يذهب علي عزت بيجوفيتش إلى أن تركيبة الإنسان مرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة؛ أي باختلاف الواحد عن الآخر رغم تفاعلهما. هذه الثنائية هي نقطة انطلاقه، والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي ومن خلالها يُقدَم الإسلام للغرب.

 

فالإسلام ينطلق من ثنائية الخالق والمخلوق والإنسان والمادة. والثنائية على عكس الواحدية تتفق مع إنسانية الإنسان، فهي مصدر تركيبته وهي التي تفصله عن عالم الطبيعة والمادة.

ثم يبين بيجوفيتش أن الرؤية الإسلامية للكون تنطلق من هذه الثنائية التي تتبدى في كل جوانب الإسلام بما في ذلك أركانه الخمسة. ومن المستحيل تطبيق الإسلام انطلاقا من مستوى واحدي، فثنائية المادي والروحي تقع في صميمه.

فالصلاة -وهي نشاط روحي- لا يمكن أداؤها أداءً صحيحا إلا من خلال إجراءات علمية “بضبط الوقت والاتجاه في المكان، فالمسلمون مع انتشارهم على سطح الكرة الأرضية عليهم أن يتوجهوا جميعا في الصلاة نحو الكعبة مكيفين أوضاعهم في المكان (على اختلاف مواقعهم).

وتحديد مواقيت الصلاة تحكمه حقائق علم الفلك، ولا بد من تحديد هذه المواقيت للصلوات الخمس تحديدًا دقيقا خلال أيام السنة كلها، ويقتضي هذا تحديد موقع الأرض في مدارها الفلكي حول الشمس”.

ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للزكاة التي تحتاج إلى إحصاء ودليل وحساب، والحج الذي يتطلب الإلمام بكثير من الحقائق التي يتطلبها المسافر إلى مسافات بعيدة. ولعله بسبب هذه الثنائية تطورت جميع الميادين العلمية في القرن الأول الإسلامي، إذ إنها بدأت بمحاولات إقامة الفرائض الإسلامية.

وتتبدى الثنائية في أهم فعل إسلامي وهو عملية النطق بالشهادتين الذي يعلن به الشخص اعتناقه للإسلام، فالنطق لا بد أن يؤدى أمام الشهود لأن الشخص الذي يعتنق الإسلام -رجلا كان أو امرأة- ينضم إلى جماعة لها جوانبها الاجتماعية والاقتصادية، وهو الأمر الذي تترتب عليه التزامات قانونية؛ وليس فقط التزامات أخلاقية.

الإسلام.. ليس دينا روحيا فقط

فالإنسان الذي يلحق بدين روحي مجرد لا يستلزم وجود شهود ولا يتطلب الإعلان، حيث إن هذه علاقة بين الإنسان وربه. فمجرد عقد النية أو اتخاذ قرار باطني كاف تماما بهذا الخصوص. ولكن الإسلام ليس دينا مجردًا، ولذا يصبح الشهود ويصبح الإعلان أمرا لازما.

وتتبدى الثنائية في الوضوء، فالصوفيون باتجاههم الروحي يأخذونه على أنه غُسل ديني ذو طابع رمزي. أما العقلاني فيؤكد جانبه الوظيفي العملي المادي، حيث ينظر إليه باعتباره مسألة نظافة. وكلا النظرين صحيح، ولكن صحة جزئية.

وقصور التفسير الصوفي يكمن في أنه أهمل جانب الطهارة المادية في الوضوء فاستحال إلى شكل مجرد. واستسلاما للمنطق نفسه في المسائل الأخرى، نجد أن هذا الفهم يُحجِّم الإسلام في صيغة دينية خالصة، وذلك من خلال استبعاد جميع المكونات المادية والعقلية والاجتماعية منه.

أما العقلانيون فقد سلكوا الطريق المضاد فأهملوا الجانب الروحي في الإسلام، وبذلك هبطوا به إلى إظهاره وكأنه مجرد حركة سياسية، جاعلين منه نوعا من القومية، أو ما يمكن أن يسمى قومية إسلامية مجردة من جوهرها الديني الأخلاقي، فارغة ومتساوية مع جميع القوميات الأخرى في هذا المجال.

 

الصلاة.. ضد الفردية والانعزال

والصلاة هي الأخرى تبدٍّ للثنائية الإسلامية. ويشير بيجوفيتش إلى آية 177من سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} التي تؤكد الجانب الروحي. هذا حقيقي، ولكن الصلاة في الإسلام تشمل أيضا العناصر المادية (الطبيعية).

ومن هذه الناحية تنتمي الصلاة إلى عالمنا الذي يحدده الزمان والمكان، هذا الجانب من الصلاة- سمِّه إن شئت الجانب الدنيوي أو العلمي أو الطبيعي- يزكي بقوة صفة أخرى هي الصفة الاجتماعية.

