من بين الدروس الكثيرة التي نتعلمها من درس الهجرة، وعلى مستوى الفرد والمجتمع، يأتي درس الحرية كأحد وأهم هذه الدروس.. فكيف تعلمنا الهجرة الحرية؟

يلزمنا أن نوضح ابتداءً أن الهجرة ليست فرارًا من واجب، ولا بحثًا عن راحة ودعة؛ وإنما هي مواصلة لطريق البذل والتضحية، بل وربما يكون ذلك بأكثر من سابقه! وهي أيضًا استفتاح لساحات جديدة بعد أن سُدَّت القديمة وصار من المحال فتح ثغرة في جدار العتمة!

فالمسلمون حين سلكوا طريق الهجرة لم يكونوا يبحثون عن مرفأ آمن، ولا ينشدون سلامة لذواتهم.. وإنما هم قد ارتفعوا فوق طموحاتهم ومتاعبهم الشخصية، وأصبحوا مرتبطين فحسب بدعوتهم.. فكيف يَقرّ لهم قرار وهم يرون هذه الدعوة تواجه الصعاب، أو لا يمكنها مواصلة الطريق نحو الهداية وتبليغ كلمة الله تعالى للناس؟!

إن الهجرة، حينئذ، خيار لا مفر منه، وضريبة مستحقة للوفاء بِدَيْن نعمة الإسلام، يبذلها المؤمن عن طيب نفس، ابتغاءَ ما جعله الله تعالى للمهاجرين من جزاء في الدنيا والآخرة: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء: 100).

ونستطيع أن نقول إن الهجرة نوعان: هجرة مادية، تتصل بمغادرة مكان ما إلى مكان آخر؛ وهذا هو المعنى الأول والمقصود من إطلاق كلمة الهجرة؛ والتي تعني الهجرة من مكة إلى المدينة.. وهجرة معنوية، تتصل بترك ما حرم الله تعالى إلى ما أحل، وما يسخطه إلى ما يرضيه.. والهجرة الأولى قد انقطعت بفتح مكة ([1]). والثانية باقية ما بقي في الحياة صراع بين الحق والباطل، والخير والشر.

وقد أشار الحديث الشريف إلى الهجرة الأولى بقوله : “لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ؛ وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا” (متفق عليه).. وأشار إلى الهجرة الثانية بقوله: “المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ” (متفق عليه).

وما تهمنا الإشارة إليه هنا، هو أن نلفت النظر إلى أن كلتا الهجرتين تعلمنا الحرية.. وتوضيح ذلك فيما يلي..

الهجرة المادية

نستطيع أن نقول إن الحرية هي ألا يقع المرء أسيرًا لأي قيد أو شرط يكبِّله عن فعل ما يريده مما يوجبه عليه ضميره أو يهديه إليه عقله؛ فإذا حيل بين المرء وما يريد فإنه لا يكون حرًّا في فِعْله ولا تَرْكه، ولا مؤاخذة عليه حينئذ.

والهجرة المادية تتصل بمكانٍ يُضيَّق فيه على المؤمنين أن يبلّغوا كلمة الله تعالى؛ فحينئذ تأتي الهجرة لتحرر الإرادة مما يكبّلها عن الفعل؛ كما حدث مع النبي وصحابته في مكة؛ فقد وقع عليهم العذاب، وحوصروا واضطهدوا، ومُنعوا من تبليغ هداية الله.. حتى أذن الله تعالى لهم بالهجرة إلى مكة، بعد الهجرة للحبشة؛ لتحرر إرادتهم في الدعوة والتبليغ، ولا يقع عليهم ما يجعلهم عاجزين عن ممارسة ما يعتقدون.

بل إن الهجرة هنا لا تعلمنا الحرية على سبيل الاختيار، بمعنى أن المرء قد يهاجر أو لا، وإنما تجعل هذا الدرس أمرًا مفروضًا لا خيار إزاءه؛ فكانت الهجرة من مكة فريضة لا يُعذر فيها إلا من قهره العذر.. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 97).

جاء في (تفسير السعدي): “هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: {فِيمَ كُنْتُمْ} أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم. {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة. ولهذا قالت لهم الملائكة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله”([2]).

فالهجرة المادية، أي المتصلة بالمكان، تعلمنا الحرية وعدمَ الاستسلام لضغظ المكان.. وترشدنا إلى البحث عن البدائل؛ لأن البدائل لازم من لوازم الاختيار القائم على الحرية؛ فإذا انعدمت البدائل صار المرء مضطرًا لا مختارًا، ومكبَّلاً لا حرًّا..

