يحظى الزواج الإسلامي باهتمام الدارسين الغربيين باعتباره المؤسسة المسئولة عن القمع والقهر المتواصل للنساء المسلمات منذ فجر الإسلام إلى اليوم – من وجهة نظهرهم – وعلى هذا صدرت في السنوات الماضية دراسات نوعية عن الزواج الإسلامي انطلاقا من المنظور النسوي، وضمن هذا السياق صدر كتاب (الزواج والرق في الإسلام المبكر: قراءة فقهية نقدية من منظور نسوي) للباحثة الأمريكية كيشيا علي، وصدر مترجما إلى اللغة العربية عن دار روافد للنشر عام 2021، وترجمه عمرو بسيوني ونهى دياب. 

ومؤلفة الكتاب كيشيا علي باحثة نسوية معروفة وناشطة ضمن تيار النسوية الإسلامية في الولايات المتحدة، وتلاقي كتاباتها تقديرا واحتراما في الأوساط الأكاديمية فقد وصفت مجلة الدراسات الإسلامية المقارنة كتابها (الأخلاق النسوية والإسلام: تأملات في القرآن والحديث والفقه) بأنه “مساهمة صعبة” في التاريخ الإسلامي، أما كتابها (الزواج والرق) فاعتبرته مجلة الأكاديمية الأمريكية للدين مسحا دقيقا ومركزا لقانون الزواج في صدر الإسلام، ويضفي على كتاباتها أهمية كونها صادرة عن باحثة اعتنقت الإسلام وأنها تعمل أستاذا للدين بجامعة بوسطن، ولها نشاطات بحثية إذ هي عضو بالأكاديمية الأمريكية للدين، وشغلت منصب رئيس جمعية دراسة الأخلاق الإسلامية [1].

الفرضيات والمنطلقات

يحلل كتاب الزواج والرق النصوص الفقهية التأسيسية المتعلقة بالزواج لدى مؤسسي المذاهب الإسلامية حيث يتناول أعمال الإمام مالك بن أنس، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام محمد بن الحسن الشيباني، لكنه استبعد أعمال الإمام أحمد بن حنبل بحجة أنها نأت عن الجدل الذي جرى بين المذاهب الثلاثة والذي تم فيه استخدام القياس على نطاق واسع، ولا تجد المؤلفة ما يدعم حجتها سوى الاستعانة بنصين أجنبيين يفيدان أن” القياس كان موضع تشكك شديد عند ابن حنبل وأصحابه الأوائل”، وأن الإمام عارض تدريس الفقه بعيدا عن الأحاديث، وانتقد ممارسات العقلانيين -من الأحناف والشافعية والمالكية، بل امتد انتقاده إلى الأسس التي تطور على هداها الفقه الإسلامي[2].

وتفترض مؤلفة الكتاب أن الفقهاء الأوائل تأثروا في صياغة شروط الزواج وأركانه وأحكامه بكل من عمليات البيع والشراء ضمن فقه المعاملات من جهة، والرق من جهة ثانية، وأنه جرت عملية مقايسة للزواج على كل البيوع والعبودية، وتوضح هذا بقولها “لقد التزم الفقهاء المسلمون الأوائل بنظرتهم المحورية للزواج، باعتباره صفقة نقلت إلى الزوج .. نوعا من السيطرة أو السلطة أو الهيمنة (تشبه الملك)، تشبه سيطرة السيد على أمته، إن هذا النوع من الهيمنة عليها هو الذي يجعل الجماع بينهما شرعيا، إن العلاقة بين الملك والعلاقة الجنسية المشروعة هي محور جميع الأحكام المنظمة للزواج والطلاق وبغيابها تظهر عقوبة الجنس غير المشروع[3].

وهي تمضي لأبعد من ذلك مفترضة أنه إذا كان يحق للرجل أن يتمتع بإمائه بموجب الملكية فقد حرم الفقهاء النساء من حقهن في ذلك، وتستشهد بحادثتين في الحقبة المبكرة  جاء ذكرهما في مصنف عبد الرازق، الأولى لامرأة تسرت بغلامها ظنا منها أن القرآن أباح ذلك، ونهرها عمر بن الخطاب والفقهاء لأنها “تأولت كتاب الله على غير تأويله”، والثانية وقعت في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز وبررت المرأة صنيعها بالقول “إنما أنا بمنزلة الرجل” فرد عمر قائلا : “أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك”[4].

