في ظل الصراع الذي يعيشه الإسلام في مقابل الدعوات الهدامة، والجبهات الكارهة للدين، المحاربة له، من قبل أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم، كان من الواجب أن يتصدى لهذا رجال دعوة أذكياء، فالصلاح وحده غير كاف في مقابلة سنة التدافع، وإن كان الإسلام يحمل في اسمه وطياته وأهدافه ومقاصده إحلال السلام في العالم، إلا أن أعداءه لا يقبلون إلا أن يكون أتباع الإسلام أتباعا لهم، كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] وما نراه من انتصار لأعداء الإسلام ما هو إلا بسبب ذكائهم وغباء المسئولين عن الإسلام في بلاد المسلمين، من حكام لا هم لهم إلا البقاء على السلطة حتى أضحوا- في حقيقة الأمر- بلا سلطة، ومن مؤسسات دينية ودعوية ضعيفة هشة لا تستطيع تجديد خطابها الديني، ولا أن تجعل الجمهور يلتف حولها بخطابها الرصين المتزن، ولا تلك الجماعات الإسلامية التي رفعت شعار الدفاع عن الإسلام والسعي إلى تطبيق الشريعة، فبدت تلك الجماعات بلا رؤية واضحة، ولا رسالة بينة المعالم، بل تناحروا فيما بينهم، فأضحى كل تيار يكره الآخر ويعاديه، بل حدا ببعضهم أن يتعاونوا مع الظالمين في سبيل إضعاف إخوانهم من التيارات الأخرى، ولو أدى ذلك إلى أن يضعوا أيديهم في أيدي الطغاة الظالمين، وقد نهوا عن ذلك في كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } [هود: 113]، ونسي هؤلاء أنهم ألعوبة في أيدي الطغاة الظالمين، وحين ينال الطغاة مرادهم في إضعاف التيار الآخر سيلتفون على من ساعدهم؛ لأن الطغاة والظالمين ينظرون إلى كل أصحاب الدعوات نظرة واحدة وإن تفاوتوا، وإنما يتعاملون مع بعضهم حسب ما يحقق لهم مصالحهم.
إن أخطر ما يقدمه الدعاة إلى الطغاة أو أعداء الإسلام هو التعامل بغباء، وأي غباء حين نكون في معركة مع الطغاة والظالمين والأعداء، وإذا بنا نتحارب فيما بيننا، بل نتعارك على من يتصدر المشهد، ومن يقود الناس، في الوقت الذي تنتهك فيه الأعراض، ويقتل فيه الأبرياء، ويعتقل الأولياء، وإذا بالبعض ممن عوفوا من هذا يتكالبون على الكراسي والمصالح، وكل يدعي أنه أقرب إلى الله وأهدى سبيلا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وما هم بفاعلين.
إن من أخطر أدواء الدعاة إلى الله أن تتسلل الدنيا إلى قلوبهم، وأن يسعوا إلى حب المناصب والجاه، وإلى حب الظهور، إرضاء لشهوات النفس، وإن لبسوا مسوح الصالحين، وتكلموا بكلام المصلحين، ونطقوا بكلام الأولياء المؤمنين، وقد كشف الله سبحانه وتعالى طبيعة النفس البشرية حتى في الصالحين أن منهم من يطلب الدنيا، وإن تلبس عليه بين الحق وهوى النفس، وإن كان الله تعالى قد أنزل في صحابة رسوله ﷺ الذين أهم أشرف الناس بعد رسول الله ﷺ أن منهم من يريد الدنيا، فما بالنا بمن بعدهم، وها هو القرآن يقول: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 152].
إن من الغباء أن لا يدرك وجود المنافقين في صفوف الصالحين، وأن يزعم أن صف الدعاة خال من المنافقين، كيف ولم تخل صفوف الصحابة – رضوان الله عليهم- من المنافقين، وقد كان المنافقون يصفون في الصف الأول، ويرفعون شعار الجهاد والدعوة إلى الله، ويمدحون رسول الله ﷺ بأروع الكلمات، والأمر كما وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]..
إن صف الدعاة اليوم مليء بالمنافقين وأصحاب المصالح الشخصية، والذين يتسلقون إلى المناصب باسم الدعوة إلى الله تعالى، وهؤلاء هم الذين يضعفون صف الدعاة إلى الله تعالى.
بل الأعجب هو تحول كثير من التيارات الفكرية عن جوهر الدعوة وصلبها، وأن تتحول الوسائل إلى غايات، والغايات إلى وسائل، فراحوا يجعلون السياسة مقصدا ظنا منهم أنها سبيل إلى الإصلاح، وتناسوا جوهر الدعوة إلى الله تعالى، فلا هم ملئوا المساجد، ولا ذكروا الناس بربهم، بل أضحى غالب أمرهم السعي نحو المكاسب السياسة، لأنهم أحق بها من غيرهم، وظنوا أن الديمقراطية الغربية سبيلهم إلى تحقيق شريعة الله تعالى، وتناسوا أن الغرب كاذب في ديمقراطيته الزائفة، فما عاد المصلحون مصلحين، وما عاد الدعاة يشتغلون بالدعوة إلى الله تعالى، حتى من كان يشغل نفسه بطلب العلم والعناية بنشره، إذا هم ينغمسون في أوساخ السياسة.