فالصلاة ليست مجرد اجتماع الناس لأداء الصلاة في جماعة، ولكنها أيضا مناسبة لتنمية العلاقات الشخصية المباشرة، وبهذا الاعتبار تكون الصلاة ضد الفردية والسلبية والانعزال. فإذا كانت الحياة تفرق الناس فإن المسجد يجمعهم ويربط بينهم.

ثم يبين بيجوفيتش أن هذا الاتجاه الاجتماعي في الصلاة يتبدى بشكل واضح في صلاة الجمعة: “فهي تكاد تكون صلاة حضرية سياسية تُقام في الإجازة الأسبوعية، في مسجد مركزي جامع يحضره بعض رجال الدولة.

وخطبة الجمعة قبل الصلاة جزء لا يتجزأ من الصلاة، وهي بصفة أساسية رسالة سياسية. وقد يقول المسيحيون إن هذا يتعارض مع مفهوم الصلاة، وهو استنتاج يتفق والطريقة المسيحية في التفكير، ولكنه استنتاج غير صائب فيما يتعلق بوجهة نظر الإسلام”.

ثم ينتقل إلى الزكاة ليكتشف النمط نفسه، فيشير إلى أن الزكاة في المرحلة المكية كانت تمنح للفقراء على سبيل التطوع (صدقات).

الزكاة.. أول ضريبة في التاريخ

ولكن عندما تأسس مجتمع المدينة -وهي اللحظة التاريخية التي تحولت فيها الجماعة الروحية إلى دولة- بدأ محمد صلى الله عليه وسلم يطرح الزكاة باعتبارها التزاما قانونيا (فريضة شرعية)، أي ضريبة يدفعها الأغنياء للفقراء.

وهي -على حد علمنا- أول ضريبة من نوعها في التاريخ. كأن الإسلام قد أنشأ الزكاة عندما أضاف عنصر الإلزام القانوني إلى المؤسسة المسيحية للصدقة.

واستخدم بيجوفيتش النموذج المركب في ربط الصلاة بالزكاة، حيث يشير إلى أن المنطق الذي حول الصلاة التأملية المجردة إلى صلاة إسلامية، هو نفسه الذي جعل من الصدقة التطوعية زكاة واجبة، والنتيجة النهائية أنه حول الدين الروحي المجرد إلى إسلام؛ أي إلى دين ودنيا.

ويضيف: “وبإعلان الزكاة؛ بدأ الإسلام يتخذ وضع الحركة الاجتماعية، فلم يعد يعمل كدين مجرد وحسب. وقد أخذت الزكاة ثقلها الحقيقي بتشكيل المجتمع السياسي للمدينة، والدليل على هذه الخاصية للزكاة أنها ذكرت في القرآن ثماني مرات فقط في السور المكية، في حين ذكرت في السور المدنية 22 مرة”.

ولكن هل الزكاة مجرد ضريبة لمساعدة الفقراء مثل الضرائب التي تفرضها الدولة العلمانية الحديثة؟.. يجيب بيجوفيتش عن هذا السؤال بالنفي.

فالزكاة تحوي العنصرين: البراني والجواني، المادي والروحي، “فالفقر ليس قضية اجتماعية بحتة، فسببه ليس في العوز فقط وإنما أيضا في الشر الذي تنطوي عليه النفوس البشرية. فالحرمان هو الجانب الخارجي للفقر، أما جانبه الباطني فهو الإثم (أو الجشع)، وإلا فكيف نفسر وجود الفقر في المجتمعات الثرية”.

ولذا “لا يُعالج الفقر بنقل ملكية بعض السلع، وإنما أيضا من خلال التضامن الشخصي والقصد والشعور الودي، فلا شيء يمكن إنجازه على الوجه الصحيح بمجرد تغيير ملكية سلع العالم؛ مادامت في النفوس الكراهية والاستغلال والاستعباد.

وهذا هو السبب في إخفاق الثورات الدينية المسيحية، والثورات الاشتراكية جميعا”؛ لأن الحلول الاجتماعية لم تتضمن أبعادا إنسانية؛ مما تسبب في إخفاق تحقيق العدالة والحرية.

 

الزكاة= صناديق مالية+قلوب مفتوحة

ثم يترك بيجوفيتش وراءه الجمل التقريرية، ويستخدم المجاز للتعبير عن ثنائية الزكاة: “إن الزكاة مرآة الناس، حيثما يتوقف عليهم أن تكون الزكاة ضريبة مفروضة أو عطاءً تطوعيا من إنسان لإنسان آخر، وتحتاج الزكاة إلى صناديق مالية وإلى قلوب مفتوحة معا.

