لا أحد يشك اليوم أن فنلندا تحتل مركز الصدارة في مجال التعليم حسب نظام التقييم الدولي ،فالتعليم معجزة فنلندية حقيقية، حيث تمكنت هذه الدولة الصغيرة من تحقيق نتائج باهرة جعلت العالم المتقدم يقف مذهولا أمام إنجازاتها التربوية والتعليمية وتجربتها الفريدة من نوعها، التي أصبحت نموذجا عالميا في تبني نظام الجودة في التعليم. فما هو سر نجاح هذه التجربة ؟ وكيـف تحققت “معجزة التعليم” في كوكب فنلندا؟ وأين نحن – كعرب وكمسلمين- من المستوى الذي وصلت إليه دولة مثل فنلندا ،ولم تصله حتى دول كبرى ومتقدمة في مجال التعليم في العالم؟

التعليم معجزة فنلندية لأن التعليم في فنلندا تجربة فريدة وعلامة مميزة تستحق البحث والتنقيب عن أسرارها، وتستحق أن نقف لها احتراما وتقديرا على ما وصلوا إليه في هذا المجال. فذلك البلد الذي أنهكته الصراعات السياسية والحروب العالمية قديما ، حقق قفزات هائلة في مجال التعليم غيرت ملامحه تماما. وقبل أن نتطرق لقصة هذا النجاح وجب علينا في البداية أن نتعرف سريعا على هذا البلد.

من بلد زراعي إلى بلد معرفي

التعليم معجزة فنلندية، لأن فنلندا ليست بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا أو روسيا أو أمريكا..فنلندا جمهورية صغيرة في شمال أوروبا، ثامن أكبر بلد أوروبي من حيث المساحة، وأقل بلدان الاتحاد الأوروبي كثافة سكانية ،حيث يبلغ تعداد سكانها 5.5 مليون نسمة. كانت فنلندا جزءا من السويد لمدة تزيد عن 600 سنة، كما كانت جزءا من روسيا البلشفية التي استقلّت عنها عام 1917 وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995.

الكثيرون لا يعلمون أن فنلندا كانت بلدا زراعيا إلى حد كبير، ثم تحولت بعد ذلك إلى بلد ذو اقتصاد معرفي متقدم بفضل التعليم الذي شكّل أهم ركيزة في هذا  التحول إلى القطاع الصناعي، حيث أصبح الفنلنديون قادرون على بيع منتجات صناعية أكثر إلى الخارج. وفنلندا اليوم تصدر إلى الخارج على وجه الخصوص الورق والمنتجات الصناعية الأخرى للغابات.

والحقيقة أن تطور اللغة الفنلندية والحضارة الفنلندية والاقتصاد الفنلندي حدث بدرجة كبيرة عندما كانت فنلندا تتبع إلى روسيا. وقد عانت فنلندا كثيرا من الهجرة ،ففي الستينات هاجر مئات الآلاف من الفنلنديين إلى السويد، لأنه كانت توجد هناك فرص عمل أكثر وأجور أعلى. ورغم ذلك تمكنت فنلندا من تجاوز كل الصعاب واستطاعت في هذه الفترة بالذات من رسم طريقها نحو التقدم بالاعتماد على التعليم.

التعليم معجزة فنلندية، لأن نظام التعليم في فنلندا يعتمد على رؤيا فلسفية وتربويّة أصيلة منبثقة من ظروف الحياة والواقع المعيش في فنلندا. فعملية الإصلاح والتغيير في نظام التعليم لم تتم طفرة واحدة ،بل مرت بمراحل واحتاجت للوقت والجهد والمثابرة، ورافق ذلك البحوث والدراسات النظرية والتطبيقية الميدانية من الخبراء والأخصائيين في التربية وعلم النفس والمربين في الحقل.

