جاء فى معجم مقاييس اللغة أن الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشىء والعلم به. والفقه هو الفهم، يقال: فَقِهَ الرجل فِقْهًا أى فهم. وأَفْقَهْتُهُ الشىء، أى أفهمته وعلمته. وفَقِهْتَ معنى الشىء، أى علمته. قال تعالى ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ {الآية78–النساء}.
والفقه فى الاصطلاح يراد به أحد معنيين. المعنى الأول: مجموعة الأحكام والمسائل الشرعية العملية المستمدة من الأدلة التفصيلية. والمعنى الثانى: حفظ طائفة من الأحكام الشرعية العملية الواردة فى الكتاب أو السنة، أو وقع الإجماع عليها، أو استنبطت بطريق القياس المعتبر شرعًا، أو بأى دليل آخر يرجع إلى هذه الأدلة، سواءً أحفظت هذه الأحكام بأدلتها أم بدونها.
أطوار الفقه الإسلامي
– الطور الأول: وفيه كان لفظ الفقه مرادف للفظ الشرع، فهو معرفة كل ما جاء عن الله سبحانه وتعالى، سواء ما يتصل بالعقيدة أو الأخلاق أو أفعال الجوارح، ومن ذلك المعنى ما عرّفه به الإمام أبو حنيفة -رضى الله عنه- بأنه “هو معرفة النفس ما لها وما عليها”، ولهذا سمى كتابه فى العقائد (الفقه الأكبر). وأيضًا ما نقله أبو البقاء فى قواعده عن الإمام الرازى إذ قال: الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها.
– الطور الثانى: وفيه دخل بعض التخصيص، فاستبعد علم العقائد، وصار علمًا مستقلاً سمى بعلم التوحيد أو علم الكلام أو علم العقائد، وصار الفقه فى هذا الطور يقتصر على العلم بالأحكام الفرعية الشرعية المستمدة من الأدلة التفصيلية، والمراد بالفرعية ما سوى الأصلية التى هى العقائد، لأنها هى أصل الشريعة، وهذا التعريف يتناول الأحكام الشرعية العملية التى تتصل بأفعال الجوارح، كما يتناول الأحكام الشرعية الفرعية التى تتصل بأعمال القلب كحرمة الرياء والكبر والحسد، وكوجوب كافة أعمال البر والخير، إلى غير ذلك من الأحكام التى تتصل بالأخلاق.
– الطور الثالث: وهو الذى استقر عليه رأى العلماء إلى يومنا هذا، من أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية العملية المستمدة من الأدلة التفصيلية. وفى هذا الطور أُفرد للأحكام الشرعية الفرعية المتصلة بأعمال القلب علم خاص عرف باسم علم التصوف أو الأخلاق.
ومما سبق يتبين أن مصطلحات (الفقه والشريعة والدين) كانت مصطلحات مترادفة، ومع تطور مدلول هذه المصطلحات، صار مدلول الفقه، فيما استقر عليه علماء العصر، أخص من مدلول الشريعة، ذلك أن الشريعة تعنى ما سنه الله لعباده من أحكام عقائدية أو عملية أو خُلقية، أما الفقه فصار يقتصر فقط على الأحكام العملية، سواءً كانت تخص العبادات أو المعاملات من جملة الأحكام التى تضمها الشريعة والتى شملت المعاملات والعقائد والأخلاق.
وفرق آخر بين مفهومى الشريعة والفقه، وهو أن أحكام الشريعة عبارة عن وحي منزل من السماء، فالحكم الشرعى يعرّف بأنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. وخطاب الله تعالى لا يرد إلا فى كتابه بحسب الأصل أو فى سنة نبيه ﷺ. أما الحكم الفقهى فهو حكم اجتهادى، سواءً أصاب الحق أم أخطأ، صادر عن فقيه، فهو فى الأساس عمل بشرى تزول عنه وصف القداسة والثبات المطلق.
فالأحكام التى لم ترد لا فى الكتاب ولا فى السنة نطقًا ولا عملاً، وكانت مما استنبطه المجتهدون من معاني تلك الأحكام، ولم يُجمع عليها من أهل الإجماع، فليست إلا أفهامًا وآراءً لأربابها، ولا تسمى فى الحقيقة شرعًا ولا شريعة. وما نسبت إلى الشرع وسميت أحكامًا شرعية فى تعريف الفقه وفى غيره من المواطن إلا لأنها مستنبطة من الشرع، لا لأنها منه. فإذا ما تمت الموازنة بين مفهوم الشرع أو الشريعة، ومفهوم الفقه بالمعنى الاسمى فى اصطلاح الفقهاء، وجدناهما يجتمعان فى الأحكام التى وردت بالكتاب والسنة، وينفرد الشرع أو الشريعة فى أحكام العقائد وما إليها مما ليس فقهًا، وينفرد الفقه فى الأحكام الاجتهادية وما يلتحق بها.
فالشريعة هي “نصوص الكتاب والسنّة”. والفقه هو العلم بالأحكام العملية المجمع عليها والمختلف فيها التى استنبطها المجتهدون من الأدلة الشرعية التفصيلية، وبناءً على هذا فإن الشريعة غير الفقه.
ويرى بعض الباحثين أن الحكم الفقهى والحكم الشرعى يتطابقان متى تحقق حكم الفقه بدليل شرعى قطعى. إلا أن هذا القول ليس مسلمًا به على إطلاقه، لأن حكم الفقه متى تحقق بدليل شرعى قطعى لا ظن فيه، فإنه يزول عنه وصف الحكم الفقهى باعتباره اجتهادًا ويصير حكمًا شرعيًا باعتباره خطاب من الله تعالى، ولا يعدو أن يكون الحكم الفقهى فى هذه الحالة مجرد ترديد لحكم الشرع بغير اجتهاد أو إعمال رأى، كأن نقول أمر الله بالصلاة والزكاة، فهذا مجرد ترديد لقوله تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ {الآية43–البقرة}. أما ما يتعلق بالصلاة والزكاة من أركان وشروط وكيفية أداء، فبيان ذلك كله من أعمال الفقه.
وأهم ما يختص به الفقه، أنه أولاً محض عمل بشرى، فليس الفقه خطاب الله للبشر، وإنما هو ما فهمه البشر من خطاب الله لهم الوارد فى القرآن الكريم. وأحكام الفقه ثانيًا أحكام نسبية من جهة المكان ومن جهة الزمان، فمما لا شك فيه أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها مما يسود فى مجتمع معين وفى فترة زمنية معينة يكون له عظيم الأثر فيما يصدره الفقهاء من آراء وأحكام.
يترتب على ذلك أن أحكام الفقه ليست كأحكام الشرع الواردة فى كتاب الله، فلئن كانت الأخيرة ثابتة لا تتغير بتغير عوامل الزمان والمكان، فإن أحكام الفقه دائمة التغير والتطور، وتحتاج إلى تحقيق وتنقيح مستمر، ولا يصح التسليم بها أبدًا.