كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” لمؤلفه عبد الإله دعال، يضم 329 صفحة، موزعة على أربعة أقسام تضم عشرة فصول وملخص ومقدمة واستنتاجات (خاتمة). وهو صادر عن دار النشر منتدى المعارف – لبنان-2022. وفي ملخص الدراسة يتساءل الباحث :هل ما زال الدين موضع اهتمام البحث الفلسفي أم إنه لم يعد إلا ظاهرة تعنى بها العلوم الاجتماعية؟
وينتقل المؤلف في مقدمة كتابه “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” إلى التقرير بأن “عودة الدين” دفعت الفكر لإعادة العناية به، بعد أن كان الإصلاح الديني قد أخضع اللاهوت للنقد الفلسفي، ثم انضم مع نهاية القرن 19 ثلاثة علوم اجتماعية هي الانثروبولوجيا الدينية وعلم الاجتماع الديني والتاريخ المقارن للأديان، فانتقل التركيز من البعد الميتافيزيقي للدين إلى اعتباره ظاهرة اجتماعية، ثم تعاضدت الهيرمينوطيقيا مع هذا المنهج في تأويل النص.
في مفهوم الدين
جاء القسم الأول من كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” في مفهوم الدين، ويبدأ في تحيد ماهية الدين.
الفصل الأول: فهناك 50 تعريفا للدين، لذا من الأفضل تعريفه استنادا لماهيته (اشتقاقيا-الارتباط والاحترام) أو لاهوتيا (الإيمان والطاعة لنص مقدس مطلق، مكتوب، مصدره وحي مفترض)، أو فلسفيا (ضرورة أخلاقية (كانط) أو حدسية للكون (شلايرماخر) أو الوعي الديني (هيغل-فويرباخ) – أو سوسيولوجيا (الممارسة الجماعية داخل مؤسسة مقدسة).
الفصل الثاني: (الوعي الديني بين العقل والايمان) العلاقة بين العقل (البرهان والاستدلال المنطقي) والإيمان (القبول بالوجدان)، وتأخذ هذه العلاقة إما تغليب أحدهما على الآخر (أوغسطين غلب الايمان وابن رشد غلب العقل) أو التوفيق بينهما (ليبنتز) أو الفصل بينهما (سبينوزا).
الفصل الثالث: من النقد الفلسفي للاهوت إلى اللاهوت العقلي: العلم والدين في فترة الاصلاح الديني (القرن 16-مارتن لوثر/ وهوبز /وسبينوزا ميزا بين الدين والتدين عقليا ولكن التمييز عند روسو صار هو الضمير(دين الانسان-دين المواطن –دين الكاهن)- وطرح ديفيد هيوم أهمية الشك (العقل هو المبدأ الأول وليس المادة استنادا للحجة التجريبية) وأكد هيوم حيادية العالم – أما كانط فأسس للاهوت العقلي وقسمه إلى قسمين هما تأملي (لاهوت متعالي و لاهوت طبيعي:كوسمولوجي و فيزيائي)، وأخلاقي- رافضا الارتباط الحتمي بين الدين والاخلاق. وميز بين اللاهوت الكتابي (النص ) واللاهوت العقلي، ويرفض خضوع الثاني للأول مؤكدا على تأويل النص استنادا إلى الاخلاقية العقلية.
الفصل الرابع: من اللاهوت العقلي إلى فلسفة الدين مؤكدا أن هيغل هو مؤسس فلسفة الدين (موضوعها الله، وغير محصورة في دين معين-مستخدما المنهج المقارن بين الأديان – ثم جعل منها موضوعا جامعيا – وتناوله لمفهوم المطلق من خلال تطور دلالاته في الفن والدين والفلسفة). ويتتبع علاقة الفلسفة بالدين في مراحل ثلاث: اليونانية و القرون الوسطى ثم المرحلة الحديثة وكيف تطور مفهوم الدين في الحضارات التاريخية و تحديد الفكرة المركزية عن الله في كل منها.
