تمثل المذاهب الفقهية في عصر الاجتهاد النهضة الفكرية والعلمية، والازدهار الحضاري الذي احتلته الأمة الأسلامية خلال القرون الثلاثة الأولى والمفضلة، وذلك لما تميز به العلماء من الحرية في التفكير والنظر، ومناقشة الأحداث المتزامنة مع عصرهم، وكان إذا وقعت حادثة انبرى لها كل عالم مجتهد بمحصلاته العلمية لوضع الحلول المناسبة لها، ويتوخى بها الحق الذي يوافق مراد الشارع.

كان أبوحنيفة النعمان رحمه الله، أول الأئمة الأربعة المجتهدين يتصدر بالعراقين؛ الكوفة والبصرة بعد إتقانه فقه علماء وقته، ومالك رحمه الله في المدينة يتخرج بين يدي أئمة الأثر والنظار بالمدينة المنورة، ومحمد الشافعي جامع بين العلوم العقلية والنقلية وواضع خطوط أصول الفقه والاستنباط، ينعم بمذاهب علماء المدينة والعراق، وأحمد بن حنبل المحدث – وإن كانت إمامته في الحديث والأثر أظهر، وهما أحب إليه – إلا أنه نال السبق في فقه الحديث والاجتهاد.

كانت دعوة هؤلاء الأئمة واحدة، طلب الحق وبذل الجهد لنيله، ونبذ التقليد والتبعية ، وأمتثل هنا ما ذكره العلامة المغربي محمد الحجوي في كتابه “الفكر السامي” قال: كل المجتهدين كان يقصد غاية واحدة، وهي استنباط أحكام الوقائع من القرآن والسنة على ما يقتضيه روح التشريع الإسلامي متوخِّين الوصول إلى مراد الشارع، لا قصد لواحد منهم سوى هذا.

نشط في هذا الوقت الفقه الإسلامي بمحاذاة الحديث النبوي رواية وتدوينا الذي هو مادة الفقه، وكانت لدى هؤلاء الفقهاء المذكورين مرويات خاصة في الحديث اعتمدوها في أصول مذهبهم وفتاواهم، بل جدير أن نذكر أن هذا التطور الفقهي الذي سجل ثمرة المحور الثقافي في المجتمع المسلم لم يقف عند هذا العدد من أئمة السنة المشهورين، بل كانت الدول الإسلامية وقتها برقعتها الواسعة، وحواضرها المختلفة  تزخر بقاعدة كبيرة من العلماء يعدون بالعشرات ثم المئات، ونال أكثرهم أعلى درجات الاجتهاد ومعرفة النصوص الشرعية وفقهها وتفسيرها، حتى لا توجد مدينة ضمن الحواضر الإسلامية حينذاك تخلو من عالم فقيه، وكان ينفرد كل منهم باختياراته الفقهية يستقيها من مصادر التشريع الصافية، وقد ذكرهم بالتفصيل ابن حزم في كتابه الإحكام، وعنه نقل ابن القيم في الإعلام.

كل المجتهدين كان يقصد غاية واحدة، وهي استنباط أحكام الوقائع من القرآن والسنة على ما يقتضيه روح التشريع الإسلامي متوخِّين الوصول إلى مراد الشارع

وأنوه هنا أن العالم – أي: الفقيه – في القرنين الأول والثاني لا يعتد به أو بعلمه في أوساط الفكر الإسلامي حتى يستقل بالاجتهاد، فالعالم بالنسبة لهم يرادف المجتهد، وعليه يفهم كلام ابن حزم: أن من استهلك في التقليد فلم يخالف صاحبه في شيء فليس أهلا أن يذكر في أهل الفقه ولا يستحق أن يلحق اسمه في أهل العلم، لذلك نرى كتب أصول الفقه يرجح التصنيف الثنائي للمكلفين، فالناس مجتهدون أو مقلدون، لا ثالث لهما.

