أَولى المستشرقون التراث العربي الإسلامي أهمية بالغة، فألّفوا كتباً ودراسات عديدة في القرآن الكريم، والحديث الشريف، والتاريخ والجغرافيا، والشعر والأدب، وأثار كثير منهم شبهات جمّة حاولوا من خلالها أن يُثبتوا وجود أخطاء في كل حقول التراث الإسلامي ومجالاته المتعددة، ولا شك أن الشبهات التي أثارها المستشرقون -على اختلاف مدارسهم- حول المصدر الأول للتشريع في الإسلام (القرآن الكريم) هي أخطر تلك الشبهات وأشهرها، حيث جاءت شكوكهم حول هذا المصدر “مفعمة بالطَّعن فيه من جوانب، شملت لفظه، وأخباره وقصصه، وناسخه ومنسوخه، ومتشابهه، وطريق تنزيله ومصدره، وثبوته، والأحكام المستنبطة منه”[1].

ومع كثرة الشبهات الاستشراقية المثارة حول التراث العربي الإسلامي، إلا أن  هناك مجموعةً من المستشرقين المنصفين للإسلام وتراثه، كما أن هناك كتباً ودراسات عديدة تَرُدُّ على شبهات غير المنصفين من المستشرقين وتُبيِّن تحاملهم وأخطاءَهم وتناقضاتهم، وقد تعددت المدارس الاستشراقية المهتمة بدراسة القرآن الكريم جغرافياً وأيديولوجياً ولغوياً، وتعتبر المدرسة السويدية أحدث تلك المدارس نشأة وأبعدها عن الدافعي الاستعماري، ورغم ذلك لم تنل الدراسات الاستشراقية السويدية النصيب الكافي من الدراسة والتمحيص، بل “ظلت مغمورة، ولم تسلط عليها الأضواء إلا لماماً، خاصة الدراسات القرآنية منها[2]“، وقد جاء كتاب (الدراسات القرآنية في الاستشراق السويدي) لمؤلفه عصام هادي كاظم السعيد كي يساهم في سَدّ الفراغ الحاصل في ميدان الردود على مطاعن المدارس الاستشراقية.

وسنحاول في هذه المقالة أن نسلط الضوء على موقف روَّاد المدرسة السويدية حول القرآن الكريم، من خلال جولة في كتاب (الدراسات القرآنية في الاستشراق السويدي)، الذي قسمه مؤلفه إلى تمهيد وثلاثة فصول ونتائج وتوصيات، وحاول أن يقدم من خلاله تقويماً لدراسات المستشرقين السويديين حول القرآن الكريم تاريخاً وتفسيراً وترجمةً، واعتمد في دراسته على مجموعة من المصادر السويدية الأساسية، منها: كتاب (القرآن) للمستشرق السويدي كارل يوهان تورنبيرغ، وكتاب (الإسلام وفق القرآن) للمستشرق السويدي كريستر هيدين، وكتاب (محمد حياته وعقيدته) للمستشرق السويدي تور أندريه.

أشرنا في السطور السابقة إلى أن المدرسة الاستشراقية حديثة النشأة مقارنة بالمدارس الاستشراقية الأخرى كالمدرسة الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإسرائيلية، ونُضيف هنا معلومة قد تبدو غريبة إلى حد ما من وجهة نظر القارئ، وهي أن الفضل في تأسيس الدراسات الاستشراقية السويدية لا يعود إلى مستشرق سويدي بل إلى مستشرق فرنسي يُدْعَى سلفستر دي ساسي (1758-1838م)، فعلى يدي “ساسي” تلقى المستشرقون السويديون مبادئ فنّ الاستشراق وأسسوا مدرسة بلادهم. وقد قام عصام هادي بتقسيم المستشرقين السويديين إلى ثلاثة أقسام، الأول يدرس الشرق عامة والدين الإسلامي خاصة بهدف التعرف على حضارة الشرق، والثاني سيطر على أصحابه التعصب الديني فجاءت دراساتهم مشحونة بالطعن في الإسلام ونبيه محمد، أما الثالث فيمثله المستشرقون العلمانيون الذين يعتمدون أساليب التلميحات والتَّخفي وراء الألفاظ والمصطلحات.

