ربما أكثرنا يعرف تفاصيل غزوة بدر وأحداثها لما لها من أهمية في تاريخ الإسلام وفضل كبير لمن شهدها ولكنني هنا أريد التوقف عند أحد أحداث هذه الغزوة العظيمة.
موقف جعلني أتأمل كثيرا ، إذ أنه يُظهر عظمة هذا الدين وعظمة رسوله والفهم العميق لصحابته.
عندما تحرك رسول الله إلى موقع ماء بدر، وبالقرب من مكان المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر ، وهنا قام الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع قائًلا :
يَا رَسُولَ اللّهِ ! أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ : ” بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ” .. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ [ أي ندفن ] مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ..
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – مشجعًا – :” لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ”.
ومن هذا الموقف أسجل عدة نقاط :
– لم يُلغ الحباب رضي الله عنه عقله وخبرته حينما رأى من اختيار رسول الله شيئا لم يستقم مع عقله وخبرته ، ولم يمنعه كونه رسول الله أن يراجعه في الأمر وأن يبدي رأيه الفني فيه، حتى وإن كان مخالفا لرأي رسول الله ﷺ، فهذا ما يعلمنا الإسلام إياه ويوجهنا اليه ،وكان مما يعيب على كفار قريش أنهم يتركون عقولهم ويتبعون ماوجدوا عليه آباءهم وأجدادهم !! فما بالنا نلغي عقولنا عند من هم دون رسول الله وفي أمور قد لاتكون من اختصاصهم أصلا ؟!!
– عندما سأل الحباب رسول الله : ” أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ ” هنا يعرف الحباب حدود عقله حينما يتعلق بالوحي وباختيار الله سبحانه وتعالى فهو يعلم أنه مهما أوتي من علم وخبرة وذكاء فأوامر الله ونواهيه يجب تنفيذها حتى لو جهلنا أسبابها والحكمة من ورائها.
– انظر كيف تكون القيادة الحقيقية ، فرسول الله لم يمتنع يوما من الاستماع لرأي أتباعه أيا كان وأنه ﷺ حينما يستمع لهم يُقبل عليهم بأذنه وعقله وقلبه ، ثم انظر كيف يغير رأيه حينما علم أن رأي الحباب كان أصوب من رأيه ، بأبي وأمي رسول الله ﷺ ، لم ير التاريخ قائدا مثله.
فهذا موقف صغير من غزوة بدر ولكنه يحتوي على مفاهيم عظيمة في غاية الأهمية تنبني عليها أمور عظيمة في ديننا.