الفصل الخامس: من نقد اللاهوت إلى نقد الدين. حيث أصبح نقد الدين هو الموضوع المهيمن عند فويرباخ (التبعية للطبيعة) وماركس (الاستلاب) ونيتشة (موت الإله) مما مهد لأنسنة الإله وتأليه الانسان.
الفصل السادس: (القسم الثالث) في علم الاجتماع الديني. يحدد كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” بداية علم الاجتماع الديني مع دوركهايم وماكس فيبر، حيث بدأ إرساء الظاهرة الدينية كقاعدة لعلم الاجتماع الديني استنادا لقواعد المنهج السوسيولوجي الذي يعيد كل الأفكار للمجتمع مثل أصل الأديان، الانشغال في كل المجتمعات بفكرة النفس التي يميزها عن الروح، تطور فكرة الآلهة من رحم الأسطورة والمخيلة الدينية، العبادات لتوحيد الجماعات.
وينتقل المؤلف في كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” إلى ماكس فيبر ودراسته للأشكال الأولى للتدين ثم يناقش موضوع تشكيل مكانة ودور الدين عند الساحر والكاهن وصولا للنبي.
الفصل السابع: في انثروبولوجيا الدين: يميز بين الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع من حيث الموضوع، باحثا في نظريات أصل الأديان وتحديد فكرتها المركزية (الإحيائية – الروح)، و(الطوطمية – تعظيم خرافي لكائنات مادية)، و(الطبيعية – الطبيعة).
الفصل الثامن: يتناول كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” الدين كموضوع للتاريخ، ويتناول منهجية المقارنة بين الأديان وأهميتها موليا اهتماما لدراسات ميرسيا إلياد (Mircea Eliade) بخاصة تجليات الدين في التاريخ، مثل المقدس والدنيوي.
الفصل التاسع: (القسم الرابع) يتناول كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” موضوع (النص الديني و إشكالية التأويل) بحث الانتقال من التأويل التقليدي إلى الهيرمينوطيقا (شلايرماخر- التفسير اللغوي والنفسي).
الفصل العاشر: من كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” عبارة عن (قراءات معاصرة للنص الديني)- توظيف “هيدغر” الفينومينولوجيا في مساندة الهيرمينوطيقا لإثبات أن هناك أكثر من موضوعية، ثم دراسات بول ريكور الذي أخذ من هيدغر التوظيف المتبادل للعلمين – أما الاستنتاجات فيحدد المواقف من الدين (تحقيري، تبجيلي، نقدي) ويرصد مناهجها والانتقال بينها داعيا لتحرير الدين وتخليصه من أي احتكار.
منهجية كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث”
يمكن اعتبار المنهج المقارن هو الأكثر اعتمادا في هذه الدراسة “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” وتتضح معالم هذا المنهج في أن الباحث بدل أن يتتبع موقف كل فيلسوف من موضوعه الرئيسي (الفكر الفلسفي والاجتماعي) عبر التاريخ، قًسَّمَ موضوعه إلى موضوعات فرعية، وفي كل مرة يعود للفلاسفة –أنفسهم غالبا- ليكشف موقفهم من كل موضوع فرعي، ومن هنا كانت المقارنة واضحة من خلال مقارنة إجابات كل فيلسوف على أسئلة الدراسة:
كيف نشأ الدين أو ما هي صورة الإله وكيف تشكلت، وكيف يُفهم النص أو كيف يتم تأويله، وما هي علاقة الدين بالمجتمع والفرد والطبيعة…الخ.
ولا شك أن مؤلف كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” كان دقيقا في عرض الآراء وفي المقارنة بينها وتحديد نقاط التلاقي والخلاف بين الفلاسفة في أغلب النقاط التي جرى البحث فيها، كما أنه غطى الفكر الفلسفي من ناحية وغطى العلوم الاجتماعية (علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ) وعلوم اللغة وفقهها (رابطا بين الهيرمينوطيقا والفينومينولوجيا)، وقد غطت الدراسة فلسفات وأفكار قطاعات واسعا من المفكرين الغربيين، وقارنت بينهم بقدر من الدقة والتسلسل.
