إنَّ توحيد الله عز وجل ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها، ميثاق مودع في كيانها، مودع في كل خلية حية منذ نشأتها، وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات، وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد، ذي المشيئة الواحدة، المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها، فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها- سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار- لا سبيل إلى أن يقول أحد: إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد أو يقول: إنني خرجت إلى هذا الوجود، فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد إنما ضل آبائي فضللت فهم المسؤولون وحدهم ولست بالمسؤول! ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)؟

إنَّ الأصل في الإنسان التوحيد، والشرك طارئ عليه، ويستدل عليه من :

1. أنَّ الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبياً يعبد الله وحده لا يشرك به، وعلم أبناءه التوحيد، حيث سئل النبي عن آدم: أنبي هو؟ قال: “نعم، نبي مكلَّم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه روحه .

ثم وقع بنو آدم في الشرك بعده بأزمان، وهذا يقر ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالأديان السماوية الثلاث، الإسلامية والنصرانية واليهودية، إلا من تابع قول الملحدين منهم.

ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لاتباعهم النبوة… فإن آدم أمرهم بما أمره الله به، حيث قال له: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 38- 39)، فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم، قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزَّل.

2. أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أنَّ الفطرة التي فُطرت عليها البشرية كلها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص.

‌أ- قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (الروم:30) .

– (فأقم وجهك للدين حنيفاً): أي: فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق، ولا تستند على علم، إنما تتبع الشهوات، والنزوات بغير ضابط ولا دليل، أقم وجهك للدين حنيفاً مائلاً عن كل ما عداه مستقيماً على نهجه دون سواه.

– (فطرتَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله): وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين، فالنفس البشرية خالقها الله، ودين الإسلام الذي وعت له كل الرسالات السماوية من عند الله تعالى، وكلاهما موافق لناموس الوجود وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف. وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. والفطرة ثابتة والدين ثابت: (لا تبديل لخلق الله)، فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة. فطرة البشر وفطرة الوجود.

– (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم، والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم، ولو أنه موجه إلى الرسول إلا أن المقصود به جميع المؤمنين.

لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلاً معنى إقامة الوجه للدين: ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ (الروم: 31 – 32)؛ فهي الإنابة إلى الله والعودة في كل أمر إليه. وهي التقوى وحساسية الضمير ومراقبة الله في السر والعلانية والشعور به عند كل حركة وكل سكنة، وهي إقامة الصلاة للعبادة الخالصة لله، وهي التوحيد الخالص الذي يميز المؤمنين من المشركين.

ويصف المشركين بأنهم “الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا”، والشرك ألوان وأنماط كثيرة، منهم من يشركون الجن، ومنهم من يشركون الملائكة، ومنهم من يشركون الأجداد والآباء، ومنهم من يشركون الملوك والسلاطين، ومنهم من يشركون الكهان والأحبار، ومنهم من يشركون الأشجار والأحجار، ومنهم من يشركون الكواكب والنجوم، ومنهم من يشركون النار، ومنهم من يشركون الليل والنهار، ومنهم من يشركون القيم الزائفة والرغائب والأطماع، ولا تنتهي أنماط الشرك وأشكاله.

و”كل حزب بما لديهم فرحون” بينما الدين القيم واحد لا يتبدل ولا يتفرق، ولا يقود أهله إلا إلى الله الواحد، الذي تقوم السماوات والأرض بأمره، وله من في السماوات والأرض كل له قانتون.

ب – قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172).

هذه الآية تعرض قضية التوحيد من زاوية جديدة وزاوية عميقة، تعرض من زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر وأخذ بها عليهم الميثاق في ذات أنفسهم، وذات تكوينهم وهم بعد في عالم الذر.

إنَّ الاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري. فطرة أودعها الخالق في هذه الكينونة وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته، وحكم ما تستشعره في أعماقها من هذه الحقيقة، وأما الرسالات فهي تذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى فيحتاجون إلى التذكير والتحذير.

إنَّ التوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى، فلا حجة لهم في نقض الميثاق- حتى لو لم يبعث إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم- ولكن رحمته وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف وألا يكلهم كذلك إلى عقولهم التي أعطاها لهم فقد تضل وأن يبعث إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود، عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام! ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة. فإذا “العلم” يقرر أن الناسلات، وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل “الإنسان” وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب، وصدق الله العظيم: ” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ “.

أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال: “مسح ربك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم: “ألست بربكم؟ قالوا: بلى”. وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس، وقال ابن كثير: إن الموقوف أكثر وأثبت.

فأما كيف كان هذا المشهد؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم؟ وكيف خاطبهم: “ألست بربكم”، وكيف أجابوا: “بلى شهدنا”؟. فالجواب عليه: أن كيفيات فعل الله- سبحانه- غيب كذاته، ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله، إذ إن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية.

– وهناك تفسير لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة، فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده، أودع هذا في فطرتهم فهي تنشأ عليه، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها، ويميل بها عن فطرتها.

أما الأحاديث التي أشارت إلى فطرة التوحيد في أول هذه الفقرة فهي:

– في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء”؟.

– وفي صحيح مسلم: قال رسول الله : “يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم”.

ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172)، على وجهه لا على سبيل الحال؛ لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه، وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاءه، ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير، وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية، والله أعلم أي ذلك كان.

وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهداً من الله على فطرة البشر أن توحده. وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة يخرج بها كل مولود إلى الوجود فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها! عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال، وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيّز الوجود ملابسات وظروف.

إن الله- سبحانه- رحمة منه بعباده، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا، وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف- كما قال رسول الله- - بفعل شياطين الجن والإنس الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف!. رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات، لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات.

ولو كان الله يعلم أن الفطرة والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها، ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة: (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله وإلى ما أودعه الله في كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك. فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب وردها إلى بارئها الوحيد، الذي فطرها على عقيدة التوحيد. ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير.

إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد- على طريقة القرآن الغالبة – وإنه لمشهد فريد، مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تؤخذ في قبضة الخالق المربي، فيسألها: “ألست بربكم؟”، فتعترف له سبحانه بالربوبية، وتقر له سبحانه بالعبودية، وتشهد له سبحانه بالوحدانية، وهي منثورة كالذر مجموعة في قبضة الخالق العظيم، إنَّه مشهد كوني رائع باهر، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة، وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته، وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى، وهي تجمع وتقبض، وهي تخاطب خطاب العقلاء، فتعترف وتقرُّ وتشهد، ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب.

وإنَّ الكيان البشري ليرتعش من أعماقه، وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد، وهو يتمثل الذر السابح، وفي كل خلية حياة، وفي كل خلية استعداد كامن. وفي كل خلية كائن إنساني مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول، ويقطع على نفسه العهد والميثاق، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم.

 

 

 

 

 


المصادر والمراجع:

* علي محمد محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية، دار ابن كثير، صفحة 44:35.

* أبو بكر محمد زكريا، الشرك في القديم والحديث، دار الرشد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1423هـ ـ 2001م، 1/182، 183.

* سيد قطب، في ظلال القرآن، الطبعة الشرعية الثامنة والعشرون، (2009)، صفحة 3/ 1394:1391.