إن نظرة المجتمعات للضعفاء تتسم في بعض الأحيان بالازدراء، والتجافي عنهم، والتكبر عليهم. فهم لا قوة لهم ولا ظهير ولا نصير، فيأكل حقوقهم الأقوياء والأغنياء، ويستغلونهم في ازدياد أموالهم دون مراعاة لأبسط حقوقهم. لكن وضع الضعفاء في الإسلام مختلف تماما، فقد غير الإسلام ونبي الإسلام هذه النظرة تجاه الضعفاء، فأحاطهم بسياج من الرعاية والنصرة، وجعل لهم فضلاً على المجتمع، بل أثبت لهم فضلاً على الأقوياء والجنود الأشداء.

القوي يرتدع عمن يستطيع أن يدافع عن نفسه، والضعفاء ليسوا كذلك، إذ لا يملكون صرفًا ولا نصرًا. ففي أوقات الحروب والأزمات -مثلاً- يكون الضعفاء والمرضى وذوو الإعاقات والحاجات عالة وعبئًا على الجنود والجيوش، لكن النظرة إلى الضعفاء في الإسلام تغيرت عندما أعلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم من قيمتهم، وجعلهم سببًا في النصر الذي قد ينزل على المؤمنين.

فقد رأى الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص أنه أفضل من غيره بشجاعته وغناه، فأراد رسول الله أن يلفت انتباهه، ويحثه على التواضع وخفض الجناح، فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ([1]) قَالَ: رَأَى سَعْدٌ أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ؟([2]).

وإذا سردنا الأحاديث التي كانت حول نفس المعنى اتضح لنا أمر في غاية الأهمية، وهو أن رسول الله جعل دعاء الضعفاء وإخلاصهم يتساوى في نكاية الأعداء مع من ضربهم بالسيف ورماهم بالنبل.

فقد أخرج النسائي([3]) عن مصعب بن سعد، عن أبيه أنه ظنّ أن له فضلاً على من دونه من أصحاب النبي فقال نبي الله له: “إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم([4]).

فهؤلاء الذين هم في بيوتهم وفي مساجدهم يبتهلون إلى الله بإخلاص ينظر الله إليهم، ويُنزل النصر على إخوانهم بجبهات الشرف والشهادة كرامة لهم.

وأخرج -أيضًا- عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله يقول: “ابغوني الضعفاء؛ فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم([5]).

ولم يقتصر الأمر على النصر في أرض الجهاد؛ فالحروب في أعمار الأمم لا تكون دائمة، بل هي وقتية، بل تعدت بركة الضعفاء إلى المعاش اليومي للناس، فالضعيف قد لا يستطيع أن يكفل نفسه، أو يسعى على رزقه، فيكون الرزق على الساعي عليهم واسعًا ببركة هؤلاء الضعفة.

وقد أخرج ابن مردويه([6])، عن ابن عباس، أن رسول الله بعث سرية فمكث ضعفاء الناس في العسكر، فأصاب أهل السرية غنائم، فقسمها رسول الله بينهم كلهم.

فقال أهل السرية: يقاسمنا هؤلاء الضعفاء وكانوا في العسكر لم يشخصوا معنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟“. فأنزل الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ([7]).

وإذا كان الله -تعالى- أشركهم في أحقية النصر بتضرعهم ودعائهم وللجنود بسيوفهم وقوتهم، فإنه أشركهم كذلك في اقتسام الغنائم مع الجنود، وجعل رسول الله لهم حقًّا.

وقد أخرج أحمد في مسنده أن سعد بن مالك([8]) t قال: قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم أيكون سهمه وسهم غيره سواء؟

قال: “ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟([9]).

فهو رأى فضلاً على الضعفاء بأنه يحميهم ويدافع عنهم، فصوّب له رسول الله r رؤيته، وذكر له أن من معينات النصر وأسبابه وجود هؤلاء الضعفاء، وليس الحكم الفصل هو قوته وسلاحه.

وقد قيل: إن الضعفاء أشد إخلاصًا في الدعاء وأكثر خشوعًا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا، وصفاء ضمائرهم مما يقطعهم عن الله، فجعلوا همهم واحدًا؛ فزكت أعمالهم، وأجيب دعاؤهم.

وقال الحافظ المهلب([10]): أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حض سعد على التواضع، ونفي الزهو على غيره، وترك احتقار المسلم في كل حالة.

