يُعدُّ كتاب “تشنغ خه – إمبراطور البحار الصيني” ضمن الكتب العربية القليلة في علم الصينيات والتي سعت للتعريف بأحد أبرز الشخصيات في التاريخ الصيني بوجه عام، وتاريخ أسرة مينغ الحاكمة بشكل خاص، وهو عملاق التاريخ الصيني، الأدميرال المسلم تشانغ خه، المعروف لدى العرب بـ “حجي محمود”، أحد أعلام البحرية الصينية الذي حقق إنجازات فريدة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الملاحة الصينية، وترك بصمات خالدة خلال رحلاته السبع التي رسمت طريق الحرير البحري التاريخي. وقد ظهرت الطبعة الأولى من الكتاب في عام 2020م، بالتعاون مع دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، وترجم إلى عدد من اللغات العالمية، بما فيها اللغة الإنجليزية في عام 2025م.
أما مؤلف الكتاب فهو الدكتور علي بن غانم الهاجري، الدبلوماسي القطري وصاحب عدد من المؤلفات التاريخية والاقتصادية والأدبية، منها: “قطر في عيون الرحالة”، و”السلطنة الجبرية”، و”إمبراطور الشرق تشودي”، و”الحاجب المنصور أسطورة الأندلس”، و”أوراق اقتصادية على طريق الحرير”، و”أسطورة إفريقيا: الشيخ عثمان بن فودي”، ورواية “أسطول الشمس”، و”علم الصينيات العربي ودراسة الصين المعاصرة”، و”علم الصينيات ودراسة الصين المعاصرة في أوروبا” و” الصين في عيون الرحاّلة والجغرافيين المسلمين” وغيرها من الإصدارات القيمة. ولأهمية أعماله في علم الصينيات والتاريخ والاقتصاد تمت ترجمتها إلى أكثر من20 لغة بالتعاون مع دور نشر وجامعات ومراكز البحوث من مختلف أرجاء العالم.
ويُعتبر هذا الكتاب الذي بين أيدينا من أهم الكتب التي تناولت تاريخ هذه الشخصية الصينية المسلمة الفذة التي تركت بصمات خالدة في تاريخ الملاحة العالمي والصيني بشكل خاص، حيث خصص الدكتور الهاجري الكتاب لإبراز مكانة تشنغ خه وإنجازاته خلال رحلاته البحرية الممتدّة لأكثر من سبعة وعشرين عامًا، وذلك بعد ما لاحظ عدم إيلائها عناية يليق بمكانتها، لاسيما عند الكُتاب العرب. وقد أعرب الكاتب عن دهشته في مقدمة الكتاب من إهمال الكتّاب لهذه الأسطورة الصينية، قائلاً: “من عجائب التاريخ أن يُهال تراب النسيان على مثل هذه الشخصية التي كان يجدر بكلّ متخصص في هذا الحقل المعرفي أن يوليها ما تستحق من الاهتمام والإجلال والقراءة المنهجية العلمية الدقيقة.” وبناءً على ذلك، يسعى هذا المقال المقتضب إلى إبراز التأثيرات الحضارية لرحلات تشنغ خه من خلال هذا الكتاب، بما في ذلك الإرث الديني والإنساني والاقتصادي، وذلك من خلال النقاط التالية:
رحلات تشنغ خه وأهميتها التاريخية
في إطار دراسته لرحلات تشنغ خه السبع في دُفتي هذا الكتاب والتي أطلق عليها أيضا (رحلات الكنز)، أشار الدكتور الهاجري إلى أنه منذ عام 1405م، إلى1433م، قاد تشنغ خه 7 رحلات ممتدة لأكثر من سبعة وعشرين عامًا أبحرت إلى ماليزيا، وإندونيسيا وتايلاند، والهند، وسريلانكا، وإيران، وعمان، واليمن، والسعودية، والصومال، وكينيا، والعديد من البلدان الأخرى، بل – كما يقول جافين منزيس- وصلت قطع الأسطول إلى الشواطئ الأمريكية والأسترالية. وهذه الحملات لم تكن أمراً سهلاً بل كانت في غاية الصعوبة والخطورة؛ لأنها إبحار في العالم المجهول، ولأنها تمثل أول الرحلات الاستكشافية الواسعة النطاق، ومع هذا نجحت جميع الرحلات السبع نجاحاً كبيراً، كما حققت إنجازات كبيرة للشعوب وللإنسانية في مختلف المجالات.[1]
