العقوبات الشرعية: مقاصدها وأنواعها
ومن المسائل المهمة التي تطرق إليها الكتاب مسألة ماهية العقوبة الشرعية وأهدافها وأنواعها، وبحسب بيترز فإن المقصد من وراء إيقاع العقوبة الشرعية هو: الزجر، والقصاص، وإصلاح الجاني، وحماية المجتمع، كما تؤكد المذاهب الإسلامية، وهذه العقوبات تطبيق بيد الأجهزة المعنية القضائية والشرطية إلا أن هناك استثنائين لذلك: فيحق لأولياء الدم عند المالكية والشافعية إيقاع القصاص بأنفسهم بإذن القاضي، وتتفق المذاهب -عدا المذهب الحنفي– على أحقية مالك العبد بتنفيد العقوبة على عبده. ويحصي بيترز العقوبات الشرعية كما وردت في الكتب الفقهية فيجدها ثلاثة عشر عقوبة وهو يرتبها من الأدنى إلى الأعلى: التوبيخ، الزجر، التشهير، النفي أو التغريب، الحبس، الجلد، قطع اليد اليمنى، القطع من خلاف، قصاص ما دون النفس [ قطع بعض أعضاء الجاني أو جرحه أو فقء عينه إذا تعمد إيذاء شخص بمثلها]، القتل وهو على ثلاثة أصناف (القتل قصاصا، القتل رجما، القتل صلبا). وعلاوة على تلك العقوبات المحددة المنصوص عليها هناك عقوبات تكميلية أخرى في الشريعة وعددها يسير كعقوبة القاذف الذي لا تقبل شهادته. وهناك أيضا ما يسمى “التعزير” وهي عقوبة مخولة للقاضي في حال تعذر إثبات التهمة بوسائل الثبوت الشرعي المعتادة، أو في حال ارتكاب جرم لا تنطبق عليه تعريفات الجريمة الشرعية، وعندئذ يحق للقاضي اختيار عقوبة من العقوبات السالفة وتوقيعها على المذنب، ويذكر بيترز أن الجلد كان أكثر العقوبات توقيعا من جانب القضاة، وأن القتل تعزيرا يعد من المسائل الخلافية لكن جميع المذاهب قد أجازته في نهاية الأمر لمن تكررت منهم الجرائم، وللجرائم الخطيرة كالسحر واللواط، والتجسس لصالح العدو.التشريع الجنائي الإسلامي في عصور الحداثة
ومن المسائل التي تطرق إليها الكتاب مسألة الإصلاحات القانونية التي أدخلت على التشريع الجنائي الإسلامي منذ القرن التاسع عشر بفعل عملية التغريب التي قادتها بعض النخب المحلية واستلزمت تبني القوانين الأجنبية، والاستعمار الغربي للبلدان الإسلامية، فقد اعتبر الموظفون الاستعماريون أن التشريع الإسلامي تشريع متعسف وأنه بحاجة للإصلاح، ومجمل انتقادهم يتعلق بباب التعازير الذي هو باب فضفاض لا يضم تعريفا محددا للجريمة وأوصافها، وعقوباته غير موضوعية لأن بعضها يمكن إبطاله بالصلح بين المتداعيين ودفع تعويض مالي (الدية)، ومن جانب آخر فإن العقوبات الشرعية غير متساوية، فربما عوقب شخص بأكثر من شخص آخر رغم أن الجرم واحد. ويرصد بيترز التطورات التي لحقت بالتشريع الإسلامي في القرن التاسع عشر، ويجملها في ثلاث تطورات: الأول: الإلغاء الكامل للتشريع الجنائي واستبداله بالقوانين الغربية، وقد اتبع في معظم الدول الواقعة تحت الاستعمار كما هو الحال في الجزائر على يد الفرنسيين. الثاني: إدخال تعديلات تدريجية على بعض جوانب التشريع الجنائي، وهذا النهج اتبعه الإنجليز في الهند وفي نيجيريا حيث تم المزج بين القوانين الغربية وقوانين الشريعة في حزمة واحدة، لكنه الغي في نهاية المطاف. الثالث: إصلاح التشريع الجنائي، وهو النهج الذي سارت عليه الدول المستقلة كمصر والدولة العثمانية، وذلك بمحاولة تقنين الفقه، وإنشاء محاكم مدنية إلى جوار المحاكم الشرعية[4]. وبالجملة فإن الكتاب يمس موضوعات مهمة تتعلق بجوهر العقوبة في الإسلام واختلافها عن العقوبة الوضعية، ويناقش تاريخ التشريع الجنائي في العصور الحديثة والعوامل التي أفضت إلى ما أسماه “كسوف” التشريع الجنائي، والكسوف -كما يصرح مؤلفه- لا يعني الإلغاء فهناك اتجاه متزايد للعودة إليه بعد أن اعتقد الغربيون أنه ضربا من الماضي وفي طريقه للاضمحلال والأفول.[1] ولد رودلف بيترز في هولندا عام 1943، والتحق بجامعة أمسترام في مطالع الستينات ودرس القانون ثم اللغة العربية واللغة العثمانية، وفي عام 1979 نال درجة الدكتوراة في القانون عن رسالته “الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في العصر الحديث”، ومنذ ذلك الحين يقوم بتدريس التاريخ القانوني الإسلامي وعلى خلال الحقبة الحديثة بجامعة أمستردام وعدة جامعات عالمية.
[2] رودولف بيترز، الجريمة والعقاب في الشريعة، ص 64.
[3] نفس المرجع السابق، ص 39.
نفسه، ص155. [4]
تنزيل PDF