لكن الباحث من زاوية أخرى لم يلتزم – استنادا لعنوان بحثه “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” ووكذلك لمقدمته للدراسة – بمسألتين هما:
أ- زمن الدراسة:
فقد غطى في عرض آراء المفكرين والفلاسفة فترة تقارب الخمسة قرون مع أن عنوان البحث الفكر “الحديث (الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث)، وقد أشرت لذلك أعلاه .
ب- مكان الدراسة:
لقد حصر الكاتب حدود جغرافية دراسته في الفكر الأوروبي، رغم أن عنوان الدراسة “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” وهو لا يوحي بذلك بل يشير إلى مضمون عام لا خاص، وترتب على ذلك أن كل الفكر الانساني خارج منظومة الفكر والفلسفات غير الغربية بقي خارج الدراسة، وحتى الأديان الكبرى لم يتم فهم دلالاتها إلا من باب الفهم الغربي لها دون دراسة الفكر والفلسفة الحديثة في أماكن غير أوروبا.
ولعل الملاحظة السابقة تثير تساؤلا حول جدوى هذه الدراسة “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث”، فالمقارنة للفكر “داخل” نفس الحضارة يعطي نتائج بلا شك، لكن المقارنة للفكر “بين” الحضارات سيعطي مساحة أوسع للاستنتاج، وهو ما تجنبه الباحث في هذه الدراسة، بخاصة أن أغلب المنظومات الدينية الكبرى هي نتاج “ذهن “غير غربي، فلا الإسلام ولا المسيحية ولا اليهودية نبتت في تربة غربية.
من جانب آخر، يشير العنوان الى الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث، وهنا نتساءل: ألا يدخل الفكر والفلسفة السياسية ضمن حقل الفكر الاجتماعي؟ لكن هذا الجانب غاب من الدراسة إلا من تلميحات عابرة، وكان من الضروري مناقشة التأثير المتبادل بين المنظومة المعرفية الدينية وبين المنظومة المعرفية السياسية؟ فمثلا هل كان للدين أي تأثير من الناحية الفكرية في ظهور الدولة القومية (ويستفاليا 1648) أم في تفكيكها لاحقا؟ فهل كان لحرب الثلاثين سنة (بين الكاثوليك والبروتستنت) تأثير فكري لا سيما أن الدولة القومية برزت مباشرة مع نهاية هذه الحرب، بل أن بنود معاهدة ويستفاليا نصت على حرية ممارسة اتباع الأقليات الدينية لمذاهبهم في مناطق أغلبية مذهبية مخالفة لهم، وتربية أبنائهم طبقا لمذاهب هذه الأقليات؟ فهل أسس هذا للحرية ؟…الخ.
ذلك يعني أن درجة التطابق بين عنوان الدراسة “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” ومضمونها هو تطابق جزئي، كما أن المقارنات بين الفلسفة بقيت بين فلاسفة “جغرافيا حضارية واحدة” هي الحضارة الغربية، ولم يتم أي نوع من المقارنة بين رؤية الفلاسفة الذين عرضهم الكتاب وبين فلاسفة من جغرافيا حضارية مختلفة لديها منظومة معرفية مختلفة.
مناقشة كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث”
يشكل الدين أحد الظواهر الاجتماعية التاريخية التي تركت آثارها في كل جوانب الحياة البشرية، ويحاول هذا الكتاب (الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث) الإجابة على عدة أسئلة مثل:
كيف ولماذا نشأ الدين؟ كيف رافق العقل الديني بتجلياته المختلفة التطور الانساني؟ وكيف انعكست بيئات كل دين على بنيتة المعرفية؟ كيف نفهم الدين من أشخاصه أو نصوصه أو منتجه أو تفاعله، ما هو دور الفلسفة في كل ذلك؟ وما هي طبيعة العلاقة والنظرة المتبادلة بين الدين والفلسفة؟ وما هي مناهج كل منهما في النظرة للأخر؟ يحاول هذا الكتاب الإجابة على كل ما سبق، ولكن لا بنظرة عالمية بل استنادا وبنسبة تفوق 90% للأدبيات الغربية وتحديدا الأوروبية، مع التركيز على عدد من رموز هذه الأدبيات الفكرية التي لم يبق شاردة أو واردة في فكرهم إلا وخضعت للبحث والمراجعة من قبل آلاف الباحثين بما في ذلك آرائهم في الدين من جانب آخر.
