يعتبر الإمام الأكبر فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين أحد أبرز العلماء المسلمين صدعا بالحق، ودفاعا عن أصول الدين والشريعة الإسلامية، فضلا عن إرثه العلمي ومواقفه التاريخية المشرفة التي طبعت الفترة القصيرة التي تولى فيها مشيخة الأزهر وهو الجزائري الأصل التونسي المولد المصري الجنسية.
في عام 2019 أنتجت قناة “الجزيرة” الوثائقية فيلما يسلط الضوء على حياة هذا الإمام المناضل والشاعر والفقيه. يحكي الفيلم كيف أنشأ الشيخ الخضر حسين مجلة “السعادة العظمى” بتونس، ووكيف لقي حظوة من أنور باشا، فعُيّن في وزارة الدفاع والحرب في الآستانة، وكيف ألف كتابا نقضا وردا على الكتاب المثير للجدل “الإسلام وأصول الحكم”، وكيف طالب بالخلافة ونال إمامة الأزهر الشريف.
كانت الجزائر أولى محطات الشيخ الخضر، حيث كان يستغل فيها المنبر ويدعو الناس للوحدة والمطالبة بالحرية، فقد زار أمهات المدن الجزائرية وألقى بها دروسا مفيدة، لكنه لم يمكث طويلا في الجزائر، بحكم التشديدات الاستعمارية الخاصة التي كانت تتعرض لها البلاد، فعاد إلى تونس خاصة بعد الجدل الفكري والفقهي الكبير الذي أنتجه قدوم الشيخ محمد عبده وزيارته لتونس.
مولده ونشأته
في 16 أغسطس 1876م الموافق 26 رجب 1293هـ بمدينة “نفطة” التونسية، ولد الإمام الأكبر فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله في بيئة علمية محافظة تنتهج الصوفية الإيجابية مذهبا، لكن أصول الشيخ تعود لأسرة جزائرية، فأبوه من عائلة “العمري” من قرية “طولقة” بمدينة “بسكرة” الجزائرية، وأمه من “وادي سوف” بالجزائر.
وعائلة “الحسين” التي ينتسب إليها الشيخ الخضر عائلة ماجدة في حسبها ونسبها، وأفرادها “نجوم” في سماء العلم والمعرفة فالخضر وشقيقاه “المكي” و”زين العابدين” من أكابر العلماء، وأثروا المكتبة العربية بمؤلفاتهم.
كما أن أمه تنتمي إلى أسرة فاضلة مشهورة بالعلم والتقوى والصلاح، فهي كريمة الشيخ “مصطفى بن عزوز”، من أهل العلم والفضل، وأبو جده لأمه العالم الصالح “محمد بن عزوز”، وخاله السيد “محمد المكي بن عزوز” من كبار العلماء المصلحين، وهو الذي تأثر به الشيخ محمد الخضر حسين تأثرا كبيرا، وكان موضع الإجلال والتقدير من رجال الدولة العثمانية في عهد السلطان “عبد الحميد”، وقضى الشطر الأخير من حياته في “الآستانة” تلبية لرغبة السلطان
تعلم الشيخ الخضر القرآن الكريم حفظا وتفسيرا على يد أمه “حليمة السعدية بنت الشيخ مصطفى بن عزوز” وفي عام 1889 قدم لتونس العاصمة والتحق بجامع الزيتونة وهو في الثانية عشرة من عمره، وكان خاله المكي بن عزوز شيخا ومدرسا بالجامع ففتح له أبواب العلماء الذين أبهرهم نبوغه.
ثم تخرَّج محمد الخضر حسين في الزيتونة غزير العلم، واسع الأفق، فصيح العبارة، مُلما بمبادئ العلوم الشرعية، محبًّا للإصلاح، فأنشأ مجلة (السعادة العظمى) سنة (1321هـ – 1902م) لتوقظ الغافلين من أبناء أمته، وتفضح أساليب الاستعمار، وترشد الناس إلى مبادئ الإسلام وشرائعه، وكانت أول مجلة عربية أدبية علمية في شمال إفريقيا.
من مصحح لغوي إلي شيخ الأزهر
لما سقطت الشام في أيدي الفرنسيين (1339هـ/1920م) لم يسع شيخنا المقام فيها، فقد حكم عليه الفرنسيون غيابيا بالإعدام لاتهامه بالمشاركة في تحريض المغاربة بألمانيا وتركيا على الثورة ضدهم في شمال إفريقيا، فهرب إلى مصر، وبقي فيها إلى نهاية حياته المباركة.
عمل في مصر مصححًا بدار الكتب المصرية بشفاعة “أحمد تيمور” باشا الذي عرف قدره، وكان يلقي المحاضرات والدروس في مساجدها، ويكتب المقالات المتنوعة الكثيرة. كما تعرف إلى طائفة من أعلام علمائها النابهين، مثل: الشيخ طاهر الجزائري والشيخ رشيد رضا والسيد محب الدين الخطيب.
