تعاني الأسرة المسلمة المعاصرة من حالة اضطراب شديد في المعنى والمبنى والمآل, إذ تأثرت سلبًا بعمليات الحداثة قسرًا أو بالأحرى عمليات التحديث التي مورست عليها من قبل العولمة وأدواتها، التي لم يعد بيت من بيوت المسلمين إلا وفيه مجموعات من تلك الأدوات، بل أصبحت ركنا ركينا لا تستطيع أسرنا الاستغناء عنه، هذا في مقابل ما نلمسه جميعًا من توترات نشأت جراء تمكن هذه الأدوات من وجدان وأخلاق الأسرة المسلمة، ظهرت في سلوكيات الأزواج تجاه بعضهم البعض من ناحية، وفي مسؤولياتهم تجاه أبنائهم من ناحية أخرى. كما ظهرت في سلوكيات الأبناء تجاه آباءهم من ناحية وتجاه مجتمعهم وأمتهم من ناحية ثالثة.
ويكفي ما نقرؤه في التقارير المتخصصة حول نسب الطلاق التي تزيد يومًا بعد يوم، وما ينتج عنها من حالات التفكك الأسري وتفاقم مخاطره على الأبناء والمجتمع، وكذلك ما نقرؤه عن جرائم العنف الأسري بين الأزواج بعضهم بعضا، أو بين الأبناء وبين والديهم من ناحية أخرى، مما يجعلنا نؤكد أن منظومة القيم الأسرية في المجتمعات المسلمة في خطر شديد بسبب اختراق القيم الغربية في أقصى وأقسى رذالتها لها، وهو الأمر الذي يدعونا إلى تجديد الدعوة إلى إعادة بناء وترميم الأسرة المسلمة وفق منظورها القيمي والحضاري، الذي يمثل سفينة الإنقاذ الوحيدة في هذه الأمواج المتلاطمة من التفتت القيمي العالمي والمحلي.
ونتناول في هاتين المقالتين ما يتعلق بمسارات تجديد النظرة إلى بناء الأسرة مفهومًا ومنطلقًا ومرتكزًا، وذلك من خلال تجديد النظر إلى مفهوم الأسرة في ضوء المنظور التوحيدي، وما يرتبط بها من أبعاد ومسؤوليات مجتمعية ودنيوية وأخروية متعددة، وتجديد النظرة إلى الإطار الحاكم للحقوق والواجبات، وطرح بعض الإشكاليات الخاصة بالأسرة ومكوناتها وعلاجها من المنظور التوحيدي.
لماذا المنظور التوحيدي؟
يقوم المنظور التوحيدي في تصوره للأسرة على مبدئية مكانة الإنسان في الكون ودوره ووظيفته العمرانية فيه، ومن ثم كانت منظومة المجتمع وحركته وبناؤه مصدر اهتمام من المنظور التوحيدي، ووفر لها من التشريعات والأخلاق والأسس ما يساعد على قيامها واستمرارها في أداء حركتها وفعلها الإنساني العمراني. وذلك لأن هذه المنظومة الاجتماعية هي المكلفة بأداء الوظيفة الأخلاقية الإلهية على الأرض.
ويُعد اهتمام النظام الاجتماعي التوحيدي في المجال الأسري متفردًا لأمرين: الأول في ملاءمته للفطرة الإنسانية من ناحية إقراره العلاقة المعنوية والمادية بين الذكر والأنثى في صورة أسماها “الميثاق الغليظ”، وطرح الوجدان كأساس لهذه العلاقة “المودة والرحمة“، فلا رهبانية في الإسلام كما في المذاهب والأديان المنحرفة، ولا دعوة إلى التحلل الأخلاقي كما في المذاهب المادية المعاصرة.
مفهوم الأسرة
الأسرة في الفضاء اللغوي تعني “الدرع الحصينة”، ويحمل مفهوم الأسرة -أيضًا- في اللغة معنى الأسر أي التماسك والقوة، وأسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون، لأنه يتقوى بهم. وجاء القرآن الكريم معبرًا عن الأسرة بألفاظ متعددة يتبين منها النظرة الاجتماعية لمهمة الأسرة ووظيفتها، ومنها: الزوجية: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، والأهل كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}. وفي السنة جاء لفظ (الأهل) أيضًا ليدل على (الأسرة)، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرحل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في بيت سيده ومسؤول عن رعيته1.
