يقول ابن هشام في السيرة “فلما رأى رسول الله صلى االله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء. قال لهم:”لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام”[1].
وحينما يضيق الخناق وتشل الحركة وتهدر الحقوق ويمارس الاضطهاد بأبشع صوره ويبلغ مداه الأقصى فلا يبقى معه حينئذ إلا موقفين لا غير: إما المواجهة والثورة الصدامية الحتمية،وإما الهجرة والابتعاد عن مركز وقيد الردى ومهدم القيم وهضم الحقوق والاحترام.
الهجرة بين التعايش والثبات على التوجه والهوية
موضوع الهجرة في الإسلام يمثل المحطة المركزية في تحديد مستقبل الدعوة وضمان استمرارها، وذلك بالموازنة بين تجاذبات مقتضى الوطنية والتشبث بالبلد الأم وميراثها، ومكوناتها الاجتماعية والعرفية، وبين متطلبات الواقع والرؤية الكونية والعالمية العامة لمفهوم الإنسانية والعدالة وحماية الحقوق والأقليات والتعبير على أساس من الأخلاق واحترام الآخر والضيف والمستجير والمهاجر.
فالهجرة، وخاصة هاته الذي نحن بصدد الحديث عنها، ليست مسألة عادية أو حركة اجتماعية ومطلبا ماديا واقتصاديا محضا. وإنما هي هجرة دينية عقدية جد معقدة وشديدة الأثر سواء على نفسية المهاجر أو المهاجر إليه أو المهاجر به أو منه.
فالهجرة الأولى إلى الحبشة تمثل ضربة قاصمة لأعداء الرسول صلى االله عليه وسلم المتربصين بدعوته،كما ستكون محركا ومؤججا لغيرة القومية العربية لديهم بعدما واجهوا أبرهة بالأمس وكانت معه قصة الفيل وطير أبابيل حيث انهزم الأحباش وانسلخوا كالأكباش وعلموا أن البلد الحرام ممنوع عليهم وأنهم بالظلم لن يدخلوه، فانتهوا وتحولوا إلى أصدقاء بعدما كانوا أعداء!
ولهذا فإرسال النبي صلى االله عليه وسلم للصحابة وأهليهم إلى هذا البلد قد جاء في أعقاب أحداث مؤثرة ومهمة، بالنسبة إلى القوميتين العربية والحبشية، ترتب عنها محاولة إعادة الارتباط بعدما كان مفكوكا، وتثبيت العلاقة ذات التبادل التجاري بالدرجة الأولى الذي كان من تخصص قريش عبر التاريخ.
كما أنها جاءت من باب العز والرؤية البعيدة لنتائجها، نظرا لأن الحبشة وخاصة في عهد ملكها النجاشي رضي الله عنه الذي كان رجل عدل، والعدالة لا تصطدم مع أهلها، كيف ذاك ورسول الله صلى االله عليه وسلم هو محورها في هذه الأرض كما سبق وبينا في المرقى الأول من فجر النور.
ولهذا فالوطن الحقيقي هو حيث توجد العدالة وحماية الحقوق والحريات المكفولة، والعدل أساس الملك، إذن فلا ضير إن هاجر المهاجر يلتمس العدالة عند مطبقيها ولو كانوا من غير بني قومه وجلدته، وخاصة حينما يظلمونه من غير هوادة، وما أشد وقعه على النفوس كما يقول الشاعر [2]:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة علىالمرء من وقع الحسام المهنَّد
لقد كان عدد من خرج من المسلمين يقارب العشرة، على رأسهم: عثمان بن مظعون، كما كان أول من خرج من بني أمية حسب القائمة في كتب السيرة: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى االله عليه وسلم ومعهم آخرون.
وهذا الاختيار، الاضطراري في نفس الوقت، له دلالات وأبعاد روحية دينية دعوية، وفي نفس الوقت تتضمن القائمة أطرا اقتصادية واستثمارية ستكون ذات اليد الطولى والحضور الفعال في نصرة الدعوة ودعمها ماديا ومعنويا، وهذا غير خفي عن واقع عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، الذين اشتهرا بوفرة المال وحسن استثماره وإنفاقه في سبيل الله تعالى حينما يجد الجد!
الهجرة الأولى ومبدأ المساواة والنموذج من نفسك
كما أن الهجرة تتضمن عنصرا آخر، أهم من هذا وذاك، ألا وهو جانب آل بيت رسول الله صلى االله عليه وسلم وحضورهم الفعلي باعتبارهم أول المهاجرين والنموذج التطبيقي لعدالة الدعوة، كانت أولهم السيدة رقية عليها السلام بنت رسول الله صلى االله عليه وسلم.