الطفل.. المعلم والدولة

التعليم معجزة فنلندية، حيث تؤكّد الرؤيا التربويّة في فنلندا على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المتعلّمين، فالمدارس حكوميّة مدعومة ومموّلة من الدولة، ولا فرق في المستوى بين مدارس المدن أو الأحياء الميسورة والمدارس في مجمّعات قرويّة أو أحياء شعبيّة. وحظّ المدارس الخاصّة في فنلندا شبه معدوم، ولا تشجع الدولة على فتح مثل هذه المدارس! ويبدو أن طفرة التعليم في هذا البلد حدثت من خلال التوافق والانسجام والتجانس التام بين ثلاثة عناصر رئيسية:

1.البداية من الطفل: بدأت فنلندا بالاهتمام بالأطفال وتعليمهم، وقررت تطوير التعليم في ستينات القرن الماضي وأطلقت حملة تحت شعار “لن ننسى طفل” لتشجيع جميع الأطفال على التعليم ونتيجة لذلك بلغت نسبة الفنلنديين الذين أنهوا التعليم الإلزامي 99%.

2. مجانية التعليم حتى للأجانب :يفرض القانون الفنلندي تعليماً إلزامياً على جميع المواطنين في مرحلة التعليم الأساسي، كما يلزم الدولة بضمان مجانية التعليم في جميع المراحل بما في ذلك المرحلة الجامعية. كما تلتزم الدولة في مرحلتي التعليم قبل الابتدائي والتعليم الأساسي بتوفير الكتب الدراسية، والوجبات اليومية، ووسائل النقل للطلاب المقيمين بعيدا عن المدرسة بأكثر من 3 كيلومترات.

كذلك انطلاقا من مبدأ المساواة في التعليم، يتم توفير التعليم لذوي الاحتياجات الخاصة جنبا إلى جنب مع التعليم النظامي، وينص مبدأ المساواة أيضا على دمج جميع الطلاب سواء كانوا يعانون من صعوبات في التعلم أو كانوا ينتمون الى خلفيات اجتماعية متنوعة.

أيضًا لا يلتزم الأطفال بارتداء زي موحد، ويسمح لهم بخلع الأحذية، وارتداء أشياء مريحة لهم في القدم. وينص القانون على ألا يتم اختبار الطفل حتى يصل عمره إلى 11 عاما. ويدرس الطلاب عدد ساعات أقل من كثير من دول العالم كالولايات المتحدة وفرنسا، كما ينص القانون أيضاً على أن الواجب المنزلي لا يجب أن تتجاوز مدة أدائه وحلّه نصف ساعة فقط يوميا.

3. المعلم أساس المعادلة: في فنلندا ليس من السهل أن تصبح معلماً إذ أن خريجي الجامعات حديثي العهد لا يُرسلون لتشكيل عقول الأطفال مباشرة بعد التخرج، بل يجب على كل المعلمين (باستثناء معلمي الروضة) أن يكملوا برنامج ماجستير عالي التنافسية ومدعوم بالكامل من الدولة.

صحيح أن المعلم في فنلندا يخضع لتأهيل علمي وتدريب شاق قبل التدريس، إلا أن الأمر يستحق في مقابل ما يحصل عليه من مكانة وتقدير ووسائل تساعده على إتمام رسالته بنجاح. حيث يقضي المعلم في المتوسط 4 ساعات يومياً في الفصل وهو ما يعطيه وقتاً أطول لتخطيط الدروس، وتزويد الطلاب بالمساعدة الإضافية، والمشاركة في متطلبات تطوير المعلم الأسبوعية.

التعليم في فلندا
تلاميذ في مدرسة فنلندية

“كوكب” فنلندا

التعليم معجزة فنلندية، حيث تبدو دولة فنلندا وكأنها كوكب آخر في المنظومة التعليمية العالمية بطرقها المبتركة ومنهجيتها العلمية المثيرة للدهشة والاهتمام. لكن فنلندا لم تصنع نظاما تعليميا من الخيال العلمي ،وإنما واكبت التطورات واستفادت من تجارب الآخرين وسمحت لباحثيها في التعمق بمناهج التعليم ودراسة سلوكات المعلمين والمتعلمين، فخرجت بنموذج فريد من نوعه قد لا يمكن تطبيقه في دول أخرى، لأن لكل دول خصوصيتها وثقافتها ومؤسساتها.