أنشأ في القاهرة عدة جمعيات دينية وثقافية مثل “جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية” التي تهتم بالمغاربة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، و”جمعية الهداية الإسلامية” مع بعض المشايخ منهم شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، لمحاربة الفساد والإلحاد، والتعريف بالإسلام، والسعي لتمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية والسعي لإصلاح شأن اللغة العربية وإحياء آدابها، كما أصدر مجلة “الهداية الإسلامية” لتكون لسان حال الجمعية.
اختير الشيخ محمد الخضر حسين للتدريس في قسم التخصص بالأزهر، وهذا دال على مدى علمه، إذ لا يدرس في الأزهر آنذاك إلا كبار العلماء. كما تولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر 4 سنوات، ورئاسة تحرير مجلة “لواء الإسلام”، واختير عضوا بـ”مجمع اللغة العربية الملكي” عند إنشائه في القاهرة سنة (1351هـ/1932م). وأيضا عضوا لهيئة كبار العلماء سنة (1370هـ/1950م)، ثم شيخا للأزهر.
ولايته لمشيخة الأزهر
“تكبر يا أخضر، وتكونْ شيخ الأزهر”.. بهذه الأمنية كانت السيدة حليمة تهدهد وليدها الخضر حسين. لكن الأزهر كان حلما يبدو بعيد المنال من مدينة نفطة بمحافظة توزر التونسية القريبة من الحدود مع الجزائر. وقد تبين أن هم الأم وطموحها في ولدها الأصغر سيتجسد فعليا على أرض الواقع. لكن الموت غيب الأم قبل أن تشاهد بعينيها ما كانت تراه حلما.
وذاع صيت وعلم الشيخ الخضر حسين في مصر حتى نال عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة “القياس في اللغة العربية” 1950م. وبعد قيام ثورة يوليو سنة 1952 في مصر، تم الاتفاق على أن يتولى قيادة الأزهر مجاهد عربي من قادة المسلمين ومن أصل بلد دفع فيما بعد مليونا ونصف المليون شهيد في سبيل حريته هو الجزائر. وعندما عُرضت عليه مشيخة الأزهر، وما كان يتوقع أن يعتلي هذا المنصب في يوم من الأيام، قال الخضر لخلصاءه “لقد سقطت المشيخة في حجري من حيث لا أحتسب”.
وولي الشيخ منصبه وفي ذهنه برنامج إصلاحي كبير للنهضة بهذه المؤسسة الإسلامية الكبرى، وجعْلها وسيلة لبعث النهضة الإسلامية، التي يتطلع إليها العالم الإسلامي.
وبالفعل كان للشيخ الخضر حسين أثرا كبيرا في الأزهر الشريف بعد توليه المشيخة فقد كان صادعا بالحق ولا يخشى في الله أحدا وتصدى لكثير من الدعوات الهدامة، وكان قوله دائما: “إن الأزهر أمانة قي عنقي، أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص”. كما كان يردد: “يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء”.
استقالة غير مؤرخة يوم التعيين!!
ولم يلبث الشيخ الخضر أن قدم استقالته من مشيخة الأزهر في 7 يناير 1954م. ومن المواقف التاريخية العجيبة للإمام الأكبر الشيخ الخضر حسين أنه لما تولى مشيخة الأزهر كتب استقالة غير مؤرَّخة من صورتين، احتفظ بإحداهما في مكتبه، وأعطى الأخرى للشيخ بسيوني مدير مكتبه، وقال له: “إذا رأيتني ضعيفًا في موقف من المواقف فابعث بالصورة التي معك إلى المسؤولين نيابةً عني، وهذه مسؤوليتك أمام الله”.
وقد أعطى الشيخ الخضر المنصبَ حقَّه من الرعاية والتكريم، فما كان يتذلل أمام حاكم، ولا كان يجامل على حساب عقيدته أو دينه. وكان له موقف مشرف حين طلب أحد أعضاء مجلس الثورة مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك أنذرهم إن لم يتراجعوا عن هذا فسيلبس كفنه، ويدعو الشعب إلى زلزلة الحكومة والقيام عليها لاعتدائها على حكم من أحكام الله.
وقد كان السبب في استقالته اعتراضه واحتجاجه على اندماج القضاء “الشرعي” في القضاء “الأهلي”، وكان يقول بأن العكس هو الصحيح، فالذي يجب هو اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع.
وبعد استقالته من المشيخة تفرغ للبحث والمحاضرة حتى لبّى نداء ربه في مساء الأحد 13 من رجب 1377هـ – 28 من فبراير 1958م.
موقفه من عبد الرازق وطه حسين
سنة 1344هـ ظهر كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” الذي أحدث ضجة كبيرة في العالم الإسلامي، لأنه خالف ما أجمع عليه المسلمون في أمور كثيرة. وعلى الرغم من أن الشيخ الخضر كان صديقا لأسرة عبد الرازق، إلا أنه عندما تلقى نسخة من الكتاب هدية من المؤلف، وما أن قرأه حتى غضب لله وللحقيقة، ولم تَحُل صداقته لآل عبد الرازق بينه وبين أن ينتقد الكتاب ويبرز ما فيه من أخطاء، فتفرغ لنقضه فقرة فقرة، وأصدر كتابه القيم “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”، فنفذت طبعته في شهر واحد لشدة الإقبال عليه.
