في خضم المأساة الإنسانية التي يعيشها أهلنا في غزة، تحت وطأة الحصار الخانق، ومع اقتراب عيد الأضحى المبارك، تبرز شعيرة الأضحية في أذهان المسلمين، ويتم تداول تساؤل: هل يمكن العدول عن الأضحية إلى التبرع لأهل غزة بثمنها؟ وهل يعد هذا تعطيلا للشعيرة أم لا؟
إن النظر الفقهي المتعجل يرى الاجتهاد في هذه المسألة مندرجا تحت (حكم ترك الأضحية والتبرع بثمنها)، والأمر عند التدقيق ليس بذلك، فالتبرع بثمن الأضحية لا يحل محل الأضحية بأي وضع كان، وذلك أن الأضحية شعيرة ثابتة، وهي مقصودة لذاتها، فلا يحل محلها التبرع بثمنها، ولا أن يشترى لحم فيوزع على الفقراء.
ولكننا أمام مسألة جديدة، وهي: ترك الأضحية والعدول عنها، بمعنى ألا ينوي الإنسان الأضحية، وإنما يعدل إلى التبرع بثمنها أو بأزيد منها أو بأقل منها إلى أهل غزة في هذه المحنة التي يعيشونها. هذا هو تصور المسألة، وذلك أن أولى خطوات الاجتهاد الصحيح هو تصوير المسألة تصويرا صحيحا؛ لأن الخطأ فيه؛ يؤدي إلى الخطأ في الاجتهاد.
وبيان حكم تلك النازلة يوجب الإجابة عن بعض المسائل الجزئية فيها، ثم من مجموع بيان الحكم الشرعي لتلك المسائل الجزئية يتولد لدينا بيان الحكم عن المسألة الكلية.
وذلك على النحو التالي:
حكم الأضحية في الفقه الإسلامي: سنة أم واجب
اختلف الفقهاء في حكم الأضحية، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنها سنة مؤكدة، وذهب الحنفية ومن وافقهم إلى أنها واجبة، وعلى مذهب الأحناف لا يجوز العدول عن الأضحية لأي سبب كان؛ لوجوبها، والواجب يجب الإتيان به، لكنهم شرطوا ذلك بالقدرة على الأضحية، فمن كان قادرا على الأضحية؛ وجبت عليه، ولا يجوز له تركها.
وعلى مقتضى رأي جمهور الفقهاء؛ فإن الأضحية ليست واجبة، ولا إثم على من تركها. ولقد نقل سنيتها كثير من الأئمة في كتبهم، ومنهم ابن حزم – رحمه الله- وغيره- حيث ساق القائلين بسنيتها وأدلتهم، فنقل عن ابن عمر أنه قال: الأضحية سنة. وقال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أن الأضحية واجبة.
والنقل بكونها سنة مؤكدة عن سعيد بن جبير، وعن عطاء، وعن الحسن، وعن طاوس، وعن أبي الشعثاء جابر بن زيد – وروي أيضا عن علقمة، والأسود، ومحمد بن علي بن الحسين .وهو قول سفيان، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي سليمان ، وأبي ثور وابن المنذر، وغيرهم [1].
وصح القول عن ابن عباس، كما قال جمال الدين القاسمي “كما فعل ابن عباس في ترك الأضحية. ا. هـ” [2]”، وهو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود – رضي الله عنهم.
وقال ابن حزم: ” وهذا مما خالف فيه الحنفيون جمهور العلماء[3]”.
أدلة جواز ترك الأضحية عن الصحابة والتابعين
مع تشديد كثير من العلماء في ترك الأضحية، بل القول بتأثيم تاركها، فإننا قد وجدنا آثارا منقولة عن بعض الصحابة والتابعين تدل على تركهم الأضحية في الظروف العادية، وغالب تعليلهم خوفهم من أن يظن الناس أنها واجبة.