وهذا فيه تأكيد على أن الدعوة وتحمل تبعاتها وآلامها ليس رهنا بالعبيد والمستضعفين من المسلمين وإنما أول من سيناله بلاؤها هم المقربون بالنسب والنسبة من رسول الله ﷺ، وخاصة فلذة كبده وقرة عينه، وهذا امتحان أعسر مما سبق من رؤيته لأصحابه وهم يعذبون أمامه كما مر بنا.
وفي هذه الهجرة كانت أول تجربة لتجاذب القرب والبعد عن مركز النور و الهداية واختبار مدى التأثر بهذه العوارض (الزمانية والمكانية) وأثرها على القلوب والضمائر وكذا الأبصار.
إذ بعدما كان هؤلاء المهاجرون يتملَّون كل يوم أوكل ساعة بطلعة الحبيب، ويستنيرون بنوره عن قرب أقرب إليهم من ذواتهم، إذا بهم فجأة يجدون أنفسهم مضطرين لأن ينتقلوا من عين الحضرة وشمسها إلى مكان وعالم مهما عدَل واعتدل فلن يعادل بسنواته وأمياله ولو لحظة واحدة وهم في حضرة نبيهم ومصدر حياتهم وشعورهم، بالرغم من التنكيل والتعذيب الذي كان يمارس عليهم ليل نهار، حسا ومعنى .
فهم قد حصل لهم في ظاهر الهجرة كمن ينتزع رضيعا من ثدي أمه قبل الفطام وهو ما يزال مشتاقا إلى ارتوائه من لبنها واحتمائه وتدفئته بحنانها !
موقف صعب جدا جدا! هذا الذي أمامنا حينما نقيسه على العواطف العادية والظاهرية، ولكن هيهات هيهات ! فلقد كان الخط متصلا والحبل موصولا والورد مورودا والشمس التي لا تغيب باسطة شعاعها لا يحجبها ضباب أو سحاب، كما كان هناك توجه واستحضار قلبي، هو سر هذا الثبات والصبر لديهم نجد بصماته في هذا الخطاب.
“قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة فكانوا بها،منهم من خرج بأهله معه،ومنهم من خرج بنفسه لا أهل معه… فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارا وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم …”.
هذا السر في الالتزام والاستمرارية الروحية على نفس الوتيرة التي كانوا عليها وهم في مجلس رسول الله صلى االله عليه وسلم سيتجلى بوضوح حينما استقبلهم الملك النجاشي وناورت قريش من أجل إعادتهم كرها إلى موطنهم الظالم أهله، حيث افتعل عمرو بن العاص حينئذ ما بدا له من المكائد لإيقاعهم في الشباك والاستدراج العقدي للنجاشي.
ففي رواية أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى االله عليه وسلم قالت لما استدعوا للاستجواب حول قولهم في المسيح وأمه عليهما السلام :”فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه ؟قالوا :نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا صلى االله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن، قالت:فلما دخلوا عليه قال لهم:ما تقولون في عيسى بن مريم؟قالت:فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا :هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.قالت فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي (والشيوم: الآمنون)، من سبكم غرم”.
إنه صدق التوجه واستحضار لهمة رسول الله صلى االله عليه وسلم وتعظيم لحضرته وهم في حضرة الملك النجاشي، ولهذا فلم ترعبهم القصور والحراس والمراسيم، فعلت حينئذ همتهم بهمته وسما إذنهم بإذنه فكانت الغلبة لهم في النهاية على أعدائهم وعاذليهم.
كما أن الموقف يعطي درسا قويا لبائعي الذمم والتجار في الدين حينما يجلسون في حضرة الملوك والرؤساء وذوي الجاه والسلطان من أهل الدنيا فيسعون إلى كسب رضاهم ومسايرة أهوائهم ورغباتهم بقلب الحقائق وتأويل النصوص على هواهم فضلوا وأضلوا !
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا مـا نرقّعُ[3]
فطوبى لعبدٍ آثر الله ربّه وجـاد بدنياه لمـــا يَتوقعُ
هكذا إذن أصبح المسلمون المهاجرون بالرغم من قلة عددهم يساهمون في تحقيق نمو البلد المستضيف لهم روحيا وتربويا وأخلاقيا وحتى اقتصاديا، بل وسياسيا في دعمهم الروحي والمعنوي للنجاشي بالدعاء له بالنصر والعز حتى ظهر على مناوئيه كما تذكر ذلك كتب السيرة تفصيلا.