ومع ذلك فإن فنلندا لم تحد عن الشكل العام لنظم التعليم في العالم ،لكنها أوجدت لنظامها التعليمي مكنزمات جديدة مبكرة ،وأجرت تغييرات جذرية وشجاعة على محتويات ومنهجيات التعليم التي تظهر جليا في كل المراحل التعليمية:

مرحلة التعليم ما قبل المدرسي عبارة عن سنة واحدة فقط والمشاركة فيها عمل تطوعي والسلطات المحلية ملزمة بتوفيرها.

مرحلة التعليم الأساسي مرحلة إجبارية تبدأ عند سن السابعة وتستمر 9 سنوات، لا توجد فيها اختبارات ويدرس فيها الطلاب عدة مواد مختلفة.

مرحلة التعليم الثانوي وتنقسم إلى ثانوي عام (60% من الطلاب مدتها 3 سنوات قابلة للاختصار أو التمديد) وثانوي مهني وفني(40% من الطلاب وتضم سبع مؤهلات مختلفة هي: الإدارة والأعمال، التكنولوجيا والنقل، التغذية والعلوم المنزلية، العلوم الاجتماعية والصحية، الترفيه والرياضة، والثقافة والموارد الطبيعية).

مرحلة التعليم العالي عبارة عن 3 جامعات للتكنولوجيا، 3 للاقتصاد وإدارة الأعمال، و4 أكاديميات للفنون، ويوجد 29 معهدا تطبيقيا في تخصصات مختلفة ضمن 20 جامعة تعد من أفضل شبكات التعليم العالي في أوروبا.

النتيجة

التعليم معجزة فنلندية لعدة أسباب نذكر منها:

أصبحت فنلندا أفضل دول العالم في كفاءة النظام التربوي.

نسبة التهرب من التعليم الإجباري انخفضت إلى 0.5% فقط.

نسبة الرسوب في الصف تساوي 2% فقط.

احتل التعليم الفنلندي المرتبة الأولى عالمياً طبقا لتصنيف المنتدى الاقتصادي العالمي.

في مجال البحث العلمي، حصلت فنلندا عام 2005 مثلا على المرتبة الرابعة من حيث نصيب الفرد من المنشورات العلمية في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وفي عام 2007 سجلت 1801 براءة اختراع.

7 أسرار

التعليم معجزة فنلندية لأن الوصول إلى النتائج التي بلغتها فنلندا في مستوى التعليم ليس أمرا سهلا ،لكنه يحمل العديد من الأسرار التي قد تخفى عن الكثيرين، ولعل أحد أسباب تطور التعليم في هذا البلد أن فنلندا من بين الدول القلائل في العالم التي لا تشغل نفسها بالنظام الدولي وما يحدث على الصعيد العالمي ،فهي تسعى دائما لأن يتقى بعيدة كل البعد عن الخلافات السياسية والاقتصادية وغيرها من مشكلات العالم ،وتنأى بنفسها عن القضايا الشائكة لتركز اهتمامها على تطوير النظام التعليمي في بلادها. وهذا الذي جعل هذه الدولة الإسكندنافية الصغيرة تصبح عام 2015  أقوى دولة في التعليم عالميا وفقا لتقرير التنافسية العالمية، ويبدو أن هناك 7 أسباب أو أسرار جعلت فنلندا تتصدر دول العالم في هذا:

احترام التعليم جزء من الهوية: فالفخر والاحترام للتعليم والتعلم في فنلندا يعدان من الجوانب الأساسية للثقافة الفنلندية، فقد بنت فنلندا هويتها القومية منذ القرن الـ19 من خلال الاستثمار في التعليم للجميع، وعندما حققت استقلالها كان الهدف الأساسي هو تطوير التعليم بشكل أكبر.