ومن حيث أهمية هذه الرحلات، أوضح الهاجري بأن رحلات تشنغ خه البحرية يعدُّ بصدق علامة فارقة، ليس في تاريخ الصين فحسب، بل في تاريخ الملاحة العالمي على وجه العموم، فقد كانت استكشافا ملاحيًّا ناجحا في مسيرة تقدم الحضارة البشرية، وجهودا جبارة هدفت لربط حضارة الصين بالحضارات الأخرى، حيث شكلت تلك الرحلات بداية التلاقح الحضاري من اندماج الفنون والأفكار، والعلوم، والتكنولوجيا الشرقية والغربية بعضها ببعض، ودفع تبادل الزيارات الودية بين الصين ومختلف الدول الأخرى، وربط الحضارة الصينية بحضارات العالم. وقد تعرفت بلدان العالم من خلالها على عزيمة الشعب الصيني في شخصية تشنغ خه الذي لا يهاب التحديات الطبيعية والصعوبات والمشقات، وتعرفت الشعوب على قيم الأمة الصينية المتمثلة في محبة السلام، والسعي وراء التقدم، والارتقاء بروح منفتحة نحو الآخر. [2]
الإرث الديني في رحلات تشنغ خه
لم تكن طريق الحرير الصيني طريقًا للتبادل التجاري والتعاون الاقتصادي فحسب، بل كان كذلك مساحةً للتلاقح الفكري والحوار العقائدي، حيث انتقلت عبرها الديانات المختلفة، بما في ذلك البوذية، والزرادشتية، والكونفوشية، والمسيحية، والمانويّة، والإسلام. فعلى سبيل المثال، ساهم طريق الحرير بدور كبير في انتشار الإسلام، بجميع المناطق الإسلامية في آسيا والموجودة على طريق الحرير البري، وكذلك في تلك البلدان الواقعة على الطريق البحري. ووفقًا للباحثين، فإن الآثار الاقتصادية والسياسية لم تكن هي الآثار الوحيدة لرحلات تشنغ خه، حيث كان للجانب الديني حضور قوي في هذه الرحلات، بما في ذلك نشره للإسلام في جنوب شرق آسيا، إذ ساهم مع العديد من مستشاريه المسلمين في نشر الإسلام أينما حلّوا، بما في ذلك الجزر الإندونيسية وجاوا وسومطرة وبورنيو وغيرها، كما ساهم تشنغ خه في تكوين جاليات صغيرة من المجتمعات الإسلامية، والتي كان لها دور كبير في انتشار الإسلام في هذه المناطق فيما بعد[3]. وفيما يلي تفصيل للأبعاد الدينية في رحلات تشنغ خه، وهي كالتالي:
العلاقة بين تشنغ خه وانتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا
يتفق عدد من الباحثين بأن العلاقة بين تشنغ خه والإسلام في جنوب شرق آسيا وثيق الصّلة، إذ يؤكدون على أن بعثات تشنغ خه ساعدت في ربط الشرق والغرب من خلال النقل البحري وتوسيع الروابط بين جنوب شرق آسيا والعالم الإسلامي من ناحية، وتسريع انتشار الإسلام من ناحية أخرى. ومن ثَم فعندما يتحدث المؤرخون الأجانب عن دور تشنغ خه في نشر الإسلام خارج الصين فإنهم يهتمون في الغالب بنشاطاته عامة، ومنها: نشره للإسلام في أرخبيل إندونيسيا وخاصة جاوا.
