يعد وائل حلاق واحدا من أبرز المختصين بتاريخ الشريعة وتطورها القانوني، وقد تعززت مكانته العلمية من خلال مؤلفاته التي اشتهرت منذ الثمانينات كبحثه “هل أغلق باب الاجتهاد” الذي أثار جدلا معرفيا وصار منطلقا لكثير من الدراسات حول الاجتهاد، ومنذ ذلك الحين توالت مؤلفاته حول الشريعة وترجمت إلى عدة لغات كالتركية واليابانية والإيطالية والفارسية وغيرها.
تعرف القارئ العربي على وائل حلاق في العقد الماضي حين ترجمت ثلاثة من أشهر أعماله حول الفقه الإسلامي إلى اللغة العربية وهي:(تاريخ الفقه الإسلامي وتطوره) و(تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام: مقدمة في أصول الفقه السني) و(السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي)، وقد لاقت تقديرا لما تتمتع به من حيدة ورصانة معرفية ونبذ للمنهج الاستشراقي الذي ينظر للشريعة بوصفها نتاجا تاريخيا لم يعد يصلح للزمن الراهن.
تندرج أبحاث وائل حلاق حول الشريعة ضمن ما يُطلَق عليه مشروع مناهضة الفكر الاستشراقي الذي افتتحه إدوارد سعيد، فغاية مشروعه كما يحددها بنفسه هو “زعزعة الخطاب الاستشراقي وتقويضه ومناهضته بمشروع أكاديمي منفصل بنيويا عن خطاب الهيمنة الغربي”، ويذهب حلاق إلى أن الاستشراق ومقولاته- كمقولة غلق باب الاجتهاد- استهدفت بالأساس دعم المشروع الإمبريالي الغربي عن طريق تقويض ثقة المجتمعات الإسلامية في منظومتها التشريعية والقانونية وجعلها أكثر قابلية لتبني المنظومة الغربية.
وانطلاقا من تلك الأهمية التي يشكلها حلاق نستعرض رؤيته حول التعليم الشرعي وتطوره وعلاقته بمؤسسة الحكم، والتي ضمنها كتابه (مدخل إلى الشريعة الإسلامية)، الذي يصفه بأنه مختصر مفيد لغير المختصين عن الإسلام وشريعته، ورغم ذلك فإنه يحوي معلومات قيمة من شأنها إيضاح الفروق بين الشريعة والقانون الحديث من جهة وبيان كيفية تطور المؤسسة القضائية الإسلامية والمؤسسات ذات الصلة بها من جهة أخرى.
من الحلقة إلى المدرسة
جاءت بدايات التعليم الإسلامي من خلال الفقهاء منذ أواخر القرن الأول الهجري، حيث التف حول كل منهم عدد من الطلبة مدفوعين بالرغبة في تعميق معارفهم الدينية والتعرف على سيرة النبي ﷺ، وعلى غرار المجالس العشائرية والقبلية كانت هذه المجالس العلمية تأخذ شكل حلقة مستديرة يتوسطها الأستاذ أو الفقيه الذي يجلس على الأرض ويتحلق حوله جمع من الطلاب، ولم يكن يشترط لحضورها رسوم مالية أو طلبات التحاق سوى الرغبة التي يبديها الطالب وقبول الأستاذ.
وفي هذه الحقبة الباكرة لم يكن ثمة تمييز واضح بين مجلس الإفتاء وحلقة التعليم، فما يكاد المفتي يعلن فض مجلس الإفتاء حتى يفتتح مجلسا آخر للحكم في القضايا حيث يكون قاضيا يفصل بين المتنازعين، وما أن ينتهي حتى يفتتح مجلسا ثالثا هو مجلس العلم، وربما أضاف إليها مهمة أخرى حين فراغه هي التدوين الفقهي، ويلاحظ حلاق أن الفقهاء لم يكونوا يتلقون أجرا من الدولة عن المهام الأولى (الإفتاء، والقضاء، والتدريس) ولأجل هذا احترفوا حرفا أخرى كالحياكة والدباغة والنجارة، ويعني هذا أنهم كانوا ينتمون إلى الشرائح المجتمعية الدنيا والوسطى، وأن العلم لم يكن عندئذ يمنحهم وضعا طبقيا متميزا، وظل هذا الوضع قائما إلى حوالي القرن الرابع أو الخامس مع انتشار “المدرسة” في أنحاء العالم الإسلامي.
ويعد ظهور المدرسة -معاهد العلم الكبرى التي أنشئت بدعم من الأوقاف أو الدولة- التطور الأبرز في مسيرة التعليم الشرعي، لأنها كانت تمول في كثير من الأحيان من قبل أوقاف السلاطين وأفراد الأسر الحاكمة، ويضرب حلاق مثالا بالوزير السلجوقي نظام الملك الذي أسس إحدى عشر مدرسة في بغداد في نهايات القرن الرابع، وبعدها أخذ النموذج المدرسي في الانتشار في أرجاء العالم الإسلامي. وقد ترتب على ظهور المدرسة نتيجتين هامتين، الأولى تأمين الموارد المالية للعلماء الذين تفرغوا للعلم الشرعي، والثانية منح الشرعية السياسية للحكام والأمراء الذين كانوا بحاجة ماسة إلى “الشرعنة”، فكان العلماء وسيط بين الحكام من المماليك الأجانب وبين العامة، فضلا عن أنهم كانوا مصدر الشرعية الدينية والأخلاقية لأي سلطة.