جانب آخر لا ينبغي أن نغفل عنه في هذه الهجرة و ما ترتب عنها من لقاء مباشر مع النجاشي ملك الحبشة وما جرى فيه من مناورات قريش، ألا وهو إقرار الوجود الإسلامي في البلاد باعتباره دينا رسميا مسموحا بممارسته في حرية واحترام. كل هذا سيمثل نواة إعلامية على المستوى العالمي وسيساهم في نشر الدعوة الإسلامية وإيصال خبرها إلى بقاع المعمور وخاصة دول إفريقيا وما جاورها إلى أقصى المغرب…
إذ بطبيعة الحال قد كان بالحبشة سفراء ووفود من الخارج بحكم السياسة والعلاقات الدولية، ومن ثم فلا بد وأن الخبر سيصل إليهم إما حضوريا أو بواسطة البطانة والممثلين الرسميين للدولة،وذلك لأن المسألة تتعلق بقضية دينية جوهرية، وخاصة ما يتعلق بالحديث عن طبيعة المسيح وأمه عليهما السلام، وهذا ما سيجعل الخبر ينتقل كالنار في الهشيم إلى جل الدول المؤمنة بالمسيحية، كما سيثير نقاشا عقديا وروحيا كبيرا حول موضوع هم مختلفون فيه ومتشككون في مسألة مزاعم صلب المسيح وهل هو في طبيعته ناسوتي أم لا هوتي أم معا؟ إلى غير ذلك مما ضل به الكثير .
بحيث سيكون الأقرب إلى معرفة خبر المعجزة وهذا اللقاء الرسمي مع الحبشة هم نصارى الجزيرة العربية وخاصة نصارى نجران الأقرب إلى اليمن واستيطان الحبشة به .
ولم لا يكون الخبر قد وصل للتو إلى هرقل ملك الروم فكان منه ذلك الرد الإيجابي والمعتدل حينما بعث إليه الرسول صلى االله عليه وسلم برسالة يدعوه فيها إلى الإسلام؟ حتى إن موقفه قد كان شبيها بالنجاشي، وأيضا ما جرى من اعتراض حاشيته وبطارقته عليه لما بدا منه نوع من التسليم لحد أن أرغموه على الرضوخ وتعديل موقفه بما يوافق هواهم حفاظا على كرسي الملك، فكانت نتيجته غير ما توصل إليه النجاشي وفاز به وأفلح.
لسنا هنا الآن بصدد التفصيل التاريخي من أجل تحديد زمن الهجرة الأولى من الثانية إلى الحبشة، وهل كانت عند كتابة الصحيفة الظالمة والحصار بالشعب أم بعد فسخها، ناهيك عما اختلق من مسألة الغرانيق، وما وضع بها من أكاذيب وأضاليل حول سورة النجم، لا تتناسب بتاتا مع مقام النبوة والرسالة وجوهرها، ولا مع ثبات العقيدة وعمق توحيدها.
ولكن هدفنا هنا هو الإشارة إلى هذه المعاني الكبرى التي واكبت الهجرة إلى الحبشة وما ترتب عنها من حركة إعلامية قوية ساهمت في نشر الدعوة الإسلامية وهيأت الأرضية المناسبة للهجرة الكبرى، هجرة النبي وأصحابه إلى يثرب وتحويلها بكيمياء نورانية إلى أعظم حاضرة سماها صلى االله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
لكن فيما يبدو أن مسألة صحيفة الحصار حدثت بعدما رأى كفار قريش أن زمام الأمور قد انفلتت من أيديهم وأن القضية أخذت طابع العالمية، أو بعبارة حديثة قد دولت ولم تعد مجرد صراع محلي وتفاعل داخلي،سيلجأون بالمواكبة معها حينئذ إلى استعمال أسلوب الحصار أو العقوبات الاقتصادية والاجتماعية لإضعاف القدرة الشرائية للمسلمين ومن والاهم، واستعمال التجويع كسلاح قاس لدى الجبناء حينما يعجزون عن مواجهة الأقوياء بمبادئهم وعقيدتهم وتضامنهم !
[1] ابن هشام: سيرة النبي ج1ص343
[2] من معلقة طرفة بن العبد
[3] أبيات تنسب لإبراهيم بن أدهم الصوفي