تناولنا في المقالة الأولىأهمية تجديد النظرة إلى الأسرة في الواقع المعاصر للأسرة المسلمة، وتناولنا بعض جوانب التجديد وهي: ما يتعلق بمفهوم الأسرة ذاته،  المقتضيات الوجودية للأسرة، طبيعة النظرة إلى الزواج، ونستكمل هنا باقي جوانب المنظور التوحيدي لبناء الأسرة.

“الرعاية” في العلاقات الأسرية

وتظهر فكرة “الرعاية” كمفهوم مركزي للوظائف التي ينبغي أن تقوم بها الأسرة تجاه أعضائها، ومبدأ “الرعاية” مفهوم غير محدد في الزمان أو المكان أو الفعل، بل مفهوم ممتد يتسع لكل/ كافة متطلبات الحياة : العقدية والاجتماعية والثقافية، وفي كافة أزمان ومراحل الأسرة، فالرعاية مفهوم شامل يتضمن احتياجات الإنسان الأساسية والطارئة والمتغيرة، الآنية والممتدة.

 

ويرتبط مبدأ “الرعاية” بدوره بمبدأ آخر هو “الوظيفية – العضوية” الصالحة لأفراد الأسرة جذورًا وفروعًا،ويرتكز هذا المبدأ على عدة أسس هي:

أ- الترابط: فالأسرة كيان مترابط المراحل ولتكوين مثل الكائن الحي، الذي يكون في حالة نمو / حركة دائمة.

ب- التكامل بين الفرد والجماعة (الأسرة) فالنظرة الوظيفية – العضوية للأسرة تقوم – أيضًا – على أنه لا حياة للجزء فيها (الفرد) خارج الكل (الأسرة) والكل العضوي (الأسرة) أكبر من مجموع أجزائه. وأن هذا الكل العضوي (الأسرة) هو الذي يتاح فيه للأجزاء (الأفراد) المناخ السوي الذي يهيئ حالة النمو الراشد النافع.

ج- الصالحية الاجتماعية ، يتولد أيضًا عن هذه النظرة الوظيفية – العضوية للأسرة فكرة صالحية المنتج الإنساني الناتج عنهاK أي الإنسان الاجتماعي الصالح لحركة وتطور ونموذج المجتمع والقادر على الفعل / التفاعل / التعاون الإيجابي داخل المجتمع الأكبر.

د- مجتمع البنيان المرصوص، تدعم هذه النظرة الوظيفية للأسرة ، فكرة مجتمع البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضًا.

هـ- ويطرح المنظور التوحيدي – في ضوء هذه الوظيفية – نظرته لشكل الأسرة الذي يراه من الامتداد والاتساع ليشمل حالة اجتماعية أوسع من المفاهيم الوضعية الضيقة التي تطرح المفهوم مقتصرًا على شخصين (الزوج والزوجة) والأبناء.. فيطرح مفهوم (العم) و(الأعمام) (والعمة) و(الخالة) و (الجد) و(الجدة). في إشارة إلى أن الأسرة هي نواة التكوين (شبكة اجتماعية) مترامية الأطراف في المجتمع. حيث يحتل (أولو القربى) مكانة رفيعة في الأوامر الربانية المتعلقة بالبعد الاجتماعي والواردة في القرآن الكريم { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } [النساء:1] .

الحقوق والواجبات .. الإحسان لا الصراع

وتعد فكرة “الحقوق والواجبات” من المبادئ المؤسسة في بناء وتكوين الأسرة في المنظور التوحيديK ويقوم هذا المبدأ على مقولة تأسيسية لها بعدها الاجتماعي وهي “أن كل حق يجب أن يقابله واجب”، أما المثل الأعلى في هذا المنظور فهو “الإحسان” –أي مراقبة الله كاملة في أداء المسؤوليات الأخلاقية من كافة أعضاء الأسرة- وما يتصل بها بأخلاق”الإيثار” و”التضحية.

فلا يملك أحد أفراد الأسرة أن يكون له الحق دائمًا بلا واجب، ولا على أحد أفراد الأسرة الواجب دائمًا بلا حق له، فللزوج له حقوق وعليه واجبات وكذلك الزوجة و الأبناء، فالحقوق والواجبات في حالة جدل دائم بين أفراد الأسرة, ويجعل الإسلام مثلها الأعلى في قيمة “الإحسان”.

ومن ثم تنتفي فكرة “الصراع” و”التنافسية” ذات المخاطر بين أفراد الأسرة وتحل محلها ميدانية “التكامل” “والوظيفية” فمبدأ / حق “القوامة” -على سبيل المثال – للرجل يقابله واجب الرعاية والمسؤولية المادية والاجتماعية عن كل شأن الأسرة / وهكذا حقوق الزوجة والأبناء.

هذه الحقوق والواجبات التي لا تتصل بعالم الشهود فقط بل تمتد إلى عالم الغيب – أيضًا – (مثال بر الوالدين بعد مماتهما). وهذا يعني تمركز فكرة “الإحسان” في مبدأ “الحقوق والواجبات” بين أعضاء الأسرة (سواء من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى).

وتبدو العلاقة تواصلية بين الأسرة من ناحية والمجتمع / الأمة من ناحية أخرى “فالأسرة هي المؤسسة الاجتماعية النهائية والوحيدة المعززة بالفرد من جانب وبالأمة العالمية من الجانب الآخر وأهميتها في النظام الكوني مؤكدة بنص القرآن  {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا }[الروم : 212].