المستشرقون السويديون وشخصية محمد

غالباً ما تنطلق الدراسات الاستشراقية حول المباحث القرآنية المتعلقة بمصدر القرآن ولغته ومعانيه وطبيعته من أرضية تحليل شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحياته الشخصية ومحيطه الاجتماعي، من أجل معرفة السر وراء عظمة هذا الكتاب الذي أذهل خصومه قبل محبِّيه، وأعجز العرب قبل العجم، ولذلك خصّص عصام هادي الفصل الأول “المباحث القرآنية عند المستشرقين السويديين” للحديث عن أربعة مباحث قرآنية كبرى، هي: مفهوم الوحي، والإعجاز القرآني، ومصدر القرآن الكريم، وتفسير القرآن، وتدور هذه المباحث الأربعة حول الإجابة على سؤال: من أين جاء القرآن الكريم؟ هل ألّفه محمد بمفرده؟ أم ألّفه بمساعدة آخرين؟ أم أخذه من الديانات الأخرى؟ أم نزل عليه من السماء؟  

ومن خلال هذا الفصل، قدم المؤلف نماذج من أقوال المستشرقين السويديين بخصوص المباحث القرآنية الآنفة الذكر، والواضح أنها تكرر نفس أطروحات المستشرقين الذين سبقوهم إلى هذا ميدان الشبهات، فحين ننظر -مثلا- إلى كتابات كبير المستشرقين السويديين كارل يوهان نجده يقدم حججاً سخيفة جداً، حيث يلجأ إلى تحليل شخصية الرسول محمد بطريقة غريبة، فيقول إنه غير متعلّم، وسريع الغضب، ولم يجرح حرية العرب، وكان على اتصال دائم باليهود، ثم نجد كارل فلهلم زترستين أيضاً ينكر الوحي ويرى أنه مستمد من المصادر اليهودية والمسيحية، ولكنه ينفي الشاعرية عن النبي محمد.

أما المستشرق تور أندريه فكان أكثر مصداقية من المستشرقين السابقين، حيث يرى أن النبي محمداً كان صادقاً في دعواه مخلصاً لها أشد الإخلاص، غير أن أندريه كان يرجع الوحي إلى الإلهام النفسي، ثم إننا إذا نظرنا في أقوال كريستر هدين فسنجده يُقدّم بعض الأفكار التي تتّسم بموضوعية أكثر من أندريه، حيث ينفي أن يكون مصدر القرآن اليهودية أو المسيحية، لأن محمداً لم يتمكّن من القراءة[3]. وقد سرد المؤلف في هذا الفصل جملة من شبهات المستشرقين السويديين بخصوص المباحث القرآنية، ثم قام بالرد عليها من خلال أمثلة مختلفة، منها: الفروق الواضحة بين أسلوب القرآن وأسلوب النبي محمد، وإعجاز القرآن للعرب والعجم، ونظرته المتناسقة للكون والحياة.. إلخ.

المستشرقون السويديون وتاريخ القرآن

خصص عصام هادي الفصل الثاني “تاريخ القرآن في نظر المستشرقين السويديين” للحديث عن أربع قضايا قرآنية تتعلق بظاهرة تاريخ القرآن، فتحدث عن: نزول القرآن، والمكي والمدني، والسور القرآنية، وجمع القرآن الكريم، وقد بدأ حديثه في هذا الفصل بالقول إن المستشرقين السويديين لم تكن لديهم عناية كبيرة بمسألة نزول القرآن الكريم وكيفية نزوله، وهل له نزول واحد أم له نزولان، كما أنهم لم يهتموا كثيراً بالإجابة على سؤال: ما أول سورة أو آية نزلت على محمد، وما آخر سورة أو آية نزلت؟ بيدَ أنه أوضح أن كريستر هيدين قد يكون المستشرق السويدي الوحيد الذي اهتم بهذا المجال، حيث قال إن القرآن كتاب سماوي، وأن محمداً “حصل على مهمة نقل محتوى النص السماوي أو مضمونه إلى الأرض”[4]، ثم توقف هيدين مع مدة نزول الوحي على الرسول محمد.