لكن هذه المسيرة الطيبة للاجتهاد والثراء العلمي أجهضت مع نهاية القرن الثالث، عندما استنكف الناس عن الاجتهاد، وتنادى كل تلميذ لشيخه جلالة العلم ونهاية الفهم، وعكفوا على تدوين آراء العلماء في جزئيات الأحكام الشرعية على صور الكتب والتآليف، ورأى هؤلاء الطلبة ضرورة قراءتها وخدمتها بوضع الحواشي والتعليقات عليها، وتظاهر للناس أن هذه الكتب هي الغاية القصوى المحصلة من العلم، والعجيب أن ثورة التدوين والتقليد للمذاهب بدأت في الأصل بثلاثة عشر مذهبا، ولم تلبث أن تقلص هذا العدد حتى استقر على المذاهب الفقهية الأربعة الرئيسية، وانحصر فيها التقليد دون غيرها، و ترجع أسباب التقليد المذهبي إلى مبررات متعددة منها:

المبرر الأول – حصر الخيرية مع القرون الثلاثة الأولى: لا شك أن أصحاب القرون المفضلة خير القرون بالنص النبوي الشريف، وهذه الأفضلية في الحديث معللة، لتوارد القيود المختلفة عليها، وذلك أن قرن الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم الصالح والطالح، والمؤمن والفاجر، ولو أطلق هذا المعنى لشمل غير المؤمنين.

ومن القيود أن بعض الروايات أوضحت سبب الأفضلية لهذه القرون، في قوله صلى الله عليه وسلم: ” ثمَّ يَجِيء قوم تسبق شَهَادَة أحدهم يَمِينه، وَيَمِينه شَهَادَته “، يعني أن المتأخرين لا يتورعون في أقوالهم، ويستهينون باليمين والشهادة..

وهذه القيود – اكتفيت ببعضها هنا – تضع أمامنا تفسيرات (احتمالات)

أولا: أن الخيرية تنصرف إلى القرن الأول لوجود الصحابة رضوان الله عليهم فيه، ووجود أبنائهم من بعدهم في القرن الثاني، وهم أهل الفضل، ويلحق بهم من عمل مثل أعمالهم ولو في القرون اللاحقة.

ثانيا: أن الخيرية هنا للقرن من حيث الإجمال والتغليب، وعليه فالحديث عام مخصوص، والخيرية تنصرف إلى هذه القرون لما غلب عليها من الصلاح والخير والتمسك بالهدي وقلة الشر والبدعة فيها.

الاحتمال الثالث: أن الخيرية إشارة إلى فضل السابق على اللاحق، والتزام المتأخر بطريق سلفه وعدم البعد عن سبيله خصوصا في مجال أصول الأحكام والعبادات والكليات الكبرى، وعلى هذا يحمل كلام علماء السلف، منهم ابن مسعود يقول: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات.. فإن الصحابة كانوا أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا.

العالِم -أي: الفقيه – في القرنين الأول والثاني لا يعتد به أو بعلمه في أوساط الفكر الإسلامي حتى يستقل بالاجتهاد

وهذه الاحتمالات كلها واردة لا يفهم منها حصر العلم والاستقامة في السابقين، كما لا يدل على جهل المتأخرين ونسبتهم إلى الفسوق والانحلال، وغاية ما يمكن قوله علم السابقين حجة على الخلف، وكان المفروض أن يفتق ذهن المتأخر، وينير عليه دروب الاجتهاد المضاءة، وليس أن يقفل باب العلم النافع.  ولكن ثقافة حصر الخيرية أثرت سلبا على ثورة الفكر الإسلامي منذ نعومتها، بدلا أن تخصب فنون العلم لدى الأمة أحالتها إلى الجمود والتقليد، ولم تفرق بعدُ بين الكليات والجزئيات، وبين الثابتات والمتغيرات، وبين الأصول والفروع، فصار علم الفقه ينال بحفظ جزئيات فقه المذهب، وتحصيل العلم عن تلقين فتاوى العلماء.