ومن بين أولئك المؤرخين؛ المؤرخون الإندونيسيون من أمثال: هامكا، وأونجانج بارليندونجان، وعثمان أفندي، وأجوس سجدي، وهارتونو كاسمادي؛ ومنهم أيضا الباحثون الصينيون الإندونيسيون مثل: ليم ثيان جو وبيني ج. سيتونيو؛ ومنهم كذلك العلماء السنغافوريون أمثال: لي خون تشوي وتان يوك سيونج؛ والعلماء الغربيون ومنهم: دي ويلموت، وروبرت موريسون، فجميعهم يحملون الرأي الذي يفيد بالعلاقة الوثيقة بين بعثات تشنغ خه والمسلمين في جنوب شرق آسيا. كما وُثقت أعمال تشنغ خه في نشر الإسلام في عدد من الأدبيات في جنوب شرق آسيا، فمن تلك الأدبيات ما استندت إلى مواد تم جمعها من معبد تشنغ هو (معبد سام بو كونغ) في سيمارانج، حيث يسميها علماء آخرون باسم سيمارانج كرونيكل أو سيمارانج وكيربون كرونيكل.[4]
أنشطة تشنغ خه المرتبطة بالإسلام في جنوب شرق آسيا
لقد قام تشنغ خه ومرافقوه من المسلمين بدور كبير في نشر الإسلام في جنوب شرق آسيا وغربها وكذلك في المنطقة الهندية، وذلك من خلال العديد من الأنشطة الدينية، ويمكن تصنيف أنشطة تشنغ خه المرتبطة بالإسلام في جنوب شرق آسيا والهند وغرب آسيا إلى ثلاثة أمور نوجزها فيما يأتي:
إقامة تشنغ خه للشعائر الدينية
تعدُّ الصلاة أحد الأنشطة التي كان تشنغ خه يمارسها ويحافظ عليها، ومن الشواهد التاريخية التي تؤكد ذلك ما كتبه مانجارادجا أونغانغ بارليندونغان أنه في عام 1413م، ظلَّ الأسطول الذي أرسلته حكومة مينغ في سيمارانج (في إندونيسيا اليوم) لمدة شهر كامل لإجراءات إصلاحات في الأسطول، وخلال تلك الفترة كان القادة الثلاثة (تشنغ خه، ما هوان، فاي شين) يترددون كثيرا على مساجد تلك المنطقة للصلاة، كما عُرف عنه وأصحابه أيضا تعلقهم بالمساجد والمكوث فيها، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على محافظة تشنغ خه على الصلوات وتلاوة القرآن. وفضلاً عن ذلك كان تشنغ خه يُظهر في تصرفاته انتماءه لدين الإسلام، فكان يعبِّر عن ذلك بتمسكه بإقامة الشعائر والحرص عليها.[5]
مساهمة تشنغ خه في بناء المساجد
يُعتبر بناء المساجد من أهم الأعمال الخيرية في الشريعة الإسلامية، ومن أهم الأعمال التي يكسب بها المسلم الأجر والثواب، لذا فقد حرص الميسورون والملوك والعلماء والأمراء ورجال الدولة والأثرياء من المسلمين على بناء المساجد. فبناء المساجد فيما مضى وخصوصا في المناطق التي لا يقع فيها مساجد أو المناطق التي كان المسلمون فيها قلة قليلة يساهم في نشر الإسلام واتساع دائرته في تلك المناطق، وهذا هو ما حصل في جنوب شرق آسيا، حيث ساهم تشنغ خه في تشييد المساجد وترميمها، فكان لذلك الأثر الكبير في انتشار الإسلام وتوسّعه في جنوب شرق آسيا. ومما يذكر في هذا المجال أنه بفضل الجهود المبذولة من قبل تشنغ خه من عام 1411 إلى 1416م، استمرّ بناء المساجد في جاكرتا وسيريبون ورازم وموخيرتو وغيرها من مدن جافا، ثم إنه في أثناء زياراته لجنوب شرق آسيا تم بناء المساجد في أنتجول (أنكول في جاكرتا) وسيمبونج ولاسم وتوبان وجريسك (يورتان) وغيرها من المناطق.[6]
تأسيس تشنغ خه للمجتمعات المسلمة
تبيّن من خلال المصادر العلمية أن العرب والمسلمين الذين كانوا يمارسون التجارة عملوا على نشر الدين الإسلامي في الصين ودول جنوب شرق آسيا وذلك منذ القرن الثامن الميلادي، كما أن عددا منهم استوطنوا تلك المناطق وأسّسوا بعض المستوطنات الصغيرة، وخاصة في بعض المناطق التي يمرُّ فيها طريق الحرير البحري، ولكن رحلات تشنغ خه إلى جنوب شرق آسيا ساعدت على انتشار الإسلام هناك بصورة سريعة وبنطاق كبير.