من الصعب أن تصبح مدرسا في فنلندا:إذ يتم اختيار المدرسين بعناية شديدة، فلا بد أن يكونوا ذوي كفاءة عالية وأن يكونوا حاصلين على درجة الماجيستير، ويتم قبول 11% فقط من المتقدمين لشغل وظيفة المعلم، وهذا يضمن أن المتقدمين الموهوبين والأكثر حماسة هم من يستحقون شغل تلك الوظيفة.

ساعات عمل أقل وراحة أكثر: المعلمون في فنلندا يعملون في الفصول لمدة 4 ساعات يوميا و20 ساعة أسبوعيا، نصف هذه الساعات يقوم فيها المدرس بإعداد المناهج الدراسية وتقييم الطلاب، ومع تقلص ساعات الدراسة تزداد فترات الراحة نسبيا لتصل 75 دقيقة موزعة على اليوم الدراسي.

لا فصل بين الطلاب على أساس مستواهم التعليمي: ويعتمد هذا الشعار الذي تحول إلى واقع في فنلندا على تصعيد المستوى التعليمي للأطفال المتأخرين دراسيا، وعدم عزل الطلاب وفقا لمستواهم التعليمي، حتى يصلوا إلى المستوى التعليمي المتوسط والسائد بين زملائهم، وهو ما جعل فنلندا تمتلك أصغر فجوة بين الطلاب الأقوى والأضعف في مستوياتهم التعليمية على مستوى العالم وفقا لدراسة أجرتها مؤسسة التعاون الاقتصادي والتنمية.

الارتباط بين المعلم والطالب: يمكث المدرسون في فنلندا فترة طويلة مع الطلاب، ولا تقتصر المسألة على عام واحد وإنما تصل إلى 5 سنوات دراسية، مما يوطد العلاقة بين المعلمين والطلاب الذين يبلغ عددهم 20 طالبا فقط في الفصل الواحد

المساواة بين الطلاب: ويعد هذا الشعار الأكثر أهمية في التعليم الفنلندي وتتفق جميع الأحزاب السياسية من اليمين واليسار على ذلك. وتطبيق هذا الأمر يجعل الطلاب الفنلنديين سواء كانوا في مناطق ريفية أو حضارية، فقيرة كانت أو غنية يحصلون على جودة تعليم متساوية، ويتم توزيع المال بالتساوي على المدارس إلى حد كبير، كما أنه لا يوجد تصنيفات وترتيبات ومنافسة بين المدارس، فجميعها تعمل وفقا لأهداف قومية واحدة.

ارتفاع نسبة المقبلين على الجامعة: تصل نسبة الفنلنديين المتخرجين في المدارس العليا بفنلندا لتصل إلى 93% وهي نسبة مرتفعة بشكل كبير، ما جعل فنلندا تتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد بـ 17.5%، بالرغم من أن فنلندا تنفق على الطلاب المقبلين على الجامعة بنسبة 30% أقل مما تنفقه أمريكا.

7 آليات

بالإضافة إلى أسرار نجاح نظام التعليم في فنلندا ،هناك فلسفة نظام تعليم واضحة وآلية عمل حقيقية تعمل على نجاح التجربة الفنلندية:

راحة الطفل النفسية في المدرسة هي أهم شيء في نظام التعليم

يبدأ التعليم من سن السابعة ويسمح لهم ذلك باللعب وتنمية خيالهم والتمتع بالارتباط الآمن لفترة طويلة قبل الالتحاق بالمدرسة.

أول ست سنوات من عمر الطفل هي الأهم في بناء المعرفة والمهارات البسيطة.

الزامية ومجانية التعليم لا تترك مجالا للتقاعس ولا وجود لمدارس خاصة.