وفي العام التالي أصدر طه حسين كتابه المثير للجدل “في الشعر الجاهلي” الذي زعم فيه أن الشعر الجاهلي مختلق ومنحول، كما جاهر بالهجوم على بعض المعتقدات الدينية حيث قال: “للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…”.
فكان الشيخ الخضر رحمه الله، ممن انبرى للرد على هذا الضلال المبين، فألف كتابه “نقض كتاب في الشعر الجاهلي” فند ما جاء في كتاب طه حسين، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي، وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي “مرجليوث” دون أن يذكر ذلك.
شيوخه مناصبه ورحلته العلمية
تنقل الخضر في الدراسة فيه من مرحلة إلى مرحلة، فظهرت نجابته، وبرز نُبُوغُهُ،
تولى منصب القضاء في بلدة “بنزرت”، ولم يكن يريده لكن الشيخ الإمام العلامة “محمد الطاهر بن عاشور” أقنعه بالقبول، لكنه بقي أشهرا قليلة ثم استقال، وعاد إلى التدريس في جامع الزيتونة، والقيام على خزانة كتبه، والتدريس بمدرسة “الصادقية”، وكانت الثانوية الوحيدة في تونس. ورفض تولي العديد من المناصب الحكومية، وواصل الدراسة على يد كبار العلماء مثل: الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، وكانا يدرّسان تفسير القرآن الكريم، والشيخ سالم بوحاجب الذي درس على يديه صحيح البخاري، وكان من أبرز شيوخه، وقد تأثر به وبطريقته في التدريس.
وبدأ الخضر حسين رحلته بزيارة مصر وهو في طريقه إلى دمشق، ثم سافر إلى إسطنبول ولم يمكث بها طويلاً، فعاد إلى بلاده ظانًا أن الأمور قد هدأت بها، لكنه أصيب بخيبة أمل وقرر الهجرة مرة ثانية، واختار دمشق وطنا له، وعُيِّن بها مدرسًا للغة العربية في المدرسة السلطانية سنة (1331هـ= 1912م)، ثم سافر إلى إسطنبول ثانية، فاختاره أنور باشا وزير الحربية محررًا عربيًا بالوزارة، ثم بعثه إلى برلين في مهمة رسمية، فقضى بها تسعة أشهر. وعندما كان في ألمانيا حضر عند مدير الاستخبارات الألمانية وكان معه سكرتيره، وفي نهاية الحديث سأله المدير: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟ فقال له: وماذا يقرر؟ قال المدير الألماني: إن العرب لا يصلحون لملك، ولا يحسنون حكمًا للأمم. فقال له الخضر: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية، وقرر أنهم في الإسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام، وقد بيّن ذلك غاية البيان في فصل عقده في مقدمته.
مؤلفاته
في سنة 1958 وبعد اعتزاله في بيته ودع العلامة الشيخ الخضر حسين الحياة تاركا وراءه إرثا من العلم يتمثل في مؤلفات نفيسة ومقالات رصينة وسيرة حسنة. فقد ألف الشيخ الخضر عدة مؤلفات نذكر منها:
- “رسائل الإصلاح”، في ثلاثة مجلدات، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية، ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي.
- الخيال في الشعر العربي.
- القياس في اللغة العربية.
- ديوان شعر “خواطر الحياة”
- نقض كتاب الإسلام وأصول الحُكم.
- نقض كتاب في الشعر الجاهلي.
- آداب الحرب في الإسلام.
- أبحاث ومقالات عديدة نشرها في مجلة الأزهر (نور الإسلام)، و”لواء الإسلام”، و”الهداية الإسلامية”، وغيرها.
- تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي.
وفاته وأقوال العلماء فيه
توفي الشيخ الإمام محمد الخضر حسين رحمه الله، مساء الأحد 13 رجب سنة 1377هـ الموافق 2 فبراير سنة 1958م. ونعاه العلامة اللغوي محمد علي النجار بقوله: “إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في النّدْرَى، فقد كان عالما ضليعا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذّ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظا على العروبة والدين، يردّ ما يوجَّه إليهما وما يصدر من الأفكار منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم”.
وقال تلميذه العلامة الشيخ محمد أبوزهرة في رثائه في ندوة “لواء الإسلام” عام 1958 :”اجتمع لأستاذنا الخضر صفات لم تجتمع في غيره من العلماء، فقد كان مؤمنا جريئاً شجاعاً، يقول الحق ولا يخشى فيه لومة لائم؛ قاوم الفرنسيين في أرض تونس، وترك منصباً رفيعاً ، ولم يهِن ولم يضعف، فهاجر من وطنه، وأخذ يطوف في الأقاليم مدافعاً عن الإسلام، ومقاوماً أعداء الإسلام في كل أرض، حتى استقر به المقام في آخر المطاف بمصر، فكان نوراً يضيئ فيها”.
وقال عنه العلامة الجليل الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور: “إنه من أفذاذ علماء الإسلام، وقد كان قليل النظير في مصر”.