ويبدو أن نجاح تشنغ خه في نشر الإسلام في تلك المناطق يرجع لجهوده في تأسيس المجتمعات الإسلامية. ولعل ما يؤكد ذلك أنه في الفترة بين عامي (1411-1416م) تمّ تأسيس مجتمعات المؤمنين بالحنفية الصينية في شبه جزيرة الملايو وجاوا والفلبين، وهي تلك الفترات التي زار فيها تشنغ خه لتلك المناطق. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد ما ذكره أحد المؤرخين من أن تشنغ خه أنشأ أول مجتمع مسلم صيني في كوكانج، ومن ثم في سامباس ومنطقة جافا الساحلية، ومن ثم نشر الإسلام باللغة الصينية وفق مذهب المدرسة الحنفية.[7]
ووفقا لما ذكره العالم والمؤرخ السنغافوري لي خون تشوي من أنه بحلول عام 1430م، بنى تشنغ خه أساسًا قويًّا لنشر الإسلام، وأنشأ مجتمعات إسلامية صينية في توبان وسيريبون وكوكانج وجريسك. وعلى هذا، فإن تشنغ خه قد أسس المجتمعات المسلمة الصينية في باليمبانج (سومطرة) وفيما بعد في أماكن مثل سامباس من كاليمانتان والمناطق الساحلية في جاوا، ونشر الإسلام طوعا باللغة الصينية وفق مذهب المدرسة الحنفية.[8]
دفاع تشنغ خه عن استقلال مملكة ملقا الإسلامية
إن من يرصد الوشائج بين تشنغ خه والإسلام في جنوب شرق آسيا سيجد ترابطا وثيقا بينهما، حيث إن رحلاته إلى المحيط الغربي قد قطعت طريقا بحريا يمتدُّ بين الغرب والشرق، كما أن رحلاته وسّعت الاتصالات بين جنوب شرق آسيا والإسلام، فكانت حافزا على تسارع انتشار الإسلام هناك، وفي الوقت نفسه- وبصفته مبعوثا لأسرة مينغ- دافع تشنغ خه عن استقلال مملكة ملقا لإذكاء انتشار الإسلام، وهو الأمر الذي تُوّج باستقلال مملكة ملقا الإسلامية. إن تأسيس مملكة ملقا الإسلامية بمساعدة تشنغ خه كان له الأثر الكبير في نشر الإسلام في جنوب شرق آسيا، فقد أصبحت ملقا فيما بعد مركزا تعليميًّا إسلاميًّا، وكذلك مركزا تجاريًّا إسلاميا ضخما للمناطق الجنوبية.[9]
نقل تشنغ خه للمسلمين من الأراضي الإسلامية والصين إلى جنوب شرق آسيا
يُلاحظ في الرحلات الأولى لتشنغ خه عدم وجود أي أنشطة تتعلق بالإسلام، ولكن أنشطته في هذا الجانب بدأت تظهر بوضوح في رحلته الرابعة وما بعدها، فقد قام بنقل عدد من مسلمي الدُّول العربية والإسلامية إلى ملقا وسومطرة وسورابيا في إندونيسيا وأماكن أخرى. وعلاوةً على ذلك فإن بعض الذين جاؤا إلى الصين مع رحلات تشنغ خه تجّارا أو سفراء، قد استقروا فيها، مما أدّى إلى زيادة عدد المسلمين في غرب آسيا بفضل أولئك الذين جاؤوا إلى الصين، وكذلك أدَّت عملية انتقال دفعات كثيرة من المسلمين للإقامة في الصين وغرب آسيا وآسيا الوسطى إلى التوسع في انتشار الإسلام. ومن الشواهد التي تؤكد ذلك ما أفادت به بعض الإحصائيات التي ذكرت أن أسرة مينغ قد شهدت أكثر من أربعين وفدا من البلدان العربية، فمنهم من قدم من مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومنهم من قدم من مقديشو ومصر أيضا، وقد أقام بعضهم في الصين لسنوات طويلة لم يرجعوا خلالها ولو مرة واحدة إلى بلادهم الأصلية.[10]