المبرر الثاني : المبالغة في تضخيم معرفة أئمة المذاهب الفقهية: وذلك أن أتباع هذه المذاهب السنية بالغوا حدا كبيرا في مدح معرفة أئمة المذهب، وأن العلم دونهم لا يكتمل، حتى وضعت فتاوى بغلق باب الاجتهاد، بدعوى أن الفقه ما أنتجه هؤلاء ولا حاجة إلى المزيد عليه. ومناهج أتباع المذاهب في مؤلفاتهم قرينة واضحة على مدى تأثير هذه الأقوال في الأمة وفكرها، أستعرض بعض هذه الاقوال في الجزء الثاني من هذا المقال إن شاء الله.

المبرر الثالث : دعوى نضج الفقه واحتراقه بأقوال شيوخ المذاهب الفقهية: فإنه يطلب من المكلف الالتزام بما ورد في كتب الفقه والمذاهب دون إحداث قول جديد، ولو اقتضت الحكمة والمصلحة خلافه، لأن علم الفقه نضج بجميع قواعده، وكذا احترق لأنه بلغ النهاية في النضج، جاء مثلا في كتاب رد المحتار – الموسوم بحاشية ابن عابدين، أن العلوم ثلاثة أنواع:
1. علم نضج وما احترق، وهو علم  النحو وأصول الفقه لأنه تقرر قواعدهما ولكن لم يبلغا النهاية.
2.  علم لا نضج ولا احترق، وهو علم البيان والتفسير، لأنه لم يقفوا على ما في القرآن جميعه من بلاغته وفصاحته ونكته وبديعاته وأسراره.
3. علم نضج واحترق وهو علم الحديث والفقه، نضج علم الحديث واحترق لأنه تم المراد منه، من حيث الرواية والدراية، وأما نضج الفقه واحتراقه فكما يقول ابن عابدين: لأن حوادث الخلائق على اختلاف مواقعها وتشتتاتها مرقومة بعينها أو ما يدل عليها، بل قد تكلم الفقهاء على أمور لا تقع أصلا أو تقع نادرا، وأما ما لم يكن منصوصا فنادر، وقد يكون منصوصا غير أن الناظر يقصر عن البحث عن محله أو عن فهم ما يفيده مما هو منصوص بمفهوم أو منطوق ط، أو يقال المراد بالفقه ما يشمل مذهبنا وغيره فإنه بهذا المعنى لا يقبل الزيادة أصلا فإنه لا يجوز إحداث قول خارج عن المذاهب الفقهية الأربعة.

إن أصحاب المذاهب ومؤسسيها لجؤوا إلى الاجتهاد كوسيلة معرفة الحق وإصابته والعمل به، وليس من أجل حمل الناس على التقليد

يتضح لنا من هذا النقل كيف تقوى التقليد المذهبي والدعوة إليه وسبب أزمة الجمود لا يمكن الانفكاك منها، حتى أثارت قضية أصولية تساءل عنها الفقهاء والأصوليون قديما أنه إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث ؟! وهذا التساؤل لم يفرق بين جزئيات المسائل التي تتسع للاجتهاد وما لا يتسع له، فكأن أقوال أصحاب المذاهب مثل نصوص الوحيين!

المبرر الرابع – فتاوى غلق باب الاجتهاد، وهذه النقطة تأتي نتيجة ما سبق من المبررات، وهي زيادة على ما أفادها الأستاذ أحمد الخمليشي، في كتابه “جمود الدراسات الفقهية”، فإن المبررات السابقة اعتضدت بما صدر من الفتاوى التى صدعت بأن باب الاجتهاد أغلق، وهذه الفتوى عمقت طريق التقليد، وصادرت جهود بعض العلماء الذين وصلوا درجة الاجتهاد بشهادة اختياراتهم الفقهية، ومسالكهم الاجتهادية.

والهدف من هذا الطرح مراجعة منهج العلماء ومصادرهم، وفهم غاية الفتاوى في أصلها التي وسمت بعد بالمذهبية بدلا من سرد كتب الفقه واجترارها، وأن أصحاب المذاهب ومؤسسيها لجؤوا إلى الاجتهاد كوسيلة معرفة الحق وإصابته والعمل به، وليس من أجل حمل الناس على التقليد.