إن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج اليوم ليس إلى الذكاء فقط، بل تحتاج إلى الدهاء وحدَّة الفكر، وقد ورد عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قوله:” أنا لست بالخب، ولا الخب يخدعني”، وكم وقع الدعاة إلى الله تعالى اليوم في خديعة بعض شياطين الإنس وخبثاء الناس، وبدا الدعاة إلى الله أمامهم في غاية السذاجة، فلا هم أدركوا مرادهم، ولا أعملوا عقولهم في إدراك مآلات الأفعال والأمور.
وعلى الدعاة إلى أن يكثروا من الاطلاع على سيرة الأذكياء من الأنبياء والصالحين والبشر جميعا، حتى يتعلموا منهم، ومن ذلك : ما ورد عن لقمان أنه قال لابنه: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره، فمعرفة الناس وأحوالهم من أهم وسائل الذكاء الاجتماعي والدعوي.
ومما يحكى من ذكاء النبي ﷺ في غزوة بدر حين أمسك الصحابة بأسيرين، أحدهما مولى لعقبة بن أبي معيط، فقال له كم القوم؟ فقال هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم. فجهد النبي ﷺ أن يخبره كم هم فأبى ثم إن النبي ﷺ سأله: كم ينحرون من الجزر؟ فقال: عشرا لكل يوم. فقال رسول الله ﷺ: القوم ألف كل جزور لمائة.
ومن ذكائه ﷺ في الهجرة أنه وضع خطة محكمة للإفلات من أهل مكة، فخرج في وقت لا يخرج فيه أحد، واصطحب معه من يعرفه الطريق، وقد كان دليله في الهجرة مشركا، وانتظر في منتصف الطريق، فكانت خطة محكمة للإنقاذ.
وهذا خالد بن الوليد – رضي الله عنه- في غزوة مؤتة بعد استشهاد القادة الثلاثة، وضع خطة في غاية الإحكام والذكاء، ولم يتهور ويقل: نحن مجاهدون في سبيل الله، يجب علينا أن نقاتل العدو حتى آخر قطرة دم في عروقنا، وأن نموت شهداء، ولكنه وضع خطة انسحاب ذكية، حيث جعل ميسرة الجيش في الميمنة، والميمنة في الميسرة، والأمام في الخلف، والخلف في الأمام، فلما رآهم الروم ظنوا أن مددا قد جاء في المدينة، ثم جعل يسحب الجيش رويدا رويدا حتى أنفذ الجيش من الهلاك، ولما عاد إلى المدينة قال الصبيان: يا كرار يا كرار، فقال النبي ﷺ:” بل الفرار إن شاء الله.
وليت أهل الدعوة يتعلمون من خالد – رضي الله عنه- عدم التهور في اتخاذ المواقف، وأن يفكروا بناء على رؤية استراتيجية مستقبلية، يجمعون فيها بين فقه الواقع، وإدراك المآلات، وتحقيق المقاصد والغايات.
ولينظر كيف من ذكاء الحسن بن علي – رضي الله عنه- أن يجمع المسلمين على كلمة سواء في عام الجماعة، حتى وإن خسر هو بعض المكاسب، لكن جمع الأمة مقدم على كسبه الذي هو من حقه شرعا، فلم يقل الحسن: إن الخلافة من حقي، ولا أتنازل عنها.
ومن وسائل الذكاء الدعوي:أن يعتني الدعاة إلى الله تعالى بدراسة الواقع دراسة متأنية، بناء على الدراسات والبحوث، وأن تكون آلية اتخاذ القرارات بناء على المنهجية العلمية الواعية، لا على مجرد التشاور السطحي، وأن يعنوا بقراءة التاريخ وأن يعوه جيدا، وأن يتمسكوا بأصول الإسلام وشرائعه، وأن يفرقوا بين الوسائل والمقاصد، فالمقاصد ثابتة، والوسائل متغيرة، وأن يفعِّلوا فقه المآلات والموازنات وأن يدركوا مقاصد الخطاب الشرعي، ويفرقوا بينه وبين مقاصد الأحكام، وأن يبتعدوا عن المعارك الجانبية والكلامية، والتراشق في الإعلام مع أراذل الناس، وأن تكون لهم رؤية استراتيجية للخروج من أزمة الأمة، أو على الأقل رؤية لتصحيح المسار والطريق، وأن تحاول كل التيارات الإسلامية أن تجتمع تحت مظلة واحدة، مع احترام الاختلاف فيما بينهم، وأن يتعاونوا على القضايا الكلية الكبرى، وإن اختلفوا في الفروع الصغرى، وأن يحسنوا القصد، وأن يدركوا مكائد الثعالب التي تحيط بهم من مكان.