المقتضيات الوجودية للأسرة
تقوم الأسرة في الإسلام بمقتضيين وجوديين للإنسان هما: مقتضى “الاستخلاف” أي استخلاف الإنسان في الأرض ليقوم بمسؤوليات ومهام حددها المستخلِف -وهو الله تعالى-، وهي عمران هذا الكون { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا }، وتعبيد الكون لله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. وتكوين الأسرة هو أول خطوة لتحقيق هذا العمران وفقًا للمنهج الإلهي، الذي يتربى عليه الفرد داخل الأسرة، وتمثل الأسرة لهذا الإنسان المحضن الأساس والمؤسسة الأكثر فعالية لتعليم واجبات ووظائف الاستخلاف. ولهذا أكدت جميع الشرائع السماوية على مشروعية تكوين الأسرة، بل وضرورتها للوجود الإنساني الذي لا يستقيم في أداءه لوظائفه على الأرض دون هذا التكوين.
والمقتضى الثاني: هو التوحيد: إن الإسلام يرى أنه لا غنى عن الأسرة لتحقيق مراد الله تعالى من البشر في هذه الحياة الدنيا، ولا يمكن أن يكون هناك أي توحيد دون تحقيق ذلك المراد الإلهي. إن مقتضى التوحيد -أو ما يترتب عليه- هو النظر إلى أن أوامر الله فريضة ملزمة، الأمر الذي يستتبع بدوره السعي لإيجاد المواد التي تتجسد القيم الكامنة في تلك الأوامر.
والواقع أن الله تعالى لم يأمر الإنسان بتجسيد تلك القيم في أرض الواقع فحسب، بل شفع ذلك ببيان وسيلة تحقيقها، وضوابط الوفاء بها ولوازمه، متمثلة في الأسرة وشبكة العلاقات التي تنشأ عنها2. وكل مولود يولد على الفطرة أي على التوحيد، والالتزام بهذه الفطرة أو الانحراف عنها قائم بفعل الأسرة: “فأهله يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه. ومن الوظائف الأساسية التي تقوم بها الأسرة في هذا المقتضى تنمية القابليات الفطرية لدى الإنسان وتهيئة أفرادها لتحقيق وظيفة “العبودية” في الأرض في كافة معانيها الظاهرة والباطنة.
طبيعة النظرة إلى الزواج
“الزواج” هو المسار الشرعي الوحيد لتكوين الأسرة في الإسلام, وأسماه القرآن “الميثاق الغليظ”، والميثاق في ذاته: “العهد المحكم”، وإضافة “الغليظ” إليه لإبراز قداسته وقوته إذا انعقد. وعليه فالزواج -في هذا الميثاق الغليظ- يكون أحد طرفيه (الزوجين) والطرف الأخر هو (الله تعالى)، ومن هنا يتمايز المنظور التوحيدي بهذا الركن في بناء الأسرة الإنسانية، وهو “ركن الغيب”.
وهذا يعني أيضًا أن حالة البناء وحالة نشاط الأسرة وحركتها الاجتماعية يضاف إليها -أي إلى بعد الشهود الذي هو المجال الحيوي لعمل الأسرة- بعُد أساسي وجوهري آخر وهو “بعُد السماء” أو “بعُد الغيب”.
ويؤثر هذا البعد في أهداف الأسرة ووظائفها وأدوار أعضائها، كما يؤثر على نوعية الحياة المنشودة وشكلها وطبيعة النظر إلى الوسائل المادية وعالم الأشياء الذي يرتبط حتمًا بوجود الأسرة واستمرارها.
والرابطة التي يؤكد عليها المنظور التوحيدي بين أفراد الأسرة تقوم أيضا على مبدئية قيمة “الولاية” بين أفراد الأسرة: “ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض}، ومن ثم تأتي الارتباطات البيولوجية والفسيولوجية تابعة لهذين الرابطين “الميثاق” و”الولاية”.
والإسلام لا يرى في الإشباع الجنسي بين الزوجين أساسًا كافيًا لأن يحقق بمفرده الهدف من بناء الأسرة، بل يرى أن الزواج القائم على البعد الجنسي والحب الرومانسي العارض زواج قاصر وبعيد عن الكمال، فالزواج ينشئ شبكة واسعة من العلاقات الإنسانية يدور عليها جزء كبير من الفعل الأخلاقي. وعائل الأسرة هو المسؤول الأول تجاه أفراد أسرته عن واجبات الإنجاب، والحب، والتراحم، والشورى، والتوجيه، والتربية، والتعاون، والمودة.3
والأسرة في هذا المقام – التوحيدي- تقوم بدور تحديد “الهوية” أو “الوجود” لأعضائها من حيث كونهم “حاملين رسالة إلهية” على الأرض مضمونها وغايتها تحقيق العبادة لله وإعمار الكون وهداية الإنسان.