هذا ما ابتلي به الوحي الثاني في زماننا : قوم من المسلمين الذين يعبدون عقولهم بدل عبادة الله يُعملون معول الهدم في السنة بدعاوى أبعد ما تكون عن العلم وعن حسن النية ، قصدُهم سيء ،يهدفون إلى مسخ الاسلام والتمهيد للطعن في القرآن بعد الإجهاز ” العلمي ” على السنة.

هؤلاء لا يفعلون أكثر من ترديد دعاوى المستشرقين القديمة وحجج خصوم الإسلام من علمانيين و” تنويريين ” وأدعياء يسمّون أنفسهم ” قرآنيين ” وأصحاب التشيّع المتستّر.

البداية بصحيح البخاري ، يشنون عليه حملة شعواء وكأنه هو من تسبّب في تأخّر المسلمين وأفسد دينهم ، انبرى لها أشقى القوم من كُتاب وإعلاميين لا علاقة لهم بالعلوم الشرعية وخاصة علم الحديث ، يغيظهم وصف المسلمين له بأنه أصحّ كاتب بعد القرآن الكريم ، والمقصود واضح : هي الخطوة الأولى في هدم صرح السنة المطهّرة، إذا نُحّي صحيح البخاري سقطت كتب الحديث الأخرى من باب أولى ، البخاري هو الرمز لذلك بدؤوا به ، ولستُ بصدد مناقشة حُججهم فهي تلاعبُ مفترين يردّدون شبهات ويبصرون تناقضات ردّ عليها العلماء المتخصّصون منذ قرون وما زالوا.

إنها ليست مسألة علمية تُناقش بل هي حملة عدائية مغرضة تليها نتيجةٌ حتمية هي إنكار السنة النبوية بدعاوى مضحكة حيث اكتشف هؤلاء المتأخرون ما فات الأمةَ كلها طيلة 15 قرنا ، ووصلت بهم ” غيرتهم ” على الدين حدّ الزعم أن كل ما يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قول وفعل هو افتراء اختلقه الفقهاء والسياسيون ، وما دور هؤلاء ” المجددين ” سوى تنقية الإسلام من هذه الشوائب !!! يقولون هذا وأكثرهم لا التزام له بأحكام الدين في قليل ولا كثير حتى إن أكثرهم لا يُصلّون…لماذا يثيرون هذه القضية إذًا بل ويشنون هذه الحرب ؟ إنها المقدمة اللازمة لإفراغ الإسلام من محتواه الرباني وإهالة التراب على أحكامه ، فالسنة – وهي الوحي الثاني – هي التي تفصل ما أجمله القرآن ، تفسّر المُحكم وتُجلّي المتشابه ، هي الدليل العملي للمسلم.

إنكارُها هو حرمان المسلمين من هذا الدليل ومن افتقد الدليل تاه وضلّ ، هذه بغيتُهم ،يزعمون أن القرآن هو وحده الوحي وهو كافٍ للمسلم ، وهم يعملون أن الكتاب الكريم ليس فيه تفاصيل كيفية العبادات من صلاة وصيام وحجّ و زكاة ونحوها و لم يتطرّق إلى تفاصيل الحلال والحرام والحياة الأسرية والاجتماعية إنما حوى في الغالب القواعد الكبرى والخطوط الأساسية للدين وجاءت السنة ففصلت واستقلت بالتشريع في بعض المسائل لأنها وحي من الله لرسوله.

باستبعادهم السنة يصبح القرآن عجينة طرية بأيديهم يصنعون منها ما يشاؤون أي يطوّعونه لأهوائهم كما يفعل أحد أكبر رموزهم المدعو محمد شحرور الذي يروّج إسلاما لا علاقة له بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، يفعل ذلك بعد أن استبعد السنة النبوية وادعى التجديد والاجتهاد ، وليس بعيدا عنه ما يفعله زعيم ” القرآنيين ” أحمد صبحي منصور.

لو كان لهؤلاء قصدٌ حسن ونية صادقة في البحث والتمحيص لأتوا البيوت من أبوابها ولطرحوا شبهاتهم و أسألتهم عل المُحدّثين ليحصل نقاش علمي لكنهم أضعف من مواجهة العلماء بسبب سوء قصدهم وفساد نيتهم ، وأنا أعرف كل هذا من الداخل فأنا – بفضل الله – من طلبة علم الحديث منذ شبابي، لديّ اطلاع واسع على مسائله رغم قلّة بضاعتي بالمقارنة للجهابذة ، والأهواء لا تُناقش في حلبة العلماء، ولولا الهوى لاستحوْا من اتهام الأمة بأكملها بجهل مطبق عاشت فيه قرونا متطاولة حتى جاء هؤلاء الهواة الدخلاء في آخر الزمان ليبصّروها بحقيقة دينها .

تابعتُ صفحة أحدهم فألفيتُها منشورات يومية متتالية هي – حصرا –  استهزاء بالأحاديث النبوية وتهكّم بالبخاري ومسلم لما فيهما – حسب زعمه – من تناقضات يرفضها عقله !!! فهو لإذًا أعلم من مئات الألوف من العلماء في الدنيا عبر القرون كلها الذين أفنوا أعمارهم في دراسة القرآن والحديث ، لم تفتهم شاردة ولا واردة… يقع في هذه الطامة وبراءة الأطفال في عينيه.

هذه خطّتهم : الطعن في البخاري يؤدي إلى التشكيك في السنة برمّتها ثم يأتي دور القرآن ليجدوا تناقضا بين آياته وما لا تستسيغه عقولهم ” المتنوّرة” فيأتي الأمر باطّراحه ويبقى الإسلام بلا مرجعية …أي يزول الإسلام ، وتلك هي الغاية التي يسعون لتحقيقها.