الأثر الإسلامي لتشنغ خه في جنوب شرق آسيا بعد رحيله
انقطعت رحلات تشنغ خه بوفاته عام 1433م، ولكن أثره بقي بعد رحيله، حيث واصل المسلمون الصينيون جهودهم في جنوب شرق آسيا لنشر الإسلام، وقد شجع هذا التجار المسلمين الصينيين في جنوب شرق آسيا للتزوج من سُكّان هذه المناطق واستيعاب السكان المحليين في الجزر وشبه جزيرة الملايو، وهو ما جذب مزيدا من الناس إلى الإسلام في جنوب شرق آسيا، فضلا عن تعزيز وتنويع المجتمع الإسلامي المتنامي.[11]
الإرث الإنساني والحضاري لرحلات تشنغ خه
ساهمت رحلات تشنغ خه في تحقيق عدد من الأبعاد الإنسانية والحضارية، من بينها ما يلي:
دور رحلات تشنغ خه في التعايش الاجتماعي
على الرغم من أن أسطول تشنغ خه كان أسطولا ضخما للقوات البحرية، لم يستخدمه في العدوان والتوسع، بل استخدمه لنشر الصداقة وتحقيق السلم، ولعب دور الوساطة لتحقيق هذه الغاية، ففي رحلاته البحرية كان يقوم بدور الوساطة بين الفُرقاء، لتخفيف حدّة الخلافات بين شعوب المنطقة، وتهدئة النزاعات والسعي نحو نشر ثقافة الاجتماع الإنساني. فرحلات تشنغ خه البحرية السبع كانت تمثل إحدى الاستراتيجيات السلمية الداعية إلى حسن الجوار، والدافعة للتبادل الثقافي والاقتصادي بين الصين ومختلف دول آسيا وإفريقيا وأوروبا.
كما عملت الرحلات على نشر حضارة الصين، وعززت النشاطات التجارية الهادفة إلى تبادل المنفعة مع كل الدول. لقد حققت الصين عبر التبادلات السلمية ترحيب شعوب كل الدول، وعززت العلاقات الودية بين أسرة مينغ ومختلف دول آسيا وإفريقيا وأوروبا، وكذلك عززت رحلات تشنغ خه رحلة الحج إلى بيت الله في مكة المكرمة، ودعمت العلاقات والتبادلات بين الصين ومختلف الدول الساحلية في آسيا وإفريقيا، وحتى اليوم ما زالت الشعوب في كثير من دول آسيا وإفريقيا تحمل الذكريات الجميلة عن رسول السلام الصيني الودود تشنغ خه.
هذا، وقد زار تشنغ خه بروة (تقع على الساحل الشرقي الإفريقي) ثلاث مرات، وفيها استقبله السكان بالترحيب، وقد عاملهم معاملة حسنة خلال الزيارة، ومن خلال تلك المعاملة الحسنة ترك فيهم أثرا عميقا، حتى أنهم أطلقوا اسمه على إحدى قراهم في وقت متأخرا تعبيرا عما كانوا يكنّونه له من الحب والتقدير، وهذه القرية المسماة “تشنغ خه” لا تزال قائمة في إحدى ضواحي مدينة بروة حتى اليوم. هذا وقد تركت الزيارتان اللتان قام بهما تشنغ خه وأسطوله إلى مقديشو في الصومال الأثر العميق بين الصين والصومال، فخلال هاتين الزيارتين حصل تقارب اجتماعي بين المقديشيين وأهل شانغهاي ممن كانوا على متن الأسطول فجرت بينهم اتصالات وعلاقات اجتماعية. هذا التقارب جعل الصوماليين يطلقون كلمة أهل شانغهاي على المنطقة الشرقية من مدينة مقديشو في وقت متأخر رغبة في تخليد ذكراهم.