ومن تلك الآثار ما يلي:
- ما ورد عن الشعبي عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري قال: لقد رأيت أبا بكر، وعمر وما يضحيان كراهية أن يقتدى بهما.
- وما ورد عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري أنه قال: لقد هممت أن أدع الأضحية وإني لمن أيسركم مخافة أن يحسب الناس أنها حتم واجب.
- وعن سويد بن غفلة قال: قال لي بلال: ما كنت أبالي لو ضحيت بديك، ولأن آخذ ثمن الأضحية فأتصدق به على مسكين مقتر فهو أحب إلي من أن أضحي.
- وعن تميم بن حويص الأزدي قال: ضلت أضحيتي قبل أن أذبحها فسألت ابن عباس؟ فقال: لا يضرك – هذا كله صحيح .
- وعن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه أعطى مولى له درهمين وقال: اشتر بهما لحما ومن لقيك فقل: هذه أضحية ابن عباس.
- وعن الشعبي قال: لأن أتصدق بثلاثة دراهم أحب إلي من أن أضحي[4].
- كما ورد ترخيص الفقهاء في ترك الأضحية للحاج والمسافر، كما نقل ذلك عن الشعبي وغيره.
المفاضلة بين الأضحية والصدقة في الأحوال العادية
ونحن ننقل هنا ما ورد من خلاف في أيهما أفضل الأضحية أم الصدقة من باب بيان جواز العدول عن الأضحية، وإلا فالراجح الذي عليه جماهير الفقهاء أن الأضحية أفضل من الصدقة. وممن ساق الخلاف في أيهما أفضل ابن عرفة المالكي، حيث قال: “وفي كونها أفضل من الصدقة بثمنها روايتا ابن رشد. وفيها: الصدقة بثمنها أحب لمالك منها أو هي أحب؟ [5].
هذه المسائل الثلاثة الجزئية هي أمهات المسألة الأصلية، وكل ما نقل هو في الأحوال العادية، وليس في تلك المحنة التي تمر بها الأمة في غزة وفلسطين..
الترجيح الفقهي: جواز العدول عن الأضحية إلى التبرع لأهل غزة
وإذا كانت الأضحية سنة مؤكدة على ما ذهب إليه جماهير الفقهاء، وأنه قد ثبت عن بعض الصحابة والتابعين وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وبلال وغيرهم أنهم قد تركوا الأضحية، وأنه قد نقل عن بعض فقهاء المالكية التفاضل بين الأضحية والصدقة، فالذي يترجح هو جواز العدول عن الأضحية وتركها، والانشغال بالتبرع لأهل غزة وفلسطين، وبيان ذلك على النحو التالي:
أولاً: العدول عن سنة إلى واجب وليس استبدال الشعيرة
أن العدول عن الأضحية وتركها والانشغال بالنفقة والتبرع لأهل غزة وغيرهم من المناطق المنكوبة من بلاد المسلمين لا يعني أن يكون التبرع بديلا عن الأضحية، أو أنه يحل محلها، بل هو عدول عن سنة مؤكدة إلى واجب.
ثانياً: الأولوية لمن يملك السعة المالية
أن الأولى في حق من كان عنده سعة من المال أن يضحي في بلده، وأن يرسل ثمن أضحية أخرى إلى أهلنا في غزة؛ جمعا لإقامة الشعيرة وغوثا لأهلنا في غزة، أو يقتصر على التوكيل لذبح الأضحية في غزة إن كان ممكنا، ولو كان ثمنها باهظا.