أما مسألة جمع القرآن الكريم، فيبدو أن المستشرقين السويديين توقّفوا معها لكن تباينت آراؤهم حولها، حيث نرى كارل يوهان يقول إن “القرآن في حالته الحالية ليس هو نفسه الملخّص من قبل محمد”، في حين نجد كريستر هيدين يقول إن القرآن الكريم “نصٌّ كُتب باللغة العربية في القرن السابع، ثم استُنسخ في المستقبل من دون أي تضارب في صياغة النصوص الصحيحة”[5]. ولم ينسَ المؤلف أن يتوقف مع الخلاف الذي حصل بين المستشرقين السويديين بخصوص “تسمية القرآن”، فأشار إلى أن كارل يوهان يفسر لفظ (القرآن) بأنه يعني: شيء مقروء أو مرسل أو (الوحي الخاص)، ويرى أن الكتاب المقدس هو المعجزة وليس القرآن، أما كريستر هيدين فيصرّح بأن لفظ (القرآن) يعني: القراءة والتلاوة، وأن “القرآن هو معجزة الإسلام، وأعظم ما يحدث في تاريخ العالم، وهو النص المقدس للإسلام وأساس الإسلام”[6].

ترجمة القرآن: هل ينتهي الجدل التاريخي؟

أثارت إشكالية الترجمة جدلاً واسعاً عبر التاريخ، ولا يزال سؤال الترجمة من الأسئلة الكبرى، ليس عند المستشرقين فحسب، بل عند غيرهم من الباحثين والفقهاء المسلمين، ولعل ترجمة سلمان الفارسي رضي الله عنه (سورة الفاتحة) لفرس اليمن هي أول لبنة من لبنات ترجمة القرآن الكريم تاريخياً، وهذا يسمح لنا بالقول إن سؤال: هل تجوز ترجمة القرآن الكريم وهل تؤدي المعنى القرآني الدقيق وما الترجمة المقبولة؟ سؤال وارد نظرياً وعملياً، ويحتاج إلى إجابة شرعية واضحة تُنهي الجدل القائم بهذا الخصوص، فالترجمة وسيلة من وسائل تبليغ رسالة السماء في كل زمان ومكان، والحاجة إليها ستظل مستمرة باستمرار البشرية ووسائل التخاطب والتفاهم.

وبما أن سؤال الترجمة مُلِحٌّ ومتجدِّدٌ، فقد توقف عصام هادي في كتابه هذا مع إشكالية ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى، فتحدث عن حكم الترجمة وأنواعها وشروطها وأهدافها ودوافعها، وخصص المبحث الرابع من الفصل الثالث والأخير للحديث عن “ترجمات المستشرقين السويديين للقرآن الكريم”، وقال إننا نرصد في اللغة السويدية سبع ترجمات جاءت متباينة تبعاً لأهدافها ومراميها، وقد طبعت الثانية منها عام (1843م)، وشملت جميع سور القرآن وآياته.

أما أفضل الترجمات السويدية، فهي ترجمة الدبلوماسي السويدي محمد كنوت برنستروم، الذي أحسّ بعد اعتناقه للإسلام (عام 1985م) بحاجة السويديين إلى “ترجمة صحيحة ودقيقة لمعاني القرآن الكريم، ولا سيما في نشاطاتهم الدعوية[7]“، فقام بترجمة القرآن الكريم، ليساعد القارئ السويدي على فهم مضامين رسالة القرآن الكريم، ومن ثمَّ تبليغها للناس عامة، وتعد ترجمة برنستروم الترجمة العصرية للقرآن الكريم في السويد.


[1] محمد بهاء الدين حسين، المستشرقون والقرآن الكريم (عمان: دار النفاس للنشر والتوزيع، 2014)، 8.

[2] عصام هادي كاظم السعيد، الدراسات القرآنية في الاستشراق السويدي (بيروت: المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 2020)، 16.

[3] انظر: عصام هادي كاظم السعيد، الدراسات القرآنية في الاستشراق السويدي،93.

[4] المصدر نفسه، 120.

[5] انظر: المصدر نفسه، 157-160.

[6] المصدر نفسه، 166-167.

[7] المصدر نفسه، 208.