﴿‌وَتَفَقَّدَ ‌الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ [النمل: 20]

يدهشك البيان القرآني المحكم في التعبير، فينقلك إلى المشاهد وكأننا بين يدي نبي الله سليمان – عليه السلام- وكأننا نشاهد معه تفقده الطير،  المعبر عن الحدث المغرق في الزمن الماضي بهذه الدقة في التعبير العجيب!

إنه تصوير بالكلمات والصيغ والعبارات ..

تفقد الطير؟

ما غاب عنك؛ فقد فقدته، وما حضر فقد طلبته، يا لدقة التعبير وجمال التصوير! وبصيغة التفعل الدالة على الحرص والقوة في البحث والتمحيص ( تفقَّدَ) إشارة إلى القيادة المسؤولة التي تتفقد رعيتها وتتبع مايدور حولها، طير صغير في مملكة ملك عظيم من إنس وجن وعوالم من المخلوقات!

إنها القيادة اليقظة المتنبهة المتتبعة لكل شؤون رعيتها. وتفقد الطير، أجناسها المتنوعة المختلفة المتعددة!

ولم يحوجه التفقد لزمن طويل بل سارعت الفاء في الإشارة إلى  سرعة الانتباه؛ فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟

بهذه الطريقة الذكية الفطنة في التعبير! وإشاراتها الدقيقة في سمات القيادة الحكيمة  في التفكير.

وفي ذكر الطير هنا بالإفراد،  دون سائر المخلوقات التي جندها الله له، إشارة كاشفة عن تفقده للإنس فلم يجد غائبا، وتفقده الجن كذلك، ثم الطير، بدلالة السباق من السياق في ذكر حشر الجند له، في قوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَیۡمَـٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّیۡرِ فَهُمۡ یُوزَعُونَ) [سورة النمل 17]

على الترتيب المذكور، وهذا من الإيجاز البليغ الذي لانظير له في غير القرآن!

وإنما كان ذلك كذلك لأن البيان المحكم ضرب صفحا عن ذكر ذلك؛ لشد الانتباه إلى موضع العناية من تفقده الطير؛ لاكتشاف غياب الهدهد، ثم تتوالى حبات عقد النظم وتتماسك في سرد الأحداث الجسام، التي ترتبت على ذلك، بهذا السبك البياني العجيب!

فَقَالَ مَا لِیَ لَاۤ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ

وأوجز البيان المحكم البديع كلاما يفهم من السياق، ( فلم ير الهدهد فقال) والبلاغة الإيجاز، والقرآن يعرج بالأفهام ويوجز ما يفهمه الفكر من نظم الكلام، وذلك هو الارتقاء بالعقول والأفكار في تذوق فن القول، ومعجز البيان.

ذلك أنه اختصر من الكلام لحظة دهشة نبي الله سليمان فكان ” مَا لِیَ لَاۤ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ”، وفي الفاء دلالة المسارعة ونباهة الملك وقوة العارضة واليقظة.

وفي دقة النظم ” وَتَفَقَّدَ ٱلطَّیۡرَ”  تقوية للفعل وتسليطه على جنس الطير؛ ليشملهم طيرا طيرا؛ ليجمع بين الدلالة المعجمية وقوة الصياغة الاشتقاقية، للدلالة على قوة التطلب والتفحص وإجالة النظر وتكراره بدقة..

ولما كان التفقد لما غاب وفُقِد؛ ناسب النظم ذكره دون التفحص والتطلب، في هذا المقام.

”  فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ “

والاستفهام البليغ هنا لم يكن عن عدم الرؤية ذاتها، بقدر ما كان منصبا على انتفاء السبب المانع للرؤية؛ فإذا انتفى السبب انتفى الوجود؛ لذلك كان هذا آكد وأبلغ في هذا المقام العجيب!

فكأنه يقول : لا سبب عندي يمنع من رؤية الهدهد من ساتر ونحوه لو كان موجودا!

وفي إثارة السؤال إشراك لمن حضر مقامه المهاب في النظر والإجابة، وكأنهم شهود حال، وهذا آكد للمقال والحال..

ثم جاءت “أم ” المنقطعة في هذا المقال لتقرر ما ترجح لديه من غيابه. بقوله :” أم كان من الغائبين” أي : بل كان من الغائبين.

ولا يفهم من نظم البيان لهذه العبارة أن أفرادا أخرى من الطير ثبت غيابها؛ فهذا مدفوع ؛ لأن هذا من عادات القرآن الأسلوبية في مثل هذا المقام، أنه لا يذكر صاحب الوصف مفردا، وإنما يذكره مندرجا ومشمولا بغيره في الوصف.

من ذلك ما ورد في شأن امرأة العزيز” ( إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔینَ) [سورة يوسف 29]

و في شأن مريم ( وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَـٰنِتِینَ) [سورة التحريم 12]

وفي موضع مخاطبة الهدهد نفسه (أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ) [سورة النمل 27]

فغياب طائر صغير كهذا في مملكة نبي كريم، وملك عظيم، دونما استئذان منه أو إعلام؛ يدرجه في مجموع الموصوفين بالغياب المتمكن منهم والمعيب.