كان عبد الله بن المبارك أحد العلماء الذين اشتهروا مع العلم بالزهد والورع، وفي ذات الوقت مشهورا بالغنى وكثرة الإنفاق في سبيل الله في وجوه الخير وعلى الفقراء والمساكين وأهل العلم.

ولد – رحمه الله- عام 118 هـ، من أب تركي وأم خوارزمية، وقد عرف عنه كثرة الحج والجهاد في سبيل الله.

كما كان تاجرا مشهورا، بلغت ثروته في حياته 400 ألف دينار من الذهب، أي ما يعادل اليوم مليون و700 ألف جرام من الذهب، أي ما يعادل 27 مليون و625 ألف دينار كويتي، أي ما يعادل: 82 مليون و875 ألف دولار أمريكي، كان هذا رأس مال تجارته، وكان يكسب كل سنة 100 ألف دينار من الذهب، أي ما يعادل 425 ألف جرام من الذهب، أي ما يقارب 7 مليون دينار كويتي، أي ما يزيد عن 20 مليون دولار أمريكي، وكان هذا الكسب الذي يكسبه كل عام وهو ما يزيد عن عشرين مليون دولار أمريكي ينفقها على العلماء وطلبة العلم والفقراء من العباد والزهاد، وربما زاد عليها من رأس ماله.

وكان رغم غناه يشبه الصحابة في كل شيء، حتى قال عنه سفيان بن عيينة: كان مثل الصحابة في كل شيء، لا يفضلون عليه إلا في أنهم صحبوا الرسول .

بل كان أصحابه يرون أن الله جمع فيه كل خصال الخير، وكان كريم اليد، حتى إنه خرج مع أصحابه في سفر إلا مصر، فكان يطعمهم أشهى الأكلات والحلويات، وهو يصوم الدهر .

وكان هذا الفقيه المليونير يرى من فقهه أن إطعام الفقراء والمساكين والسعي على الأرامل أفضل من حج النافلة، فقد خرج في أحد الأعوام للحج، فمر ببعض البلاد أثناء حجه قبل وصوله مكة، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة، رأى جارية خرجت من بيت قريب من المزبلة، فأخذت الطائر الميت، فناداها وسألها عن سبب أخذها الطائر الميت، ويذكرها بأن أكل الميتة حرام شرعا، ومازال يلح عليها في السؤال حتى أخبرته أنها تعيش مع أختها وحدهما، ولا يملكان من متاع الدنيا إلا الثياب، وأن مثلها يجوز لها أكل الميتة، وكان أبوها له مال عظيم، فظلم وأخذ ماله، وقتل. فطلب ممن كان يعمل معه ممن صحبه في الحج، وقال له: كم معك من النفقة؟ قال ألف دينار (69062.5) دينار كويتي، ما يعادل (207187.5) دولار أمريكي، فقال يكفينا منها 20 دينار نرجع بها إلى مرو، وأعطاها الباقي، وقال:  فهذا أفضل من حجنا في هذا العام. ثم رجع إلى وطنه. حتى قيل في بعض الروايات: إن الملائكة حجت عنه، وقد رآه الناس في الحج، وإن يثبت ذلك.

وكان من عادته في الحج أن يسأل أصحابه من ينوي منهم الحج؟ فيأخذ منهم نفقتهم في الحج، ويكتب على كل صرة اسم صاحبها، ويضعها في صندوق.

ثم يخرج بهم ويكون أميرا عليهم في الحج، فينفق عليهم من ماله بسخاء، ويعطيهم دواب يركبونها، فإذا انتهوا من مناسك الحج، يشتري لهم هدايا لأهلهم من مكة، ثم إذا زاروا المدينة لزيارة النبي ، يشتري لهم هدايا لأهلهم من المدينة، فإذا بدؤوا الرجوع، أرسل في الطريق إلى من يصلح بيوتهم وبيض أبوابها ويرممها، فإذا عادوا إلى أوطانهم صنع لهم وليمة بعد رجوعهم، فأطعمهم وكساهم ثيابا جديدة، ثم يأتي بالصندوق الذي كان قد وضع فيه نفقتهم، فيعطي كل واحد منهم صرة المال التي عليها اسمه، فيدعون له بالخير والقبول.

وكان من عادته أن سفرة الطعام الخاصة به تعمل على ناقة من عظم ما فيها من الأطعمة كاللحوم والدجاج والحلوى وسائر الطعام، فيطعمها الفقراء والمساكين، وهو صائم لله في الحر الشديد.

وكان من فقه الصدقة عنده، أن يتصدق على الناس حسب أحوالهم، فقد جاء سائل يوما فأعطاه درهما، فقال له أصحابه: إن هذا الرجل في أهله غالب طعامهم اللحم والحلوى، ويكفيه قطعة من الطعام. فقال: والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز، لكن مادام يأكل الشواء والحلوى، فلابد أن أعطيه عشرة دراهم، ثم قال لغلامه: ناده مرة أخرى، فأعطه عشرة دراهم.

إن من أهم الدروس في حياة ابن المبارك عدة أمور، أهمها:

  1. الجمع بين العلم والتجارة، وأنه ليس بلازم أن يكون العالم فقيرا، بل يمكن أن يكون له تجارة حتى يستغني عما في أيدي الناس.
  2. ضرب ابن المبارك – رحمه الله – المثل في القدوة، فهو مثال للعالم الذي لا يقف عطاؤه في العلم، بل يجمع بين العطاء في العلم والإنفاق في وجوه الخير.
  3. كان ابن المبارك يعمل وجوه الخير، لكنه كانت عنده نظرة في الإنفاق، فقد كان ينفق على العلماء وطلاب العلم؛ لما لهم من تأثير في حياة الناس، ثم ينفق على العباد والزهاد الذين يتفرغون لعبادة الله، ثم ينفق على الفقراء والمحتاجين.
  4. كان رحمه الله يصل أصحابه وأصدقاءه، فكان ينفق على القادرين منهم، خاصة في رحلاته التجارية أو العلمية، أو في رحلة الحج.
  5. كان رحمه الله يراعي حال المحتاجين، فيعطي كل واحد بما يناسب حاله.
  6. كان رحمه الله – بصدق- فقيه الصدقة كما كان فقيه الأحكام في الدين.

رحم الله ابن المبارك، فقد كان فقيها في عطائه، كما كان فقيها في الدين.


المراجع:

البداية والنهاية لابن كثير (13/ 611-612)

تاريخ دمشق لابن عساكر (32/ 438)