خصائص التعليم الشرعي
ورغم التطور الذي احدثته المدرسة احتفظ التعليم الشرعي بخصائصه ومميزاته، ويعود الفضل في ذلك إلى استمرارية الحلقة كأساس للنظام التعليمي، وتواصل التقاليد العلمية التي ميزته عن غيره من أنظمة التعليم الأخرى، ومن بينها
– حسن التواصل بين أجزاء النظام: شكلت الحلقة للوحدة الأساسية للنظام التعليمي، بل ربما كانت تجسيد مصغر للنظام، وهي تتألف من ترتيب هرمي يتربع المعلم على قمته بوصفه أكثر أفرادها علما ودراية، ويليه المساعدون من الطلبة المتقدمون الذين ينهضون ببعض المهام التدريسية لمن هم دونهم، وأخيرا الطلبة من ذوي المستوى العلمي المتوسط والمحدود. وكما يلحظ حلاق كان حسن التواصل بين المعلم وطلابه هو أهم معلم للحلقة حتى أن العلاقة بينهما كانت تشبه علاقة الأب بأبنائه، وكثير من الطلاب أقاموا في بيت معلميهم وطعموا من طعامهم وتزوجوا من بناتهم، وكانت رابطة الزواج تحديدا هي العلاقة التي عززت من العلاقات بين العلماء في مدينة ما.
– مركزية الأخلاق: وهي ميزة أخرى من ميزات النظام الشرعي، إذ لم يكن المعلم مجرد أستاذ مختص في تدريس فن معين، وإنما هو قدوة ونموذج أخلاقي في المقام الأول، لقد كانت الأخلاق والورع والتقوى أجزاء من المنهج التعليمي لا تقل أهمية عن أي جزء من أجزاء المنهج الأخرى، ولهذا ما يبرره فتطبيق الشريعة كان يفترض مسبقا وجود منظومة أخلاقية اجتماعية.
– الحرية وغياب الإلزام: وتتجلى في تمتع الأستاذ بالحرية الكاملة في اختيار الفن المراد تدريسه وربما جمع بين أكثر فنين أو ثلاثة، واختيار المتون والشروح المناسبة دون أي قيود، لكن المتون كانت أكثر تفضيلا، كما كان الطالب حرا في اختيار الأستاذ والكتاب الذي يود حضوره.
– الذاتية: وتعني أن النظام التعليمي كان يصطبغ بالصفة الذاتية لا المؤسسية، وتتمثل في كون الإجازة التي ينالها الطالب حين ينتهي من قراءة كتاب معين، أو اتقان فن معين كالإفتاء، تصدر باسم الاستاذ لا المؤسسة التعليمية التي كان ينظر إليها باعتبارها لا تملك حق منح هذه الإجازات.
أما طريقة التعليم فكان قوامها الحفظ والشفاهية، ويعتقد حلاق أن الحفظ لم يكن هدفا في حد ذاته، وإنما كان مجرد وسيلة للاحتفاظ بالقواعد الأساسية للعلم حتى يصبح مقدورا تطبيقها لاحقا على المسائل المستجدة والفرعية، ويدعم ذلك اقتصار الحفظ على الأعمال النظرية التأسيسية في كل علم من العلوم.
وكانت الشفاهية تعني أن الطالب لا يتلقى المادة العلمية بصورة مباشرة من الكتب المدونة وإنما يستمع إلى الأستاذ وهو يتلو العمل المدون على مسامع الطلاب عدة مرات حتى يتم استيعابه، وكانت القراءة عادة ما تقترن بشرح أو تعليق وربما عُد ذلك الإسهام الحقيقي للأستاذ، وكان الطلاب يدونون شرح الأستاذ على العمل المدون، وربما نتج نص علمي جديد من خلال هذا الشرح، غير أنه لا يصبح معتمدا ومتداولا إلا إذا راجعه الأستاذ وأقر جميع تفصيلاته، وبهذا تزايدت الشروح والرسائل المطولة التي أثرت الحياة العلمية لقرون طويلة.
وبالجملة، جاءت رؤية وائل حلاق حول نشأة العلم الشرعي وخصائصه بعيدة عن الرؤية الاستشراقية التي طالما انتقدت غياب عنصر الإلزام وسطوة الذاتية على النظام، ورغم ذلك تبقى ملاحظة أساسية تتعلق بافتراضه أن تبدلات جوهرية طرأت على مجتمع العلماء في القرون الأخيرة بعد أن توثقت علاقتهم بمؤسسة الدولة وصاروا مدرسين وقضاة يتلقون رواتبهم منها، وتمثلت في احتكار بعض العائلات للعلم الشرعي، ويسوق لذلك مثالا بالدولة العثمانية التي لم تشهد في مطالع القرن الثامن عشر الميلادي عالم واحد من خلفية تجارية.
وما ذهب إليه حلاق ربما يصدق على الحالة العثمانية خلال هذه الحقبة لكن لا يصح تطبيقه على الحالة الإسلامية في المشرق والمغرب حيث يحتاج الأمر إلى مسح شامل للعلماء وخلفياتهم، من جهة أخرى لا مجال للحديث عن “احتكار” العلماء لمهنة العلم في ظل الاتاحة المطلقة للتعليم الشرعي؛ فالاحتكار يعني قصر التعليم على فئة وحرمان غيرها، وله شواهد تاريخية عديدة فالمحاسبون والصيارفة الأقباط احتكروا تعليم العمليات الحسابية المعمقة واستخدموا في تدوينها لغة غير مألوفة، وأورثوها إلى أبنائهم الذين كانوا يحضرون بصحبة آبائهم إلى الدواوين الرسمية ليتعلموها، وبطبيعة الحال لا يمكن الادعاء أن علماء الشريعة مارسوا ذلك بأي كيفية.