يأمرون وينهون

تقع وظيفة الضمير المجتمعي في القرآن بين فعلين رئيسين هما: (يأمرون، وينهون)، والأول يقصد به التوجه: نحو فعل المعروف الذي هو مبدأ كل خير يعود على الجماعة ومن ثم على الفرد داخل المجتمع، بما يسهم في تشييد مقومات البناء الإيجابي، والثاني: (النهي) ويقصد به الدعوة إلى منع كل شر يعود أثره على الجماعة ومن ثم على الفرد، وبالتالي يكون عائقًا لكل حركة وكل نشاط في المجتمع نحو البناء والتشييد. بل ربما نحو وجود المجتمع نفسه واستمراره حسب خطورة هذا المنكر/ الشر ومساحته وامتداداته.

والتحليل اللفظي يبين لنا ماهية “المعروف” وماهية “المنكر” في إطارهما العام، فالمعروف: “اسم لكل فعل يعرف حسنه بالعقل أو الشرع”[1]، و “المنكر” كل ما تحكم العقول الصحيحة بقبحه: أو يقبحه الشرع أو يحرمه أو يكرهه”[2]* فالمعروف اسم جامع لكل ما ينبغي فعله من الخير، والمنكر اسم جامع لكل ما ينبغي تركه من الإثم أو المعصية أو غير ذلك مما يؤدي إليهما.

وقد وردت ألفاظ (النهي، والأمر) مرتبطتين في القرآن (8) مرات في الآيات على الترتيب: آل عمران [104]، [آل عمران 110]، [آل عمران : 114]، [الأعراف: 157]، [التوبة : 71]، [التوبة : 112]، [الحج : 41]، [لقمان : 17].

وجاءت الآية الأولى تبين أن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بها فئة أو طائفة من المؤمنين {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، أما الآيات الثانية والثالثة والخامسة والسابعة على التوالي فجاءت توضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما من وظائف وصفات الجماعة المؤمنة على أساس أن الخطاب لجميع المكلفين { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ، والآيات: السادسة والثامنة للفرد المؤمن {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ }. أما الآية الرابعة فجاءت تبين وظيفة النبي في الجماعة المؤمنة وهي أمرهم بالمعروف { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}.

وجاء الارتباط الوحيد المخالف للمعنى والمبنى في سورة [التوبة : 67] {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} كوظائف وصفات للمنافقين.

وقد جاءت الرؤية النبوية تؤكد هدفية هذا المبدأ – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – وتؤيد اتجاهه نحو إنقاذ المجتمع من المفاسد علي إطلاقها نظرًا للأخطار التي تنتظر الجماعة جراء تعطيل هذه الفريضة ومنها حدوث الاضطرابات الاجتماعية، والشعور بالغبن، وقدوة المنكر، قال صلي الله عليه وسلم: “مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا علي سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا علي من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا علي أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً”.[3]

كما أوضحت السنن التاريخية، أن من يمارس هذه الفريضة حتى لو لم يكن على إيمان بدين أو عقيدة يتمتع بثمارها ونتائجها من تقدم علمي وفكري وزيادة في الإنتاج والتقنية العلمية، وذلك لأن “حركة” إزالة المنكر ووضع المعروف بدلًا منه إنما يرتقي بجميع جوانب المجتمع النفسية والفكرية والعلمية، حيث يتم استبدال: “الاستبداد بالحرية”، و “الفساد بالصلاح”، و “الظلم بالعدل”.. وهكذا فيزيد ذلك من الطاقات العاملة المخلصة لخدمة الوطن والمجتمع في ضوء ممارسة فعلية وسليمة لهذا المبدأ الذي يُفعل بحركة الضمير المجتمعي والذي ينشط في لحظة ما لأداء دوره وواجبه التاريخي والحضاري.

إن التأمل العابر لقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – كتعبير عن الضمير الجمعي في القرآن والسنة- نخلص من خلاله بعدة ملاحظات منها:

1 – أن مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كان واجبًا على الأمم السابقة أي أنه من أصول الشرع التي لم تُنسخ في شريعة الإسلام.

2 – إن فرض هذا المبدأ إنما جاء بهدف مواجهة “الفساد” و “الانحراف الذي يضر الصالح العام أو “المجتمع.

3 – أن هذا الفرض جاء -أيضًا- من أجل إحداث تغيير اجتماعي تربوي في نفسية الإنسان وسلوكه.

4 – أن المنوط بهذا الفرض هو المجتمع كله، على أساس عموم الخطاب للمؤمنين.

5 – إن التقاعس عن القيام بتطبيق هذا المبدأ من شأنه أن “يشيع” الانحراف والفساد في جنبات المجتمع.

والمجتمع الإنساني يتقلب في حالاته وفقًا لسُنة التدافع التي تحفظ الجماعة البشرية من الهلاك التام، والضمير الجمعي يكون على متصل النقيض لكل ما من شأنه أن يدفع المجتمع نحو الهاوية والهلاك. ومن ثم فإن وظيفة الضمير المجتمعي كما يبين القرآن في ضوء مبدئية الولاية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي: مواجهة عوامل الهلاك: أفكار، أشخاص، أحداث، بيان الحقائق التي يحتاج إليها المجتمع لضمان البقاء والنماء والأداء.

عطالة الضمير المجتمعي

ينبه القرآن في تسجيل لحادثة تعطيل الضمير الجمعي وتعطيل وظائفه بين هذين الفعلين (الأمر والنهي) الاجتماعي على أنه من عوامل هلاك الأمم وفيها يقول تعالي {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُون، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة : 78 – 79].

تبرز هذه الحادثة تحول الضمير الجمعي إلى مصدر (للمنكر) فاستحق الجميع العقاب والهلاك والتيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم ببعض[4].

وفي تسجيل آخر للقرآن، يوضح أن من يقوم بهذه الوظيفة (الضمير المجتمعي) بشروطها وأدائها، يتجنب الهلاك أو سوء العاقبة التي تعود الفاسدين الذين يسعون إلى تخريب عمران المجتمع والمسالمين لهم غير فاعلي الأمر والنهي المذكورين: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }[الأعراف: 164 – 165]. وهذه النجاة لا شك في الدنيا وفي الآخرة.

والخبرة الاجتماعية تؤكد عِظَمَ وخطورة ما يصيب الضمير الجمعي من أمراض وآفات وتعطل لأن ذلك خطورته لا تمس فرد أو جماعة أو فئة أو طائفة من المجتمع؛ بل تمس المجتمع كله وتعرضه لخطر الانهيار، والفئات والسقوط المزري في القاع الحضاري للبشرية.

 


[1]  مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، جـ2، مرجع سابق، ص: 595.

[2]  المرجع السابق، ص: 953.

*  انظر- أيضاً – ابن منظور، لسان العرب، جـ9 مادة (عرف)، جـ14، مادة (نكر).

[3] البخارى: كتاب الشركة ، جـ5، مرجع سابق، حديث رقم (2493) .

[4] رواه أبو داود والترمذي.