إنها نهر كبير من السلع تفيض من قلب إلى قلب.. من إنسان إلى إنسان. تقضي الزكاة على الفقر بين المحتاجين، واللامبالاة بين الأغنياء. إنها تقلل من التفاوت المادي بين الناس، وتقرب بعضهم إلى بعض”.

ثم يشير إلى ظاهرة فريدة في العالم الإسلامي وهي ظاهرة الأوقاف التي يصفها بأنها ثورة هادئة حدثت نتيجة إصرار التعاليم الإسلامية على العطاء: “فلا تكاد توجد دولة إسلامية واحدة ليست فيها ممتلكات كبيرة مخصصة للأوقاف وخدمة الخير العام.

ولم يُذكر الوقف في القرآن، ولكنه لم يظهر في المجتمعات الإسلامية بمحض الصدفة، إنما كان ظهوره نتيجة لسيادة روح التضامن، ولتأثير وظيفة الزكاة في المجتمعات المسلمة.

وتوفر هذه الخبرة الإنسانية الأمل في أن غايات اجتماعية معينة يمكن تحقيقها بدون عنف. إن الوقف -أو السلع المادية التي ترصد لخدمة الغايات الأخلاقية- يبرهن لنا على أن تغييرات كبرى يمكن تحقيقها في مجال الاقتصاد بدون تدخل المصالح المادية”.

ولا يكتفي بيجوفيتش بالنظر إلى الصلاة والزكاة -أبرز الممارسات الإسلامية- من الداخل وحسب، وإنما ينظر إليهما أيضا من الخارج، حيث يرى أنهما يشكلان ثنائية تكاملية.

“فالصلاة عنصر روحي، والزكاة عنصر اجتماعي. الصلاة موجهة للإنسان، والزكاة موجهة للعالم. الصلاة صفة شخصية، وفي الزكاة صفة اجتماعية. الصلاة أداة للتنشئة، والزكاة جزء من النظام الاجتماعي”.

بعد هذا التحليل المركب للصلاة والزكاة في تكاملهما كعنصرين براني وجواني متلازمين متسقين؛ يشير بيجوفيتش إلى أن هذا التلازم هو الذي يفسر ذلك التلازم الدائم في ذكرهما معا في عشرات الآيات القرآنية من مثل: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.

وهو التلازم الذي احتج به أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في وجوب قتال بعض القبائل العربية التي امتنعت عن أدائها الزكاة إليه -باعتباره خليفة المسلمين- بعد انتقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، حيث قال “والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة”.

وهذا هو مستند الفتوى بأن الصلاة لا تقبل من دون أداء الزكاة -من القادر عليها بالطبع- وهو أيضا جوهر الدعوة للنظر إلى شعائر الإسلام في إطار تعمير الدنيا والتواصل بين بني الإنسان.

 

الصوم.. ولذة الجماعة

أركان الإسلام.. أعمق مما تبديه النظرة السطحية للأحكام ، سنجد الثنائية نفسها في الصوم: “فقد اعتبر المسلمون الصوم خلال شهر رمضان مظهرا لروح الجماعة، ولذلك فإنهم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب. فالصيام ليس مجرد مسألة إيمان أو مسألة شخصية تخص الفرد وحده؛ وإنما هو التزام اجتماعي.

هذا التفسير للصيام كشعيرة دينية غير مفهوم عند الأديان الأخرى. إن الصيام الإسلامي وحدة يجمع بين التنسك والسعادة؛ بل والمتعة كذلك في حالات معينة. إنه أكثر الوسائل التعليمية طبيعية وقوة، فالصوم يمارس في قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء؛ في بيت الفيلسوف وفي بيت العامل”.

ثم يأتي علي عزت بيجوفيتش إلى الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة، حيث يذهب إلى أنه لا يمكن فهمه إلا في إطار نموذج مركب، فهو شعيرة دينية وتجربة روحية، ولكنه أيضا تجمع سياسي، ومعرض تجاري، ومؤتمر عام للأمة.

 

ويجب التنبيه إلى أن هذه الثنائية ليست ازدواجية: “فالإسلام ليس وسطا حسابيا بسيطا، ولا قاسما مشتركا بين تعاليم هاتين العقيدتين. فالصلاة والزكاة والوضوء كينونات لا تقبل التجزئة؛ لأنها تعبير عن شعور فطري بسيط. إنها يقين معبر عنه بكلمة واحدة وبصورة واحدة فقط، ولكنها مع ذلك تظل -منطقيا- تمثل دلالة ازدواجية. والتماثل هنا مع الإنسان واضح، فالإنسان هو مقياسها ومفسرها”.


* مقال قديم للدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله تعالى على موقع الجزيرة نت