الحديث عن العلاقة بين العلوم الإسلامية واللغة العربية حديث ذو شجون، تتعدّد مساراته وتقاطعاته بتعدّد مجالات العلوم الإسلامية، والناظر في تلك المسارات لا بد أن يكتشف أن هناك حضوراً قوياً مكثفاً للغة العربية في مختلف مجالات العلوم الإسلامية، وهذا الحضور المكثّف يؤكد حاجة العلوم الشرعية الماسَّة إلى اللغة العربية التي نزل القرآن الكريم بها وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بها على مرّ التاريخ.

ورغم أن الكشف عن حاجة العلوم الإسلامية إلى اللغة العربية أمر مهم جداً خاصة في هذا الزمن الذي انتشرت فيه العُجمة، إلا أننا يمكن أن نقول إن المؤلفات حول هذا الموضوع المهم ليست بالكثيرة، مع أن قارئ كتب التراث لا بد أن يقف على مقتطفات ثمينة منشورة في مؤلفات متفرقة، تكشف عن حاجة العلوم الإسلامية إلى اللغة العربية، وتدعو الناس إلى أن ينهلوا من معين اللسان العربي الذي لا ينضب ولا يَبلَى.

ويبدو أن اتساع رقعة العُجمة قد بدأ يدفع بعض الباحثين المعاصرين إلى التأليف للتأكيد على ضرورة تعلم اللغة العربية والكشف عن علاقتها القوية بالعلوم الإسلامية، ولعل من أبرز هؤلاء الباحثين الدكتور حسن يشو الذي قام بتأليف كتاب قيم بعنوان: “حاجة العلوم الشرعية إلى اللغة العربية: دراسة تأصيلية تطبيقية“، استطاع من خلاله أن يؤكد حاجة العلوم الإسلامية المختلفة إلى اللغة العربية، وسنحاول في هذه المقالة أن نقوم بجولة في هذا الكتاب الذي يدعو إلى ضرورة التمسك باللغة العربية وتعلّمها وتعليمها باعتبارها لغة عالمية عصية على الاندثار ومحاولات التغييب.

أصول العلاقة بين العربية والشريعة

قبل الغوص في المجالات التي تؤكد حاجة العلوم الإسلامية إلى اللغة العربية، سنقوم بتسليط الضوء على أصول العلاقة بين العربية والشريعة الإسلامية التي تتمثل في أمور عديدة، أولها أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، وهذا هو أهم أمر يكشف عن حاجة العلوم الإسلامية إلى اللغة العربية، ولعل هذا هو ما دفع الإمام الشاطبي إلى التأكيد على اقتران علميين أساسيين هما: علم اللغة العربية وعلم الشريعة، فقال: “إن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم”.

ولا تقتصر الأصول التي تكشف عن العلاقة القوية بين العربية والشريعة على أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، بل هناك أمور أخرى عديدة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح من نطق بالضاد، وأن اللسان العربي شعار الإسلام وعلم اللغة مرقاة إلى جميع العلوم، وأن اللغة العربية ضرورة لفهم مراد الله وسنة نبيه، قال ابن تيمية: “اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ وجبٌ، فإن فهمَ كتاب الله والسنة فرضٌ، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

حاجة علوم القرآن والسنة إلى اللغة العربية

أولاً، علوم القرآن: ذكرنا في السابق أن القرآن الكريم -الذي يعتبر أول مصدر في الإسلام- نزل بلغة العرب، وهذا يستدعي منا أن نقول هنا إن فهم الكتاب العزيز يحتاج إلى معرفة اللغة العربية، فلا يمكن لأحد أن يفهم الخطاب القرآني بشكل دقيق دون أن يكون على علم باللغة العربية وعلومها، فـ “النحو العربي نشأ لفهم القرآن الكريم وتلقين اللغة العربية لغير الناطقين بها من الأقوام الذين دخلوا في الإسلام”.

ومن هنا، فإن هناك تلازماً قديماً بين علوم القرآن وعلوم اللغة العربية، فقد كتب الفاروق رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري قائلاً: “تعلّموا العربية فإنها من دينكم، وأعربوا القرآنَ فإنه عربي”، وقد جعل ابنُ فارس “العلمَ بلغة العرب واجباً على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا”.

ثم إن علماء الأصول أكدوا على العلاقة القوية بين علوم القرآن واللغة العربية حين قرّروا قاعدة مهمة “وهي أن كل معنى مستنبط من القرآن غير جارٍ على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء”، والسبب في ذلك أن اللغة العربية أحد أوجه تأويل القرآن الكريم والعلم باللغة العربية وأسرارها شرط من شروط التفسير، قال الشاطبي: “من أراد تفهُّم القرآن فمن جهة لسان يُفهم، ولا سبيل إلى تطلّب فهمه من غير هذه الوجهة”.