كما أنها من ناحية أخرى توجهنا إلى ترتيب القيم، بحيث نختار أهمها عند التعارض ولا نقع أسرى لشعور نفسي فطري تهواه النفس.. فالارتباط بالمكان أمر فطري يميل إليه الإنسان؛ لكن عند تعارضه مع قيمة أعلى، هي التمسك بالدين والدعوة إليه، يجب تقديم القيمة الأعلى.. وهذا معنى آخر مهم من معاني الحرية التي تعلمنا الهجرة إياها.

الهجرة المعنوية

وكما أن المرء قد يقع تحت “ضغط المكان”، فيتحرر منه بالهجرة المادية، التي تفتح له آفاقًا أوسع وأرحب.. فإنه قد يقع أيضًا تحت “ضغط الحال”، فيتحرر منه بالهجرة المعنوية، التي تعيد له إرادته، وتجعله يمتلك زمام أمره، ولا يقع أسيرًا لرغبة أو شهوة أو ظرفٍ ضاغط خانق.

فالهجرة المعنوية تتصل بترك ما حرم الله تعالى إلى ما أحل، وما يسخطه إلى ما يرضيه، كما تتصل بالتحرر من لحظات الضعف التي تصيب الإنسان أمام الشهوات أو المصائب والشدائد.. فكل هذه الأحوال التي تشكّل قيدًا على حرية الإنسان وإرادته، وتجعله أسيرًا مكبَّلاً، عليه أن يتحرر منها، ويعلن إزاءها ألا شيء يمكنه أن يؤثر على عزيمته، ويجعله مقهورًا مستعبَدًا.

ولهذا كانت المعصية نوعًا من الرق.. وكان الهمّ مكبِّلاً لحرية الإنسان، يحاصره ويشلّ إرادته.. ونحن مطالبون تجاه ذلك، بالتحرر من لحظات الضعف التي تجعلنا نستسلم ونضعف.. فجاء الحديث الشريف السابق ليعلمنا أن من معاني الهجرة هجرة ما نهى الله عنه. كما استعاذ النبي من الهم والحزن وغيرهما فقال: “اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والبُخْلِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجالِ” (البخاري)؛ لأن هذه الأمور تستعبد الإنسان وتشل فاعليته؛ فوجب عليه أن يتحرر منها، وأن يمتلك إرادته وحريته إزاءها.

وهذه الهجرة المعنوية قد تشق على الإنسان، وتحتاج لمجاهدة عظيمة منه، كما تحتاج لوعي وإدراك بمهمته في الحياة، وبالقيم وترتيبها الذي ينبغي أن يوجِّه سلوكه.. فهي تستلزم “حرية عقلية” تجعله قادرًا على حسن التفكير والتدبير والأخذ بالأسباب.. و”حرية نفسية” توفر له الانعتاق من أسْرِ لحظات الضعف أو الاستسلام للرغبات والشهوات..

وعليه أن يستعين في كل ذلك بالله تعالى؛ فهو صاحب الهداية والعون، وهو من بيده القلوب والعقول يوفِّقها ويهديها سُبل الرشاد..


([1]) وإنْ بقي حكم الهجرة من أي مكان يُضيَّق فيه، قائمًا؛ فما انقطع هو الهجرة من مكة التي صارت أرض إسلام بالفتح. جاء في (فتح الباري): (قَوْلُهُ بَابُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ): أَيْ فَتْحِ مَكَّةَ، أَوِ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حُكْمَ غَيْرِ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ حُكْمُهَا؛ فَلَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُون،َ أَمَّا قَبْلَ فَتْحِ الْبَلَدِ فَمَنْ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ قَادِرٌ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْهَا لَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ وَلَا أَدَاءُ وَاجِبَاتِه،ِ فَالْهِجْرَةُ مِنْهُ وَاجِبَةٌ؛ الثَّانِي قَادِرٌ لَكِنَّهُ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ وَأَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ، فَمُسْتَحَبَّةٌ لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا وَمَعُونَتِهِمْ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْأَمْنِ مِنْ غَدْرِهِمْ وَالرَّاحَةِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ؛ الثَّالِثُ عَاجِزٌ يُعْذَرُ مِنْ أَسْرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِه،ِ فَتَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ فَإِنْ حَمَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّفَ الْخُرُوجَ مِنْهَا أُجِرَ” (6/ 190).

([2]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي (1/ 195).