وفيه من الفقه: أن من زها على ما هو دونه أنه ينبغي أن يبين من فضله ما يحدث له في نفس المزهو مقدارًا أو فضلاً؛ حتى لا يحتقر أحدًا من المسلمين؛ فإن الرسول أبان من حال الضعفاء ما ليس لأهل القوة والغناء، فأخبر أن بدعائهم وصلاتهم وصومهم ينصرون.

ويبدو أن سعد بن أبي وقاص أراد بِالْفَضْلِ: الزِّيَادَةِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ سِهَامَ الْقَاتِلَةِ سَوَاءٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَوِيّ يَتَرَجَّحُ بِفَضْلِ شَجَاعَتِهِ، فَإِنَّ الضَّعِيفَ يَتَرَجَّحُ بِفَضْلِ دُعَائِهِ وَإِخْلاصِهِ([11]).

فبذلك علمنا النبي الكريم أن الضعفاء كنز وليسوا عالة، وهذه النظرة تجعل المجتمع في حالة تلاحم دائم؛ ينصر قويه ضعيفه، ويدعو ضعيفه لقويه.

والقوي لا يبقى قويًّا دائمًا؛ فستأتي عليه أوقات يفقد فيها قوته، ويحتاج إلى من ينصره ويدفع عنه ويعيله.

وتعاليم النبي الكريم كثيرة وهي خير كلها، نافعة كلها، نافعة للأمة في مجموعها، وللمجتمعات على اختلافاتها، وللأفراد على حداتهم.

نافعة في الدنيا والآخرة. وتعاليمه كلها مداخل للجنة، فليختر المرء من أيها يحب أن يدخل.


([1]) “مصعب بن سعد بن أبي وقاص: كان يقيم بالعراق مدة، وبالمدينة زمانًا، إلا أنه في عداد المدنيين، أبو زرارة مات سنة ثلاث ومائة” [مشاهير علماء الأمصار، ص(113)].

([2]) أخرجه البخاري في “الجهاد”، باب: “مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ…”، ح(2896).

([3]) “النسائي [215-303هـ = 830-915م]: أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي: صاحب السنن، القاضي الحافظ، شيخ الإسلام.

أصله من نسا (بخراسان) وجال في البلاد واستوطن مصر، فحسده مشايخها، فخرج إلى الرملة (بفلسطين) فسئل عن فضائل معاوية، فأمسك عنه، فضربوه في الجامع، وأخرج عليلاً، فمات.

ودفن ببيت المقدس، وقيل: خرج حاجًّا فمات بمكة.

له (السنن الكبرى) في الحديث، و(المجتبى) وهو السنن الصغرى، من الكتب الستة في الحديث.

وله (الضعفاء والمتروكون) في رجال الحديث، و(خصائص علي)، و(مسند علي)، و(مسند مالك) وغير ذلك” [الأعلام، (1/171)].

([4]) أخرجه النسائي في “السنن الكبرى”، ح(4387)، وصححه الألباني في “صحيح سنن النسائي”، ح(3178).

([5]) أخرجه النسائي في “السنن الكبرى”، ح(4388)، وصححه الألباني في “صحيح سنن النسائي”، ح(3179).

([6]) “ابن مردويه [323-410هـ = 935-1019م]: أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني، أبو بكر، ويقال له: ابن مردويه الكبير: حافظ مؤرخ مفسر، من أهل أصبهان.

له كتاب (التاريخ)، وكتاب في (تفسير القرآن)، و(مسند)، و(مستخرج) في الحديث، وله (أمالٍ)” [الأعلام، (1/261) باختصار].

([7]) الدر المنثور، (4/6-7).

([8]) أي: سعد بن أبي وقاص.

([9]) أخرجه أحمد في مسنده، ح(1493)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه”.

([10]) “أبو القاسم المهلب بن أحمد بن أسيد بن أبي صفرة التميمي: سكن المرية، من أهل العلم الراسخين فيه. المتفننين في الفقه والحديث والعبارة، والنظر، سمع من شيوخ الأندلس، ورحل فسمع بالقيروان ومصر من جماعة. وولي القضاء بمالقة، وبأبي القاسم حيا كتاب البخاري بالأندلس؛ لأنه قرئ عليه تفقهًا أيام حياته، وشرحه واختصره، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين [433هـ]، أو نحو ذلك” [ترتيب المدارك، (8/35-36) باختصار].

([11]) انظر: شرح ابن بطال، (5/90-91)، وفتح الباري، (6/89).