الالتزام بالمعيار الحكومي على المناهج دون التقيد بمنهاج مكتوب مع حرية تامة للمعلمين في تقسيم المادة واختيار الدروس وطريقة التدريس

ليس هناك اختبارات في السنوات التسع الأولى ،كما أن الطلاب لا يكلفون بواجبات منزلية (تعليم بدون قلق دراسي)

نتائج الاختبارات سرية إلا إذا طلبتها الوزارة، لأن الأهم هو تحسين عملية التعليم وتقوية مسيرتها وليس العلامات والنجاح والقبول بالجامعات.

“مور”..الأمريكي المغرم بالتجربة الفنلندية

كثيرا ما نتحدث عن إصلاح منظومة التعليم في بلداننا العربية، التي تعتمد أساسا على التلقين والحفظ وحشو المعلومات في رأس الطلاب بلا فائدة تذكر، ولا تخلو أي مناقشة حول التعليم من الحديث عن الاقتداء بالتجارب الغربية في التعليم من أجل الوصول لمنظومة تخدم عقل الطالب وتقدم له ما يحتاجه بالفعل في حياته، الأمر الذي استطاعت فنلندا أن تفعله في منظومتها التعليمية التي كانت تعاني بشدة وتقبع في قاع الأمم حتى أكتشفوا السر.

المخرج الأمريكي مايكل مور أحد الذين اكتشفوا السر وراء النقلة السريعة لمنظومة التعليم الفنلندية من القاع إلى القمة في فيلم وثائقي تداوله رواد مواقع التواصل الاجتماعي. ومن أجل اكتشاف السر الذي نقل منظومة التعليم الفنلندية من مؤخرة الأمم إلى قمتها، ذهب “مور” إلى مكتب وزيرة التعليم الفنلندية نفسها، لتكشفه له قائلة: “الطلاب لا يكلفون بواجبات منزلية”، وأضافت  “يجب أن يكون لديهم وقتًا أكثر ليعيشون طفولتهم ويكونوا نجوما صغارا ويستمتعون بالحياة”. وتوجه “مور” بالسؤال لعدد من الطلبة، ويبدون في المرحلة الثانوية، عن أكثر وقت استغرقوه لحل واجب منزلي لتجيب طالبة: “10 دقائق”، ويجيب آخر: “20 دقيقة”.

المخرج الأمريكي مايكل مور يتحدث مع تلاميذ في مدرسة بفنلندا

وتحدث مدير مدرسة ثانوية لـ “مور” عن “مصطلح الواجب المنزلي” قائلًا إنها «عفى عليها الزمن». وتحظى المدارس الفنلندية بأقل ساعات دراسة في العالم بمجموع 20 ساعة في الأسبوع، ويتراوح اليوم المدرسي بين 3-4 ساعات يوميًا، يتخللهم ساعة للغذاء.

أما في بلداننا العربية ،فربما أكثر جملة ترددت على مسامعنا ونحن صغارا هي “اتركوا اللعب وقوموا بعمل أشياء مفيدة”، وفي كثير من الأحيان تم إلغاء حصة الألعاب في البيت كما في المدرسة. لكن مديرة إحدى المدارس الفنلندية أوضحت خطأ ذلك قائلة لمايكل مور :”عندما يكون لديهم الوقت للعب ويتواصلوا اجتماعيًا مع أصدقائهم ويكبروا كبشر، سيدركون أن هناك الكثير في الحياة أكثر من مجرد المدرسة، أنا أريد الأطفال أن يلعبوا”.

بيننا وبينهم

في عالمنا العربي تبدأ قصة التعليم بصدمة الدخول إلى المدرسة، وتنتهي بصدمة الخروج منها. تلك الصدمة التي قد تستمر مع الطالب مدى الحياة ،وقد تطبع حتى حياته الزوجية والمهنية، لأنه يكون قد حصل على كم هائل من العقاب النفسي والبدني في كل مراحل دراسته مما أثر على قدراته النفسية والعقلية ،خاصة قبيل مأساة امتحان الثانوية العامة الذي يعد في بلداننا العربية امتحان حياة أو موت.