وفي جزيرة بارت النائية في كينيا تتداول ألسنة سكانها حكاية حول تشنغ خه، فتذكر هذه الحكاية أن إحدى السفن من أسطول تشنغ خه ارتطمت بصخرة مخفية وغرقت بالقرب من مجموعة جزر لام، وهرب أفراد طاقمها إلى الشاطئ، وعاشوا في قرية سانقا في جنوب مجموعة الجزر، ثم تزاوجوا مع السكان المحليين وأنجبوا أبناءهم جيلا بعد جيل حتى الآن، ويسمون بأبناء سانقا حاليا، وهم يصرون على أن أسلافهم صينيون رغم عدم وجود السجلات المكتوبة والأدلة الدامغى على ذلك، ويعتبرون ذلك وصية عائلية متوارثة جيلا بعد جيل[12].
دور رحلات تشنغ خه في التلاقح الثقافي
لعلّ النتاج الأكبر الذي خلّفته رحلات تشنغ خه يتمثل في تلاقي الثقافات والشعوب؛ حيث كان على متن الأسطول يُعلمّون ويُتعلّمون لغات وعادات وتقاليد وقيم الشعوب وكذلك علومها وفنونها، فكان التفاعل الثقافي مكسبا للحضارة الإنسانية برمتها. لقد شكلت رحلات تشنغ خه بداية اندماج الفنون والأفكار والعلوم والتكنولوجيا الشرقية والغربية بعضها ببعض، وأخذ الصينيون يعرفون العالم وثقافاته وفنونه أكثر وأكثر، فساعد هذا على أن تحرز الصين منجزات عظيمة في الفن والثقافة والأفكار والأدب وعلم الفلك والرياضيات والزراعة والطب وعلم الجغرافيا وغيرها من العلوم والتقنيات، وأصبحت الخزفيات الزرقاء والبيضاء ومباخر شيوان ده- وهو لقب الإمبراطور تشانغ جي- (1426-1435م) وغيرها من منتجات الحرف اليدوية المختلفة أشغالا فنية ذات قيمة في العالم يتهافتون ويتنافسون على اقتنائها[13].
رحلات تشنغ خه ودورها الاقتصادي
أدّى الزحف المغولي ضد الشرق والاستيلاء على الصين إلى ركود العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والعديد من الأقطار، وبقيت الأمور على ما هي عليه حتى قيام أسرة مينغ في عام 1368م والتي استطاعت أن تعيد للصين مجدها التجاري والسياسي، فتمتعت الصين في ظل حكمها بثلاثة قرون من الرخاء والازدهار. وبعد أن أسس الإمبراطور تشو يوان أسرة مينغ الحاكمة، اتخذ سلسلة من التدابير لإنعاش الإنتاج، فتمكن بذلك من استعادة اقتصادها الإقطاعي إلى سابق قوته بسرعة. كما كانت حكومة أسرة مينغ تنتهج سياسة التجارة المصاحبة مع الدول الخارجية، وذلك من خلال تقديم الهدايا تحت شعار دفع الجزية أو دفع مقابل الحماية، وهذه السياسة المصاحبة رافقتها سياسة الترفق المتمثلة في التقارب والتودد مع الأمراء والملوك. وكذلك كان التبادل التجاري مع الدول قائما على العلاقة المباشرة مع الدولة الصينية، ومنع السكان الصينيين من الخروج إلى البحر للتعامل التجاري مع الأجانب، وقد أعلنت هذه السياسة في مطلع عصر أسرة مينغ.