والحق أن المسألة لم تطرح في النصوص التأسيسية للمذاهب، باعتراف الباحثة نفسها إلا أنها عثرت على إشارة وحيدة في كتاب (الأم) للإمام الشافعي، ويظهر أنها كانت في صيغة سؤال عن دواعي منع النساء من التسري بعبيدهن، فأجاب الإمام “إن الرجل هو الناكح المتسري والمرأة هي المنكوحة المتسراة، فلا يجوز أن يقاس بالشيء خلافه”.

ويبدو أن استخدام الإمام للقياس في المثال السابق جعل الباحثة تفترض أنه الأداة الرئيسة التي وظفها الفقهاء لتسويغ الربط بين الزواج وبين الرق وتمديد الأحكام بينهما، ولأجل هذا حاولت من خلال فصول كتابها دحض وتفكيك المنظور الفقهي المتعلق بالزواج، ووصم الفقه الإسلامي بالذكورية.

 بنية الكتاب ومحتواه

يقع الكتاب في مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، يناقش الفصل الأول (إجراء عقد الزواج) الإجراءات المتبعة في عقد الزواج وما يسبقه من موافقة المرأة (القبول)، والصداق، والشخصية القانونية لطرفي العقد، وهو يحلل طبيعة العقد وهل يحق للنساء إجراء العقد من خلال النظر في الآراء الفقهية المختلفة بشأن الشخصية القانونية للمرأة، وهو يسعى من وراء هذا كله إلى إيجاد صلة وتشابه بين عقد الزواج وشراء العبيد.

ويعالج الفصل الثاني (علاقات النفقة) الحقوق المتبادلة التي يؤسسها عقد الزواج، وفي صدارتها الحقوق الجنسية، مبينا أن ثمة اختلافا لاختلاف الجنس، فالرجل يسمح له بتمديد علاقاته الجنسية خارج إطار الزواج أما المرأة فلا يسمح لها بذلك، ويمتد التمييز الحقوقي بينهما إلى مجالات أخرى فالرجل يسمح له بتحديد مقر مسكن الزوجية، ويحق له التحكم في تحركات زوجته وتقييدها، ولا يحق لها ذلك، ويدرس الفصل  أيضا زواج الأمة والتغييرات التي يحدثها في علاقتها بسيدها، وهذه المسألة ضرورية حتى تستطيع الباحثة ادعاء التشابه بين الزواج والرق.

وينتقل الفصل الثالث (حق المبيت) من مسألة حقوق الزوج الجنسية إلى مسألة حق الزوجة في الرفقة أو (القسم) في الاصطلاح الفقهي، فيتتبع حقوق الزوجات في المعاشرة وعلى الأخص الزوجة البكر، ويوضح طبيعة القسم بين الزوجات والسراري، والتمييز القاطع بين حقوق الزوج وحقوق الزوجة في ذلك، إذ يذهب بعض الفقهاء أنه يكفيها معاشرة واحدة طيلة الزواج مهما طالت مدته.

ويدرس الفصل الرابع (حل العقدة) الأساليب المختلفة للانفصال بين الزوجين من طلاق وخلع مقابل عوض مادي، مبينا مدى التشابه بين الزواج والمعاملات المالية، وهو يركز بوجه خاص على حق الزوج منفردا في إيقاع الطلاق، ويقيسه على العتق، زاعما أن اهتمام الفقهاء بتكريس حق الزوج الانفرادي في الطلاق يدحض فكرة التكافؤ في العلاقة الزوجية.

ويتناول الفصل الخامس (الزواج والسيادة) أوجه المقارنة بين الزواج والرق كشكلين للملك، وفي سبيل ذلك يدرس ثلاث مسائل: الإجراءات المتبعة في زواج العبيد والإماء، ومؤسسة التسري بالإماء لأجل توضيح حقوق الزوجات وحقوق العبد الذكر الجنسية، كما يعود إلى مسألة تسرى مالكات العبيد بعبيدهن التي أثيرت في المقدمة، ليؤكد على فكرة هيمنة الرجل الحصرية على الجانب الجنسي للمرأة كأساس لمشروعية الجنس في كل من الزواج والرق.