إلى جانب هؤلاء هناك من يتعصّب للسنة فيسيء إليها، ومشكلتُه ليست في النية ولكن في الفهم.

يستهدف ” التنويريون ” وأشياعهم من عقلانيين وقرآنيين هدم صرح الإسلام بإعمال معاول الهدم في مصدره الثاني بعد القرآن الكريم ، لكن هناك صنف آخر يسيء إلى السنة النبوية إساءة واضحة من حيث مبالغته في التمسّك بها والجمود عليها ، يتمثّل فيمن يسمون أنفسهم سلفيين ، يُعلون من شأن السنة أكثر من القرآن ، ولئن كان قصدهم حسنا فقد أوتوا من جانب الفهم ، فهم حين يتناولون الأحاديث النبوية ” يخرّون عليها صمّا وعميانا ” ، جنتْ عليهم الحرفية والظاهرية والجمود ، لا علم لهم بأصول الفقه ولا مقاصد الشريعة ، لخّصوا السنة في الحرص على الجزئيات و الأشكال ، يرفضون التفصيل الذي انتهى إليه العلماء المختصون الذين يفرقون بين الأصول والفروع والكليات والجزئيات ، بين سنة تشريعية وغير تشريعية ، بين تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم كنبيّ يبلّغ الوحي وكقائد له اجتهاداته الظرفية وكقاض يحتكم إلى الأدلة وكإنسان له مشاعره وأذواقه… السنة عندهم  ” هي الإسلام ” وانتهى الأمر، لا يفهمون أن السنة هي منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الله تعالى ومع الناس في جميع المجالات والظروف ، تبيّن لنا كيف نعبد الله وكيف تكون علاقاتنا بأفراد الأسرة والجيران والمسلمين وغير المسلمين ، في مجال النشاط الدعوي والسياسي والمالي والاجتماعي …هي الدليل العملي للمسلم في حياته الدينية والاجتماعية على جميع المستويات مهما تغيّر الزمان والمكان والحال، لكن قلّة البضاعة العلمية جعلتهم يخطئون على ثلاثة أصعدة:

– على صعيد المرجعية قدّموا – عمليا – السنة على القرآن أو على الأقلّ ساووا بينهما ، وهذا ما لم يقل به أصولي ولا فقيه ولا اختلفت فيه الأمة أبدا ، من أجل هذا ضعّفوا حديث معاذ بن جبل الشهير الذي فيه ترتيب للمرجعية: القرآن ثم السنة ثم الاجتهاد ، ومن الطرائف أني سألت مرة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله – وهم من كبار علماء الحديث في الشام – عن درجة هذا الحديث فقال لي ” هو صحيح ضعّفه الضعفاء .

– على صعيد مراتب الأحكام ألغوا هذه المراتب الذي أجمع عليها المسلمون ولخصوها في الفرض والحرام ، فكلّ أمر نبوي هو فرض وكل نهي هو حرام ، فاخترعوا فرائض جديدة ( كاللحية وجلسة الاستراحة وتقصير الثوب) وكبائر جديدة ( كالتصوير والموسيقى واستخدام العقل) ، وأنا اقترح على القراء أن يرجعوا إلى واحد من أشهر كتب الحديث “رياض الصالحين” ليروا كيف يفصّل الإمام النووي ويقول بالاستحباب مع الفرض والمكروه مع المحرم وهكذا.

– على صعيد التعميم حيث يتكئون على حديث أو حديثين في موضوع ما فيرتّبون عليه أحكاما غاية في الشدة والخطورة و يُهملون عشرات الأحاديث الأخرى في نفس الموضوع كان ينبغي جمعها وقراءتها قراءة موضوعية أصولية عميقة كما يفعل الراسخون ، بهذه القراءة التبعيضية المبتورة جاؤوا بطامّات مثل الطاعة العمياء للحاكم الظالم وتحريم الوسائل الجديدة وإنزالها منزلة الغايات والأهداف وإلزام الرجال باللباس العربي ( ويسمّونه لباسا شرعيا).

بسبب ما سبق خالفوا إجماع الأمة في مسائل مصيرية وأفنوا أعمارهم في الفروع المختلف فيها ففرّقوا الجماعات وتمحّضوا للهدم وغفلوا عن قضايا المسلمين الكبرى ، فالسواك عندهم أهمّ من قضية فلسطين ، وزادوا على ذلك بمخالفة الهدي النبوي مخالفة سافرة فجّة بانتهاجهم منهج تكفير المسلمين المخالفين لهم وتبديع العلماء وتفسيق الدعاة وتضليل المصلحين ، مع جنوح غريب لبذاءة اللسان والشتائم والغلظة والعيش على هامش المجتمع المسلم والتعالي عليه ، بالإضافة إلى جرعات قوية من التعصب والجمود وربط الدين بالماضي وحده وأشكاله ووسائله ومعاداة كل جديد مهما كان نافعا.

بهذا جعلوا كثيرا من الناس يتقزّزون من السنة وينفرون من الدين.

علماء الحديث الراسخون موجودون في طول بلاد المسلمين وعرضها، والكتب العميقة متوفرة من تأليف القدامى والمحْدثين لكن هؤلاء الذين احتكروا السنة النبوية يحضَون بتدعيم مالي وإعلامي كبير جدا من مراجعهم ومن جهات تحرّكهم بيّنت الأحداث أنها تضمر الاساءة إلى الإسلام بترويج هذه البضاعة الدينية التي تؤخّر ولا تقدّم وتهدم ولا تبني ، والحلّ إذًا في تحرير السنة وردّها إلى أهلها أصحاب الإخلاص والصواب فهما وشرحا وتطبيقا.