الهجرة النبوية التي نحتفل بها دوماً مع مقدم كل سنة هجرية جديدة، كانت عملاً منظماً وفق مخطط استراتيجي، بحسب تعريفاتنا المعاصرة. فلم تكن الهجرة خاطرة أو فكرة تداولها الرسول الكريم – – مع أصحابه ليلاً، ثم حمل كل أحد منهم متاعه فجراً وغادر مكة. لا، الأمر لم يكن بهذه البساطة، بل أعقد وأشمل من هذا التصور بكثير.

مراحل الهجرة النبوية

بداية وقبل الخوض في التفصيلات، الهجرة النبوية الشريفة تمت على مراحل عدة، ولم تقع أساسا في شهر محرم كما يعتقد كثيرون. صحيح أن الهجرة كفكرة ومشروع، بدأ التجهيز والاستعداد له في محرم، لكن تمت واكتملت فعلياً بهجرة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام مع صاحبه الصديق أبي بكر، في الثاني عشر من ربيع الأول، كما تقول أغلب روايات المؤرخين. شهر الله المحرم تم اختياره في زمن الفاروق عمر رضي الله عنه، والصحابة في بحث عن وضع تأريخ خاص بالمسلمين، فتم اختيار محرم لبداية السنة الهجرية، لأن فيه تم تداول فكرة الهجرة واتخاذ القرار، وعلى اعتبار أن الهجرة النبوية الشريفة من أعظم الحوادث في التاريخ الإسلامي، وكانت إشارة للتفريق بين الحق والباطل، وبدء العمل على نشر الدعوة الإسلامية في الجزيرة، ومنها للعالم أجمع.

مسألة الهجرة إذن لم تكن عملاً عشوائياً أو وليد لحظته، إنما كانت أحد التكتيكات أو الوسائل التي اتخذها الرسول الكريم – – ضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى، إن صح وجاز لنا التعبير- حيث كانت الهجرة ضمن خطة عشرية رسمها خلال وجوده بمكة، حيث نفذ مجموعة عمليات تمهد للهجرة، ختمها برحلته – – أو لجوئه إلى يثرب.

التخطيط للهجرة

قام عليه الصلاة والسلام بالتجهيز لهذه الرحلة مبكراً، وقبل ذلك أرسل دفعة من أصحابه كفريق احتياطي إلى أرض لا يُظلم بها أحد، أرض الحبشة عند النجاشي. بحيث يعد هذا الفريق نفسه في أرض آمنة، وينشر الدعوة كذلك بشكل غير ملحوظ، حتى يكون على استعداد تام لأي أمر طارئ، بحيث لو وقع مكروه للفريق الأساسي بمكة، يقوم هذا الفريق الاحتياطي بالعمل ومواصلة مسيرة الدعوة. هذا من جانب. من جانب آخر، بدأ عليه الصلاة والسلام في حث أصحابه للهجرة سراً نحو يثرب، بعد أن أعد الأرضية الصلبة لذلك عبر الاتفاقيات والعهود التي أبرمها مع الأنصار الكرام في بيعتي العقبة الأولى والثانية، حيث اطمأن إلى الأنصار، واعتبر يثرب الحاضنة الثانية المناسبة لأصحابه، بعد الحبشة.

من ضمن استعداداته للهجرة أيضاً ومنذ وقت مبكر، تكليفه أبا بكر بتجهيز راحلتين تصلحان لمهمة السفر الشاق والبعيد، فكان رضي الله عنه يقوم بتعليفهما بنوعية معينة من العلف الذي يقوي جسم الراحلة، وكان على ذلك الأمر مدة كافية دون أن يلحظ أحد ذلك. لتبقى بعد ذلك مسألة أخرى مهمة هي الأمانات، التي كان الناس يودعونها عنده – – لما عرفوا عنه الأمانة، فقام بتكليف ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه القيام بمهمة رد تلك الودائع إلى أصحابها، وفي وقت مبكر كذلك وبشكل طبيعي لا استعجال فيه أو توتر، كيلا يتنبه أحد لما يجري وأن النبي – – يخطط للسفر أو الخروج من مكة.