في فنلندا لا يوجد امتحانات ولا يوجد درجات ولا حتى واجبات منزلية، وغالبا ما يتخرج الطلاب بفروقات بسيطة في المستوى التعليمي بدون شهادات تقدير للمتفوقين وخطابات تحذير للراسبين و الفاشلين..

في بلداننا العربية يجبرونك على حفظ الكتب المدرسية ،ويقطعون عليك أي فرصة خارج المناهج النظامية ،ليس هناك أهم من الدرجات ،والامتحانات هي التي تحدد مصير الطالب ومصير أهله أيضا، فيكتسب الطالب مهارات في الغش و التعامل مع الامتحانات لأنه يهتم بها أكثر من اهتمامه بمحتوى المواد والعلوم.

قسم مكتض بالتلاميذ بأحد المدارس العربية

في فنلندا المدرسة ليست مجرد مدرسة..لأنها عبارة عن مكان للطمأنينة والراحة النفسية حتى أنها بدون أسوار!! نعم بدون أسوار..حتى لا يشعر من بداخلها أنه في سجن ،ولا يشعر الذاهب إليها لأول مرة أنه ذاهب إلى سجن، أما في بلداننا العربية المدرسة عبارة عن معتقل ،هم الطلاب الوحيد كيفية الهروب منه ، أو انتظار جرس انتهاء الدراسة لأنه مكان يشعر فيه طالب العلم بأنه يتعرض لشتى أنواع العقاب والتعذيب النفسي والبدني فضلا عن الإهانات اللفظية والجسدية التي لا تنتهي.

في فنلندا ليس من السهل أبدا أن تصبح معلما، أما التعليم في بلداننا فهي مهنة من لا مهنة له، وأكثر الذين لم يعثروا على مناصب عمل في اختصاصاتهم يتحولون للتعليم!! في فنلندا يحظى المعلمون بمعاملة الخبراء، يحصلون على رواتب مجزية وساعات عمل أقل، وقلما يخضعون للتفتيش التربوي!  لا أحد يقول له ماذا يدرس وكيف ،فهو عادة ما يكون حاصلا على شهادة الماجستير في التربية، ومؤهل علمي عال في المادة التي يدرسنها. في فنلندا تدريب المعلمين عملية أكاديمية شبيهة بتخريج الأطباء والمحامين. وهناك علاقة عفوية خاصة بين المعلمين والطلاب الذين ينادون معلميهم بأسمائهم الأولى. بالإضافة إلى ذلك 90% من المعلمين في فنلندا من النساء والنسبة الأكبر منهم ضمن الفئة العمرية أكبر من 40عاما.

أما في بلداننا ،فعالمنا التعليمي يحط من قيمة المعلم، بحيث يصبح هدفا مشروعا لمدير المدرسة وللطالب وأهله وجيرانه ،ويعتبر فأر تجارب لكمية الأفكار التربوية الرهيبة التي تتغير بتغير الحكومة أو وزير التربية والتعليم، معلمنا مشكوك دائما في مؤهلاته ،متهم بإتقان كل أنواع العقاب وأنواع الخيزرانات المناسبة ، وبالسعي دائما لشراء سكوت الطلاب في حصته، والجري وراء مداخيل الدروس الخصوصية لأن راتبه لا يسمن ولا يغني من جوع. معلمنا يعلم طلابه أنه يستحق أن يعبد فيقول لهم: “من علمني حرفا كنت له عبدا” ، فيغرس فيهم قيم العبودية وليس الحب المتبادل، كيف لا وهو الذي كاد أن يكون رسولا؟!!

الحقيقة أن المقارنة بيننا وبين التجربة الفنلدية تحتاج إلى مجلدات مقارنة غير عادلة وغير متكافئة في الأساس،لأن النموذج الفنلندي تفوق على نظم تعليمية راقية ومتقدمة في أوروبا وأمريكا..فأين نحن من هذا؟