كما لعبت رحلات تشنغ خه دورا في إنعاش الاقتصاد الصيني، إذ قدمت الواردات من الرحلات كميات كبيرة من السلع الاقتصادية التي غذت الصناعات الصينية، فمن الأمثلة على ذلك تلك الكميات الكبيرة التي تم استيرادها من أكسيد الكوبالت الذي يدخل في صناعة الخزف، والذي تم استيراده من غرب آسيا، ولذا فإن مركز الخزف في جينغدتشن كانت لديه إمدادات وفيرة تكفيه لعقود بعد الرحلات، كما أن الأسطول كان يعود أيضا بكميات هائلة من الفلفل الأسود الذي كان يعد بضاعة مكلفة في السابق ينحصر استهلاكها على بعض فئات المجتمع، ولكن بفضل رحلات الأسطول أصبحت سلعة شائعة في المجتمع الصيني. هذا، وبفضل الجهود الكبيرة لرحلات تشنغ خه، انتعش الاقتصاد وازدهر لمدة استمرت لأكثر من 28 عاما، حيث شهدت الحرف اليدوية تقدما كبيرا، وارتفع مستوى العديد من الصناعات على غرار التعدين، والصهر، والغزل، والنسيج، وصنع الفخاريات، ولقيت المنسوجات الحريرية والخزفيات الصينية ترحيبا ورواج ا من قبل الشعوب المختلفة، وكسبت سمعة جيدة، فازدادت الحاجة إليها ازديادا مطردا. كما أثرت رحلات تشنغ خه على التجارة في عدد من المجالات، وذلك من خلال تأمين الشبكات التجارية الدولية والمحلية[14].
دور رحلات تشنغ خه في ظهور الموانئ العملاقة
لقد نتج عن رحلات تشنغ خه اكتشاف البحار وتخطيطها وتحديد خطوط ملاحية جديدة، ما أدّى إلى توسع النشاط التجاري في العالم وازدهاره، وقد رافق هذا التوسع ظهور موانئ جديدة على خطوط التجارة. فعندما نتتبع رحلات تشنغ خه وتركيزه على بعض المناطق التجارية، يظهر لنا بوضوح ما يمتلكه من رؤية اقتصادية، كما يتضح لنا ذلك من خلال اهتمامه بملقا ومضيقها، فقد اهتم تشنغ خه اهتماما خاصا بملقا، فنجده يخبر الإمبراطور يونغلي بأن أحوال ملقا جيدة، وأنها تتمتع بالطاقة الكامنة العظيمة في التجارة، وتمتلك الموانئ المتفوقة رغم أنها أصغر الدول وأضعفها، كما أكد أن لها ميناء مهما للتجارة الوسيطة في جنوب آسيا، وهذا كله يؤكد أن تشنغ خه كان يتمتع برؤية اقتصادية ثاقبة، فقد أصاب عين الحقيقة حين رأى في ملقا قناة رئيسة تربط البحر الجنوبي الصيني بالمحيط الهندي، ولذا وضع تشنغ خه مشروعه هذا موضع التنفيذ. ومن أجل تسهيل سير الأسطول والاتصالات بين أسرة مينغ ومختلف دول المحيط، طلب من سلطان ملقا بناء الميناء ومحطات التموين في أرجاء الميناء، فوافق السلطان على طلبه[15].
دور رحلات تشنغ خه في ظهور المراكز التجارية
لقد ساهمت رحلات تشنغ خه في ظهور مراكز تجارية في العديد من المناطق التي وصل إليها الأسطول، فقد كانت سومطرة مركزا تجاريًّا مهمًّا ولكنها كانت تعاني من اضطرابات داخلية، لذا فقد استخدم تشنغ خه العلاقات الشخصية في الشؤون الخارجية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي من خلال توطيد السلطة الحقيقية فيها، حيث قدّم يد العون لأمير سومطرة لطرد من يريد اغتصاب العرش منه، وساعده على الحفاظ على عرشه، إضافةً إلى ذلك فقد بذل أقصى جهوده في مؤازرة مؤسس ملقا السلطان باريميسوار، مما جعل ملقا مركزا على الطريق التجاري الرابط بين الشرق والغرب. كما استطاع أسطول تشنغ خه أن ينعش التجارة في شيلانشان (جزيرة سيريلانكا اليوم)، حيث جعل منها مركزا مشهورا للتجمع والتوزيع التجاري، ومحطة ترحيل ملاحية في القرن الخامس عشر. أما كاليكوت فلم تكن تحظى بالمكانة التجارية الكبيرة على الرغم من موقعها التجاري المهم على خطوط التجارة، ولكن بفضل زيارات تشنغ خه إليها ومكوثه فيها حدود السنة، أصبحت كاليكوت دولة تجارية كبرى. ففي أثناء فترة رحلات تشنغ خه عمل على تنشيط حركة التجارة فيها حتى أصبحت مركزا تجاريًّا هاما بالمنطقة[16].