ولا شك أن المتتبع لمصادر ومراجع علوم القرآن الكريم سيكتشف أنه لم يكتب في علوم القرآن إلا من كانت له قدم راسخة في اللغة العربية، فأحكام القرآن لمحمد بن إدريس الشافعي (ت: 204 هـ)، والحاوي في علوم القرآن لمحمد بن خلف بن المرزبان (ت: 309)، والبرهان في علوم القرآن للزركشي (ت: 794 هـ)، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي (ت: 911 هـ)، وكل هؤلاء لهم باع طويل في اللغة العربية.

ثانياً، علوم السنة: هناك علاقة وطيدة بين السنة النبوية واللغة العربية، ومن السهل اكتشاف أبعاد تلك العلاقة ببساطة جدا، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أفصحُ من نطق بالضاد، وقد أوتي جوامع الكلم، وعنده حطَّت رحالُ البلاغة، ولا شك أن علاقة الحديث النبوي باللغة العربية تبدأ من بلاغة أقواله صلى الله عليه وسلم التي تعد في قمة البيان البشري.

وهكذا فإن علوم السنة النبوية تحتاج إلى اللغة العربية حاجة ماسَّة، فمن آداب طالب الحديث تفادي العُجمة ومراعاة قواعد اللغة العربية بل الإحاطة بها، قال ابنُ عبد البر: “ومما يُستعانُ به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون على كتاب الله، وهو العلم بلسان العرب، ومواقع كلامها، وسعة لغتها، واستعارتها، ومجازها.. إلخ”.

وانطلاقاً من هذه الأرضية، يجوز القول إن طالب الحديث إذا لم يستوعب قواعد اللغة العربية لن يعرف الطريق الصحيح لتحصيل الحديث ولن يفهم علم غريبه، وقد أكد على هذه الحقيقة حَمَّاد بن سلمة حين قال: “مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاةٌ ولا شعير فيها”، وغير بعيد من هذا نجد الدكتور نور الدين عتر يستغرب من محاولة البعض الاجتهاد في الحديث رغم الجهل بعلم اللغة العربية، وحق له أن يستغرب.

حاجة العلوم الفقهية إلى اللغة العربية

أولاً، الفقه الإسلامي: هناك علاقة متينة بين الفقه الإسلامي واللغة العربية، تتمثل في أن الفقه يتوقف على الدراية بأصول اللغة العربية وعلومها، وقد كان العلماء السابقون يفهمون هذا الأمر جيداً، ولهذا فقد عاب ابنُ فارس كلَّ المقصرين في علم اللغة العربية وهم يطلبون العلوم الشرعية، ويبدو أن الإمام محمد بن الحسن الشيباني كان من أوائل من ربط بين مسائل الفقه ومسائل النحو في كتابه “الجامع الكبير” الذي ضمنه مباحث فقهية كثيرة أدارها على أسس نحوية.

ثم إن الناظر في العلاقة بين اللغة العربية والفقه الإسلامي يكتشف أن هناك فتاوى للعلماء تؤكد جنوحهم إلى وجوب تعلم اللغة العربية من أجل فهم الدين وأداء الفرض، يقول الشافعي: “يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فَرْضه”، في حين يقول العلامة الماوردي: “معرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره”.

ولا شك أن المصطلحات الفقهية تكشف لنا عن الصلة المتينة بين اللغة العربية والفقه الإسلامي، وقد ذهب الدكتور تمام حسَّان إلى أن معظم المصطلحات الفقهية الإسلامية في مجال العبادات محوّل عن معانٍ لغوية عامة إلى معانٍ اصطلاحية خاصة، ومن هنا فإن الرصيد اللغوي يرفع من مكانة الفقيه ويضعه في منزلة الكبار، ويبدو أن قوة الإمام الشافعي في اللغة العربية كانت من الأسباب التي جعلته متألقاً بين الفقهاء الكبار.

ثانياً، أصول الفقه: تتضح حاجة علم أصول الفقه إلى اللغة العربية من خلال اهتمام كثير من العلماء والباحثين بالدرس اللغوي في علم الأصول، وخاصة في الآونة الأخيرة التي يبدو أنها شهدت طفرة في التأليف حول العلاقة بين الفقه واللغة العربية، فظهرت كتب عديدة، منها: “النظريات اللغوية عند الأصوليين” لسالم رشاد سالم، و”التصوير اللغوي عند الأصوليين” للسيد أحمد عبد الغفار، و”استدلال الأصوليين باللغة العربية” لماجد عبد الله ناصر الجوير.

