يقوم النشاط التسويقي المعاصر على ركائز علمية تحقق في مجملها الأهداف المشتركة بين العميل (المستهلك النهائي) والمؤسسات الإنتاجية، ويشمل التسويق المعاصر جملة من الأنشطة المهمة من بينها تخطيط المنتجات والتسعير والترويج (الإشهار) والتوزيع، ويرتبط المفهوم الأحدث للتسويق بكل الأنشطة التي تمارسها المؤسسة، والأصل في الأنشطة التسويقية أنها استجابة للعلاقة النموذجية بين العميل والمؤسسة من خلال تحقيق الأهداف المشتركة، ولذلك على المؤسسة أن تقوم بدراسة وتحليل سلوك المستهلك وتتعرف على دوافع هذا السلوك لتتمكن منتجاتها من تلبية حاجياته ورغباته وبذلك تحقق المؤسسة أهداف الربح والنمو.
بين استنباط الدوافع وخلقها
في ظل المنافسة التي تميز أغلب الاقتصاديات المعاصرة حيث بنية السوق قائمة على المنافسة (بأشكالها المختلفة) يكون من الطبيعي أن المنافسة السوقية في عمومها تتطلب الحصول على رضا المستهلك، والوصول إلى جيبه من خلال حيازة رضاه، ولذلك ستشكل الاعتبارات الأخرى (النفسية) غير الاقتصادية (الدخل) دورا مهما في ظل السباق المحتدم، فالفوز بالعميل الذي تقدم له مئات الخيارات تلبية لكل حاجة معينة عملية معقدة تتطلب التعرف على دراسة الدوافع الكامنة وراء عملية الاختيار، وهو ما يسميه رجال التسويق (الصندوق الأسود) الذي يجيب على أسئلة من قبيل : كيف يشتري العميل؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟، لكن التعرف على هذه الدوافع قد تطور على المستوى النظري والتطبيقي من مرحلة التعرف عليها والاستجابة لها إلى مرحلة خلقها لدى العميل (المشتري)، وهكذا باتت المؤسسات تتحكم من خلال آلة ضخمة من وسائل الإشهار إلى تنميط الأذواق وفرضها، (وهكذا هي الموضة) فالألبسة هذه السنة ستكون بالشكل الفلاني، هكذا قررت بيوتات الأزياء وروجت، وهكذا بدلا من أن يكون الأفراد هم مرجعية المؤسسات في تتبع الميول والرغبات بات الجمهور (المستهلكون) أسرى لقرارات المؤسسات المنتجة في أذواقهم وتوجهاتهم الشرائية، ولتحقيق ذلك تلجأ الماكينة التسويقية إلى شخصيات “مرجعية” عند الزبون توظف شهرتها في الإعلانات لتمرير القبول بالمنتجات وتحقيق الدافع لاقتنائها، وذلك اعتماد على تأسيس نظري نفسي نابع من ميل العميل لتقليد مرجعياته التي باتت الشخصيات العامة في هذا العصر أهمها.
من هنا إذن تحول الأمر من مجرد تحقيق المنفعة الدائمة للمستهلك من خلال تطوير شكل المنتج وبعض خصائصه، كما هو الحال في التغييرات الشكلية على المنتجات بغية تحقيق مبيعات أفضل من خلال الميزات الوهمية للجديد (NEW) التي أصبح لها مفعول سحري، إلى خلق نمط حياتي للناس ابتداء من الآراء والأفكار إلى شكل الاستجابة للمحيط والبيئة، أي تنميط الشخصيات وخلق أنماط الحياة المرغوبة، التي تميز الثقافة الاستهلاكية أهم مميزاتها، وهي عملية تشترك فيها وسائل الأعلام والتثقيف بكافة أشكالها وألوانها، وهكذا بات المستهلك هدفا للكل، المؤسسات المنتجة والوسيطة (الإعلامية) التي يأوي إليها بغية التثقيف والاستجمام فتحقن وعيه وتنمطه حتى يكون جاهزا للدخول في عملية السعار المتحكم فيها من الأساس وفي اتجاهاتها من طرف المؤسسات المنتجة للسلع والخدمات، أي من طرف نخبة النظام الاقتصادي الاجتماعي العولمي المسيطر .
الخداع الرقمي
يتفرع عن ما أسلفنا ، من منهجية التسويق الأناني التحكمي، جملة من التقنيات المبهرة والمخادعة في ذات الوقت، والتي تقوم على استغفال الزبون، وتوظف دراسة ردود الفعل التلقائية للعميل في طريق ينتج الخدع النفسية لتحقيق أهداف التسويق، ومن هذه الخدع الطريفة اتباع سياسات تسعيرية تلعب بالأرقام للإيحاء بدلالات سعرية كاذبة (خصوصا أن السعر التوازني التلقائي هو وضعية لا تتحقق سوى في سوق المنافسة الكاملة المثالي، وأيضا في ظل بناء كثير من المؤسسات استراتيجياتها التسعيرية انطلاقا من تعظيم الربح والتخطيط على خلق الطلب) ومن ذلك ما يسمى بالسعر الترويجي، كأن يقوم المنتج بربط السلعة الأرخص قيمة بشراء سلعة أخرى غالية، ومن نماذجها الشائعة الإعلان عن سعر بمبلغ أقل بفاصلة عن سعره الحقيقي ليبدو وكأنه ينتمي إلى الفئة الأقل كإعلان بيع السلعة ب 99 دولار وكأنها في حدود التسعين، في حين أن سعرها الحقيقي هو 100 دولار، ومن ذلك الخصم النفسي، حيث يتم كتابة سعر وهمي وشطبه، وكتابة سعر أدنى باعتبار الأخير تم من خلال خصم للمشتري (300 دولار أصبح 100 دولار).
إن ما نود أن نصل إليه هو أن الجهود التسويقية الحديثة انتهت إلى تذويب شخصيات المستهلكين وخداعهم، وهو ما يجعل الأبعاد الأخلاقية في هذا النشاط بحاجة إلى الإحياء حتى يعيش المجتمع التوازن بين كل فئاته، بدلا من أنانية ولا أخلاقية الثقافة التسويقية السائدة.