 

التمايز بين الرجل والمرأة .. تكامل لا تنافس

 فيما يتعلق بمسألة التمايز بين الرجل والمرأة فإن المنظور التوحيدي يؤكد على مبدئية “التكامل” لا “الصراع” أو المنافسة ذات المخاطر: فالمرأة والرجل خلقا لتحقيق وظيفتين مختلفتين ولكن متكاملتين { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن}[ النساء، 32].

فوظائف الأمومة المتمثلة في الرعاية المنزلية وتربية الأطفال، ووظائف الأبوة المتمثلة في حماية البيت وتزويده بمتطلبات المعيشة، والقوامة العامة استدعت اختلاف الرجل عن المرأة في البنية الجسدية والنفسية والعاطفية. ودور المرأة كما هو دور الرجل خاضع على قدم المساواة مع نظيره للأحكام الدينية والأعراف الأخلاقية، ويستدعي كلاهما من صاحبة استخدام كل ما أوتي من الذكاء والموهبة والطاقة والقدرة على العطاء من أجل القيام به[1].

إن وظيفة الأسرة في رعاية أفرادها وتكامل أدوارهم هو الأساس الفطري والحيوي والنفسي لعلاقات أفراد الأسرة الإنسانية، وعدم إدراك المبدأ الإسلامي في تكامل أفراد الجنس البشري عامة، وأدوار أعضاء الأسرة بشكل خاص، يؤدي إلى عدم فهم بناء الأسرة المسلمة وعدم إدراك أدوار كل عضو فيها.

ومن الأخطاء المعرفية في إدراك أدوار الأسرة هو تصور “التماثل” في الأدوار على أطراف العلاقة الأسرية؛ لأن ذلك منطلق خاطئ من ناحية الحقيقة الفطرية، وتشويه للوظيفة الأسرية، وجور على حاجات أطراف العلاقة وحقوقهم، مما يسئ إليهم، ودون الفهم السليم لدور لفطرة في بناء الأسرة المسلمة. المبنية في رؤيتها التشريعية على الاستجابة للفطرة التي تكمن في تكوين الأسرة الإنسانية وحاجاتها الوظيفية. [2]

ومن جهة أخرى فإن هذا التمايز في الأدوار لا يتعلق بمجالات النشاط الإنساني التي يتشابك فيها دور كل من الرجل والمرأة، ولا بالمجالات الأخرى التي لا تتشابك فيها أدوارها. ومن الممكن أن تقوم المرأة بأنشطة ذكورية في الأصل أو العكس، وأن يعبر أي منهما إلى فضاء نشاط الآخر، فيما لو توفرت قابليات فطرية تجعل ذلك أمرًا ممكنًا، أو طرأة ضرورة تجعله مفيدًا شريطة عدم الإخلال بالتمايز الرئيس الذي أودعه الله تعالى فيهما بفطرة حلقهما[3].

الأسرة الممتدة .. إشباعات نفسية واجتماعية ومادية

ومن الجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن الإسلام يرجح نمط الأسرة الممتدة التي تشمل: الآباء والحدود وأزواجهم وذريتهم، ومن أهم خصائص هذا النمط من الناحية الاجتماعية هو عدم وجود فجوة بين الأجيال، إذ أن هذه الأسرة تجمع بين ثلاثة أجيال، الأمر الذي يجعل تنشئته الصغار وانتقال الثقافة بين الأجيال كاملاً على الدوام، على نحو يكفل انتقال الأعراف والثقافة بأدنى درجة ممكنة من الانحراف، وفي ظلها يتصل الماضي بالحاضر والمستقبل على نحو أصيل. كما تفرض الأسرة الممتدة الانضباط والتضحية المتبادلة على أفرادها، وقد يجد هذا من خصوصياتهم الشخصية، ولكن هذا يتماشى مع طبيعة الحياة في هذه الدنيا التي لا تسمح لأي إنسان بالعيش كما يحلو له دون ضوابط ولا تضحيات وكأنه الوحيد في العالم أو أن العالم خلق من أجله فقط. ومن الأفضل للإنسان أن يتمترس على الانضباط الذاتي، وأن يتحلى بالإيثار والتضحية من أجل الآخرين. ومن الأفضل أن تتعلم ذلك على أيدي أحبة لنا في بيوتنا وليس على أيدي غرباء[4].

وكما تحتاج الأمة إلى تجديد إيمانها، فإنها تحتاج  إلى تجديد مفاهيمها في القضايا والموضوعات الأساسية التي تتصل بوجودها وكينونتها وهويتها، وموضوع الأسرة من أخطر الموضوعات التي ينبغي أن تطرح على مائدة التجديد الفكري والثقافي المعاصر نظرًا لما يعتري الأمة من تهديدات وجودية لا حماية لها إلا بهذا الدرع الحصين أي الأسرة.


[1] عبدالحميد أبوسليمان، أزمة الإرادة والوجدان المسلم, ص235.

[2] عبدالحميد أبوسليمان، أزمة الإرادة والوجدان المسلم, دمشق, دار الفكر, 2004, ص236.

[3] المرجع السابق، 292.

[4] إسماعيل الفاروقي: التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة، ،ص286.