وقد صرّح عدد من العلماء بالقرابة الموجودة بين اللغة العربية وعلم الأصول، ومن هؤلاء الإمام الجويني الذي قال: “الشريعة عربية، ولن يستكملَ المرء خلال الاستقلال بالنظر في الشرع ما لم يكن رياناً من النحو واللغة”، ولا يمكن أن ننسى هنا أن واضع علم أصول الفقه علم من أساطين اللغة العربية وهو الإمام الشافعي الذي نجده يقول: “تعلّموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة”، كما نجده يقول بعد أنفق عمره في تعلم اللغة العربية: “ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه.

وإذا كان البعض يرى أن المباحث اللغوية التي بحثها الأصوليون مستهلكة ومكررة ولم تتميز بالإبداع وبالإضافة، فإننا نجد العلامة السبكي يشيد بجهود الأصوليين في المباحث اللغوية، فيقول: “إن الأصوليين دقَّقوا في فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون”، وقد جعل بعض علماء الأصول العلمَ باللغة العربية أول شرط من شروط الاجتهاد الفقهي.

ثالثاً، علم المقاصد: لا شك أن ثمة علاقة وطيدة بين اللغة العربية وعلم مقاصد الشريعة، تتمثل في أن “اللغة العربية هي مفتاح المقصد، والتوغُّل فيها يجعلك تحيط بمعانيها، وإن المقاصد هي المعاني والأسرار”، ولهذا فلا غرابة إذا رأينا شيخ المقاصد الشاطبي يقول: “إن على الناظر في الشريعة والمتكلم فيها -أصولاً وفروعاً- أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربياً أو كالعربي في كونه عارفاً بلسان العرب، بالغاً فيه مبالغ العرب”.

حاجة الدعوة والتربية إلى اللغة العربية

أولاً، التربية الإسلامية: ليس من الصعب اكتشاف العلاقة القوية بين اللغة العربية وعلوم التربية الإسلامية، فالعربية هي لغة المرجعية الأولى للأمة العربية والإسلامية، ولهذا فإن ميدان التربية والتعليم لا يخلو من اللغة العربية وكتبها ومناهج تعليمها للأطفال والأجيال.

وتتأكد لنا العلاقة القوية بين اللغة العربية وعلوم التربية الإسلامية حين نتذكر عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم اللغة العربية وتنشئة الأطفال عليها، وقد سار العلماء المسلمون على هذا النهج، فأكدوا على ضرورة تعليم اللغة العربية بجانب القرآن الكريم، قال أبو الحسن الماوردي: “إذا بلغ التأديب والتعليم فالوجه أن يبدأ بتعليم القرآن مع اللغة العربية، لأنها التي أنزل الله بها كتابه، وخاطب بها شرائع دينه، وفرائض ملته، وبها بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنته، وبها ألفت الكتب الدينية والحكمية والجدية والهزلية”.

ونظراً لأهمية معرفة اللغة العربية ودورها في التربية الإسلامية، كان يتم ترقية المؤدِّب أو عزله بناءً على إتقانه للعربية أو قصورها عنده، وقد رُوِيّ أن الكِسائي (ت: 189 هـ) “كان أثيراً عند هارون الرشيد حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين” لمعرفته باللغة العربية وعلومها، ويمكن الإشارة هنا إلى دعوة الدكتور حسن يشو إلى ضرورة الحذر من الخدم والمربيات الأعاجم الذين أثَّرُوا تأثيراً سلبياً في مستوى اللغة العربية لدى الأطفال في دول الخليج.

ثانياً، علم الدعوة: لا خلاف في أن الداعية إلى الله يحتاج إلى معرفة اللغة العربية وفن الخطابة، ولا بد له من التزود بـ الثقافة الإسلامية والتاريخية والعلمية واللغوية الأدبية حتى تكون الدعوة متناغمة وعلى بينة بصيرة، هذا طبعاً لمن يخاطب من يفهمون اللغة العربية.

ونظراً لحاجة الداعية إلى الثقافة اللغوية بجانب الدينية والأدبية، درج الفقهاء على أن اللغة العربية من أركان الجمعة، وهذا مما يؤكد أهمية تعلم قواعد اللغة العربية وفن الخطابة خشية الوقوع في اللحن على المنابر، وقد عاتب الدكتور حسن يشو الدعاة الذين يجهلون قواعد اللغة العربية، فيلجؤون إلى اللهجات الدارجة.

وفي الختام، يمكن التأكيد على أن حاجة العلوم الإسلامية إلى اللغة العربية ماسّة ومتجدّدة، فالعربية لغة القرآن والسنة والفقه والمقاصد والتربية والدعوة، وبالتالي لا بد من إعطائها عناية خاصة للمحافظة على أَلَقِ العلوم الإسلامية على اختلافها.