ثالثاً: ارتفاع الخلاف في أولوية الصدقة في نازلة غزة
مع الخلاف الوارد بين الفقهاء في أيهما أولى: الأضحية أم الصدقة، فإن هذا الخلاف يرتفع في مثل حالة أهلنا في غزة، وفي حال صعوبة أو استحالة إرسال الأضحية، فتقدم الصدقة لأهل غزة على الأضحية، وذلك لما يلي:
- أن تقديم الصدقة على الأضحية في الأحوال العامة هو مذهب بعض الصحابة التابعين، كما ورد عن بلال قوله:” ولأن أتصدق بثمنها على يتيم أو مغبر أحب إلي من أن أضحي بها”، وقول الشعبي:” لأن أتصدق بثلاثة دراهم أحب إلي من أن أضحي”، فإذا كان هذا في الأحوال العامة؛ فيكون هذا المذهب آكد في حالات الحروب والكوارث والطوارئ.
- أن الأضحية سنة مؤكدة على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وإغاثة أهلنا في غزة من الجوع الذي يؤدي بهم إلى الهلاك، فتسقط السنة في وجود الواجب؛ بناء على قاعدة تقديم الواجب على السنة عند التعارض، ويؤيدها الحديث القدسي: ” ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه” رواه مسلم.
- أن إرسال ثمن الأضحية لأهل غزة من باب إغاثة الملهوف التي حث النبي ﷺ عليها، وامتدح فاعليها، كما ورد عن أبي موسى، قال: قال النبي ﷺ: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم»( رواه البخاري ومسلم)
- أنه ثبت عن بعض الصحابة كابن عباس- رضي الله عنهما- وغيره ترك الأضحية؛ وصح هذا عن أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما- حتى لا يظن أنها واجبة، فتركها في مثل هذه الحالة أولى [6] ، كما ذكر الشعبي أن الأضحية تترك بعض الحالات، مثل الحاج والمسافر ، وذكر ابن الرفعة أن من حالات ترك الأضحية النسيان أو غيبتها[7] ، وهي اليوم غائبة في فلسطين.
- أن مقصود الأضحية من إشباع البطون الجائعة حاصل في التصدق بثمنها لأهل غزة.
- أنه ينتقل إلى المفضول في حال عدم تحقق الفاضل، ويصبح المفضول فاضلا.
- أن الأضحية شرعت لحكم متعددة، منها: إظهار الفرح والسرور في المجتمع المسلم يوم العيد، والتصدق بثمنها في هذه الحالة فيه إحياء للنفس من الهلاك، ومقصد حفظ النفس مقدم على مقصد إظهار الفرح والسرور اتفاقا، فيكون الانشغال به أولى.
- أن ذبح الأضاحي – في مثل هذه الحالة- إعمال لظاهر النص، وفي التصدق بثمنها لأهلنا في غزة إعمال لمقصد النصوص الواردة في شعيرة الأضحية، وإعمال مقصود النص مقدم على إعمال ظاهر النص، وهو منهج الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام وسلف الأمة جميعا.
- إن كان من مقاصد الأضحية إحياء سنة إبراهيم في فدائه ابنه إسماعيل – عليهما السلام- كما في قوله تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 107]، فإن فداء أهلنا في غزة بإرسال ثمن الأضحية أوجب وأعظم اجرا.
- أن ذبح الأضاحي في بلاد المسلمين أقصى ما فيه إطعام لحم لأناس يعيشون ظروفا عادية، فضلا عن كونه إشباعا زائدا لغير جائع، بينما إرسال ثمنها لأهل غزة إطعام لجائع على مشارف الهلاك.
- لا يظنن مسلم أن ذبح الأضحية في مثل هذا الظرف العصيب أفضل من إرسال ثمنها إلى أهل غزة؛ فالأعمال لا توزن بميزان العاطفة، بل بميزان الشرع، وإرسال ثمن الأضحية لأهل غزة أحب إلى الله من ذبحها.
- أن الحاصل في الواقع قيام جماعة من المسلمين بذبح الأضاحي في بلادهم، وأن كل المسلمين الراغبين في الأضحية لن يرسلوا كلهم ثمنها إلى غزة، فيجمع بين الأمرين، وبهذا ينتفي ترك الأضحية بالكلية، إعمالا للقاعدة:” إقامة السنن من فروض الكفايات”.