وتخلص كيشيا علي من هذا كله إلى أن القياس كان هو الأداة المركزية بيد الفقهاء التي مكنتهم من الوصل بين مؤسسة الزواج ومؤسسة العبودية، وقد خلقت الأقيسة المتواصلة صنفين فقهيين هما الزوجات والإماء، إن الزواج وشراء الأمة يحدثان إما بدفع مهر أو ثمن لإضفاء الشرعية على المعاشرة، وتسريح الزوجة بالطلاق يوازي عتق الأمة، ففي الحالتين ينتهي الملك وبالتالي تصبح المعاشرة غير شرعية[5].

ملاحظات وتعليقات ختامية

كما يبدو يمثل الكتاب حالة مثلى من حالات تعاطي الدراسات النسوية مع الفقه الإسلامي، من حيث الانطلاق من فكرة ذكورية الفقه، وتحامل الفقهاء على النساء واستعبادهن من خلال مؤسسة الزواج، والإفراط في التركيز على الأبعاد الحسية للزواج، وما إلى ذلك من مسائل لا تنفك جميع الدراسات النسوية عن تكرارها دون اختلافات تقريبا، إلا أن هذا لا يمنع من ذكر بعض الملاحظات المنهجية على الكتاب.

وأولها، يتعلق بقدرة الباحثات الغربيات على فهم واستيعاب النصوص الشرعية على وجهها الصحيح، وهي نصوص مركبة ومعقدة يتداخل فيها النص الأصلي مع الحاشية وأحيانا التعليق، وسنكتفي بمثال واحد يبين عدم قدرتها على التمييز بين النص والشرح ورد في سياق حديثها عن كتاب النفقات للخصاف حيث استشهدت بنص لشارح الكتاب الصدر الشهيد ونسبته للخصاف[6].

وثانيها، يتعلق بالحجج التي تؤيد بها افتراضاتها، إذ يخيل لنا أنها لا تقدم أدلة قوية تدعم بها هذه الافتراضات، ومن ذلك ما ساقته في تبرير استبعاد دراسة نصوص الإمام ابن حنبل، إذ لجأت إلى نصين موجزين لباحثين غربيين واتخذت منهما مبررا لاستبعاده من الدراسة وعدم التطرق لها، وهذا الاستبعاد كان بحاجة إلى براهين وأدلة قوية لتفسر لماذا تم الاستبعاد الذي ترتب عليه أن يقتصر الكتاب على دراسة ثلاثة مذاهب دون الرابع.

وثالثها، يتعلق بالتعامل المتوازن مع أعمال الفقهاء الثلاثة التي أشارت إليهم، فكما لاحظنا ركزت الباحثة بشكل خاص على أعمال الإمام الشافعي، وجاءت أعمال الشيباني ومالك بصورة أقل كثيرا، ولهذا ما يبرره ذلك أن لها كتابا سابق تناولت فيه حياة وأعمال الإمام الشافعي، وهو ما أفادت منه في كتابها هذا.

ورابعها، يتعلق بالمقارنات التي تعقدها الباحثة من آن لآخر بين الفقه الإسلامي والشريعة اليهودية، والتي ليس لها أي مبرر معرفي بل يمكن اعتبارها خروجا عن موضوع البحث القائم على مقارنة أقوال مؤسسي المذاهب وإثبات اختلافهم في النظر إلى الالتزامات والحقوق الزوجية، فما هي دواعي إقحام الشريعة اليهودية سوى إثبات أفضليتها وتفوقها على الفقه الإسلامي، ومن الأمثلة على ذلك زعمها أن القانون اليهودي يُعرف الالتزامات الزوجية بما فيها الجنس بأنها حق الزوجة في المقام الأول، على حين يعتبرها الفقه الإسلامي حق الزوج على زوجته[7].


[1] https://www.keciaali.com/aboutme

[2] كيشيا علي، الزواج والرق في الإسلام المبكر قراءة فقهية نقدية من منظور نسوي، ت: عمرو بسيوني ونهى دياب، بيروت: دار روافد، 2021، ص 70.

[3] الزواج والرق، ص 62.

[4] نفس المرجع السابق، ص64-65.

[5] نفس المرجع السابق، ص 260.

[6] المرجع السابق، 137.

[7] المرجع السابق ص 198.