من جانب آخر، فإن الكتاب العرب – بخاصة في الدراسات الثقافية غير العربية والاسلامية – لا يُطِّلون إلا من النوافذ الغربية، وحتى عندما يتناولون أديان الشعوب غير الأوروبية يطلون عليها من نفس النافذة، كما فعل مؤلف هذا الكتاب، فهو عَرَضَ الطاوية والهندوسية والزرادشتية..الخ، ولكن لا من فلاسفة ومثقفي مجتمعات هذه الأديان بل من خلال “العقل الغربي”، وفي أفضل الأحوال يطل مؤلف هذا الكاتب على ابن رشد ولكن من النافذة الغربية أيضا.
ويكفي أن يعود باحثنا إلى مواقع الديانات الآسيوية ليطلع على الفلاسفة الآسيويين (الهند واليابان والصين..الخ) وتصوراتهم للدين ومن نفس الجوانب التي غطاها الباحث، لكنه تعالى عنها.
نحن أمام كتاب مدرسي منظم للغاية، يتوافق محتواه مع “بعض” عنوانه، ويقدم – وبدقة – إجابات الفلسفة الغربية على الأسئلة أو الاشكاليات الفكرية التي يطرحها، لكنها مجرد “تجميع وتنظيم”، فهو اختار ظاهرة معينة وهي الدين، وتتبع ما كتب عنها في علم الاجتماع، في الفلسفة، في الانثروبولوجيا، في علم الأديان المقارنة، من خلال أدبيات الرموز الفكرية الغربية التي أشرت لها.
لقد أشار عنوان الكتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” إلى أنه يغطي الفكر الفلسفي والاجتماعي “الحديث”، وكان من الأدق أن يكون العنوان هو الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي “الغربي”، لكن العنوان الحالي يغطي الفكر في مجتمعات تشكل طبقا لإحصاء 2023 ما نسبته (17%) من سكان العالم.
صحيح أن هذا الفكر الغربي ترك أثرا على الفكر الإنساني إلا أن من الضروري التنبه إلى أن الأديان الأكثر أهمية في التاريخ الإنساني (المسيحية والإسلام واليهودية والهندوسية والبوذية والكونفوشية والطاوية والشنتوية والزرادشتية..الخ ) نشأت ونمت خارج البيئة الغربية ..لماذا؟ ألا يستحق ذلك البحث فيه من فلاسفة الزمن الحديث والمعاصر في هذه المجتمعات.
من جانب آخر، فان تعبير الفكر “الحديث ” يلتبس في حدوده الزمنية مع الفكر ” المعاصر “، فلو استعرضنا أهم الفلاسفة الذين عرضهم الكتاب سنجد أنهم يغطون الفترة من مارتن لوثر(مات 1546) إلى ديفيد هيوم (مات 1776) إلى هيغل(1831) إلى ماكس فيبر(1920) إلى هيدغر(1976) إلى بول ريكور (2005) إلى ليفي ستراوس(2009) والباقي يقعون ضمن الأقصيين، أي أن كتاب “الدين في الفكر الفلسفي والاجتماعي الحديث” جعل الفكر الحديث يمتد من 1546 الى 2009، وهنا يتداخل الحديث والمعاصر (Modern and contemporary)، وتميز الموسوعة البريطانية بين المديين بشكل لا يتفق والمساحة الزمنية التي غطاها باحثنا.