الاستعدادات اللوجستية

من ضمن ترتيبات الدعم اللوجيستي والتخطيط للهجرة، استئجار دليل أو مرشد للطريق لكن من خارج مكة، ممن لا شأن لهم بما يجري بين محمد وقريش. والترتيب مع مولى أبي بكر، عامر بن فهيرة أن يقوم بدفع أغنامه وقت الهجرة للسير على آثار راحلتيهما، كيلا يكتشف قصاصو الأثر ذلك، وتكليف أسماء بنت أبي بكر – ذات النطاقين – في مسألة التموين اليومي اللازم، مع إسناد مهمة تتبع الأخبار في مكة إلى عبدالله بن أبي بكر، وقد كان صغيراً، بحيث ينقل الأخبار إلى النبي وصاحبه أولاً بأول. وهكذا كانت الأمور تُرسم وتُخطط ضمن سيناريو محكم تم التجهيز له منذ أشهر، حتى وصوله وصاحبه رضي الله عنه إلى مقصدهما بسلام، لتبدأ مرحلة جديدة في الدعوة.

الاندماج الاجتماعي

إن هجرة شعب إلى ديار شعب آخر، ليست بالأمر السهل. إنك حين تهاجر كلاجئ سياسي تطاردك دولتك بكل مؤسساتها وقواها، ومعك المئات من المعارضين، لا شك أنه عبء كبير على الجهة المستضيفة، وقد كانت تلك الجهة في مشهد الهجرة، يثرب أو المدينة المنورة بعد ذلك، والتي لم تكن بقوة قريش عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

كانت مدينة متواضعة اقتصادياً. شعبها يعيش على الزراعة، وبينهم خلافات لا تهدأ، كانت تصل أحياناً لحد الاقتتال وسفك الدماء. وتعيش بينهم قبائل يهودية متناحرة أيضاً، لكنها تتفق ضد الأوس والخزرج من الأنصار. أي أن الوضع السياسي كان مضطرباً غير مستقر، وإثارته لم تكن بتلك الصعوبة!.

حاول أن تتأمل دولة وضعها مثل وضع يثرب في تلك الفترة. ثم تأتيهم أفواج لاجئة من دولة ذات شأن وبأس. وأغلب اللاجئين تركوا ما عندهم من مال في بلدهم، وبالتالي هم والفقراء في مرتبة واحدة، ولا يفقهون في مهنة أهل يثرب وهي الزراعة، وبالتالي هم عالة عليهم إلى حين من الدهر لا يعرفون مداه.

لكن كل تلك الأمور كان قد وضعها النبي الكريم – – في الاعتبار. كيف؟ أهل يثرب من الأنصار، بايعوا النبي الكريم – – قبل الهجرة، على أن يكونوا حماة له وللدين الجديد في المنشط والمكره، والسراء والضراء.

أصبح الوضع الاقتصادي أصعب من ذي قبل، لكن الأنصار على دراية بذلك، وسيدخل في ذلك المشهد بعد قليل، اليهود ومن سيُطلق القرآن عليهم لفظ المنافقين، ليعملوا عملهم في إثارة النزعات العنصرية وبث الكراهية في نفوس ضعاف الأنصار ضد هؤلاء اللاجئين، الذين ما جاءوا إلا ليتقاسموا لقمة عيشهم مع أهل يثرب، بل ربما السيطرة عليها بعد حين، وغيرها من أكاذيب اليهود والمنافقين، كما هو الحاصل في بلدان تحتضن لاجئين من نفس الملة، رغبة أو رهبة.

مشاهد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لم يشهد لها التاريخ مثيلا. وكان حلاً من الحلول المرحلية اللازمة لتثبيت أسس الدولة. ثم وثيقة المدينة التي وضعها النبي الكريم بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم. اعتبرهم أمة واحدة من دون الناس. وبذلك تم وضع أساس دولة ستقام بعد قليل. وغيرها من عمليات تأسيسية متدرجة، اندمج أثناءها المهاجرون والأنصار في بوتقة واحدة، حتى صاروا شعباً واحداً، وعليهم قامت دولة الإسلام الأولى.

خاتمة

وهكذا هي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة. دروس لا تنتهي..

قد كانت رحلة هادينا
حمل الإسلام لنا دينا
فسلامُ الله على الهادي
والكونُ يردد آمينا