دور رحلات تشنغ خه في النهوض الاقتصادي لبعض البلدان
مما لا شك فيه أن الدول التي زارها تشنغ خه خلال رحلاته لم تكن على وتيرة واحدة من حيث التقدم الاقتصادي، كما أنها لم تكن على مستوى واحد من الأهمية الاستراتيجية، لذا فقد كان يتعامل مع كل بلد وفق ظروفه وقدراته وإمكانياته. وإذا كان موقع ملقا يؤهلها كي تصبح مركزا تجاريا، وهو الأمر الذي عمل تشنغ خه على تدعيمه، فإن موقع مملكة تشامبا ذات الأرض الخصبة، والأمطار الوفيرة، يساعدها على حصد الأرز ثلاث مرات في العام بدلا من مرة واحدة، ومن أجل هذا الغرض عمل على تعليمهم طرق الزراعة، كما وفّر كل الإمكانيات للمزارعين بما يضمن لهم تحقيق ذلك[17].
دور رحلات تشنغ خه في المجال الزراعي والحيواني
إن المجال الزراعي قد نال حظه من رحلات تشنغ خه، حيث ساهمت في انتقال بعض المزروعات من بلد إلى آخر، كما انتقلت الخبرة الزراعية بين البلدان التي زارها الأسطول فصارت مشاعا بينهم. فمن الأمثلة في دور رحلاته في الزراعة مملكة تشامبا الواقعة في منطقة شبه استوائية حيث الأراضي فيها خصبة والأمطار وفيرة، وقد كانت مناسبة لزراعة الأرز، ولكن المزارعين هناك قاموا بزراعة الأرز الذي يُحصد مرة واحدة في العام، ولذا فقد أرسل تشنغ خه موظفين لتعليم المزارعين ولتحسين أساليب الزراعة لديهم، وكذلك نجح في محاولة زراعة الأرز أكثر من مرة، حيث رفع حصد الأرز إلى ثلاث مرات في العام، كما تم تعليمهم حفر الآبار وأخذ المياه للري، وبناء حقول مدرجة على طول سفح الجبل، وتبرع لهم بالمحاريث الصينية وعلّمهم أساليب استخدامها، ومنذ ذلك الحين، تشتهر تشامبا بإنتاج الأرز. أما بخصوص الثروة الحيوانية، فقد ساعدت رحلات تشنغ خه على ازدياد الثروة الحيوانية، وذلك من خلال نقل الأسطول لعدد من الحيوانات من مناطقها إلى مناطق أخرى لم تعرفها كي تقوم بتربيتها، ومن الأمثلة على ذلك أنه في أثناء زيارة تشنغ خه للساحل الإفريقي الشرقي جلب العديد من الحيوانات النادرة إلى الصين[18].
خاتمة
في الختام، توصل المقال إلى أن الدكتور علي بن غانم الهاجري، استطاع من خلال هذا الكتاب القيّم أن يتحفنا بمعلومات قيمة حول التأثيرات الحضارية لرحلات تشنغ خه، بما في ذلك دور رحلاته في نشر الإسلام بجنوب شرق آسيا وأنشطته المرتبطة بالإسلام، وكذلك دوره في التعايش الاجتماعي والتلاقح الثقافي والنهوض الاقتصادي والزراعي. لا شك أن هذا الكتاب- يما يحتويه من الكنوز المعرفية والثقافية ومنهجيته العلمية الدقيقة ولغته البسيطة- لا غنى عنه لدى المهتمين بعلم الصينيات والدراسات الشرقية عموما، والمثقفين والقراء العاديين على وجه الخصوص، ولا سيما في الساحة الثقافية العربية.
تنزيل PDF