناسخ الأرواح، وهي فكرة أخذ بعض علماء النفس والأعصاب الغربيين في محاولة إثباتها، إضافة إلى أن البوذية قليلة الاعتراض ونادرة الرفض للواقع، ومن ثم فهي لا تسعى إلى تغييره، وربما لخص هذا التوجه “ستيفن باتشلور” Stephen Batchelor في كتابه ” البوذية بلا معتقدات بوذية” Buddhism Without Beliefs and After Buddhism فيشير أن مفاهيم وممارسات البوذية لا يجب الإيمان بها، ولكن هناك أشياء في البوذية يجب القيام بها بغض النظر عن الخلفيات والمعتقدات.
المسار المُضلل
ومن المؤلفات العلمانية التي سعت إلى تغيير التأمل إلى مسار مضلل، وهو التنمية البشرية، كتاب “التأمل العلماني: 32 ممارسة لتنمية السلام الداخلي والرحمة والفرح“[1]، لـ” ريك هيللر ” Rick Heller، وهو محاضر في جامعة هارفارد، وهو يعتبر التأمل من أشكال التمارين العقلية ذات الفوائد النفسية والجسدية والاجتماعية، فهي تقلل التوتر، وتخلق التعاطف، وتُوجد التقدير للحياة في مواجهة الشدائد، لذا كان الكتاب موجها في الأساس إلى غير المتدينيين، ليرسم لهم خريطة للتواصل الداخلي، وهو يغطي بتلك التدريبات على دور التأمل في إيجاد المعنى العميق للحياة، إذ يحصر نصائحه في تعميق فكرة الحياة وليس البحث عن المعاني الكبرى للحياة والوجود.
أما كتاب “المهوس اليقظ: التأمل العلماني للمتشككين الأذكياء“[2] فمؤلفه ” مايكل تافت” يقدم نصائحه للملحدين واللادينيين للقيام بالتأمل دون الحاجة إلى دين أو إيمان، و”تافت” أمضى ثلاثين عاما في التدريب على التأمل، وفي دراسة البوذية، لكنه لم يغادر حدود المادية في التأمل، فمازال يؤمن أن العلم قادر على منح الإنسان فرصة للتأمل بدون الدين، إذ يتعامل مع التأمل كأنه تقنية ومهارة، وليس روحا باحثة عن تساؤلات كبرى، وراغبة في الظفر بمعنى واضح للوجود.
وفي كتاب “منارة العقل” The Mind Illuminated، لـ” جون ييتس ” John Yates ، لجوء إلى علم الأعصاب للقيام بالتأمل، وهو دليل إرشادي يستند إلى توفير خريطة من خلال علم الأعصاب وعلوم الدماغ لتحقيق التأمل في اليقظة والتغلب على شرود العقل والبلادة في التفكير وتشتت الانتباه.
أما كتاب “التأمل الإيماني والعلماني: التطبيقات اليومية وما بعد الصدمة”[3] لـ”ريمون سكورفيلد” Raymond Scurfield، فهو خلاصة أربعين عاما من البحث في التأمل وتأثيراته النفسية والجسدية، إذ هو أحد مداخل العلاج النفسي، وأحد وسائل تقليل التوتر والقلق والاكتئاب، وتحسين وظائف الجسم، يقترح الكاتب إدخال التأمل كأحد العلاجات النفسية خاصة في اضطرابات ما بعد الصدمات في الحروب والكوارث والأزمات الكبرى، فهو يسعى لتقديم روتين في التأمل، وربما هذا ما يُفقد التأمل توهجه، لكن الكاتب يرى أن بعض العبادات الدينية مثل الصلاة تساعد على التأمل، ومن ثم فهو لا يتخذ موقفا معاديا من العبادة، لكن تبقى رؤيته للعبادة في إطار التعاطي الجزئي وليس في إطار الرؤية الكلية عن الدين.
والحقيقة أن الدين يحرض على التأمل، فهو مدخل لتحقيق الطمأنينة ومقاومة شقاء الإنسان، والاستغراق في الأسئلة الوجودية الكبرى، فانفصال التأمل عن الفلسفة ليس جيدا، فكما يقولون:”شقاء الإنسان من رأسه”، فالفكر وما يقبع داخل العقل الإنساني هو ما يحدد الشقاء والسعادة، والتأمل يصرف ذهن الإنسان إلى أعماق المعرفة، ويفرض على العقل أن يدور حول المعاني المقدسة والكبير، ويقتحمها، لذا كان الأديب “جبران خليل جبران” يقول:” “لو استطعتم أن تعيروا عجائب حياتكم اليومية حقها من التأمل والدهشة لما كنتم ترون آلامكم أقل غرابة من أفراحكم”، و”إدمان التأمل يورث الرجفة في القلب” كما يقول الدكتور “مصطفى محمود
ويلفت “علي عزت بيجوفيتش” في كتابه ” الإسلام بين الشرق والغرب” الانتباه إلى حقيقة مهمة، وهي: أن التأمل عملية عقلية يستطيع الإنسان أن يمارسها بغض النظر عن مستوى الذكاء، فيقول: “إذا دققنا النظر في التأمل نجد أنه ليس وظيفة من وظائف الذكاء، فالعالم وهو يصمم نوعا جديدا من الطائرات لا يتأمل، إنما يفكر أو يدرس ويبحث ويختبر ويقارن، وكل هذه الأنشطة في مجموعها أو منفردة ليست تأملا، أما الراهب والشاعر والمفكر والفنان، فإنهم يتأملون، إنهم يحاولون الوصول للحقيقة الكبرى، السر الوحيد الأكبر، هذه الحقيقة تعني كل شيء ولا شيء: كل شيء بالنسبة للروح ولا شيء بالنسبة لبقية العالم، من أجل ذلك، كان التأمل نشاطا دينيا”، وهو يتفق مع ما قاله “جوستاف لوبون” في كتابه “سيكولوجية الجماهير” في أن: “عدم الاعتقاد هو في الغالب يقين يعفي صاحبه من تعب التأمل والنظر”، ويذهب “جون استيورت ميل”:”إن ما يعزز عقول البشر ويوسعها هو التأمل الحر والجريء في أرفع المواضيع وأسماها”، فعدم الاعتقاد يقين كاذب، ينهي رحلة التأمل سريعا طلبا للراحة، فالتأمل قلق معرفي عميق، ومن أعطى التأمل حقه، فقد أعطى الحياة حقها من الاندهاش، يقول الشاعر عبد الغني النابلسي:
تأمل فما فات شي أتى
ولا يعرف الأمـــــــــر إلا الفتى
شربت الوجود ولم أرتوي
من الحب يا ليت شعري متى
متى أرتوي منه وهو الذي
نفــــاني ولكـــــــنه أثــــــبتا
[1] Secular Meditation: 32 Practices for Cultivating Inner Peace, Compassion, and Joy
[2] The Mindful Geek: Secular Meditation for Smart Skeptics
[3] Faith-Based and Secular: Everyday and Post-traumatic Applications Meditation